أيها العرب هل نسيتم أهلكم في الأحواز
منذ الخامس عشر من الشهر الجاري وحتى اليوم تشهد الأحواز العربية في إيران احتجاجات غاضبة، نظمها الشباب العربي في هذه المدينة السليبة. كان شعار «أنا عطشان» لافتة كبرى رفعها أبناء الأحواز بوجه النظام الإيراني، بعد أن ضرب الجفاف المدينة، حتى بات ماء الشرب عملة نادرة، واندثرت الزراعة فيها وهلكت المواشي وكلاهما المصدر الرئيسي لمعيشة السكان.
لكن جوهر الشعار لا يقتصر على الماء وحده، بل هو إعلان عن العطش للحرية والكرامة وحقوق الإنسان، فحين يحل البؤس والظلم والإقصاء والتهميش على شعب من الشعوب، تصبح حتى الظواهر المناخية فرصة للتعبير عن الشعور السائد في أعماق النفوس، ومناسبة لإظهار الكتلة الحرجة من الغضب أمام أعين السلطات الحاكمة. وقد رصدت منظمات حقوقية عديدة سقوط ضحايا وجرحى في التظاهرات، بعد الاستخدام المفرط للقوة من قبل أجهزة الأمن، أثناء تصديهم للمواطنين المحتجين، كما تم حجب الإنترنت عن الهواتف النقالة، في حين أعطى المرشد الأعلى والرئيس حسن روحاني الحق لأبناء المدينة في الاحتجاج، حسب تصريحاتهم العلنية. فكيف يمكن فهم هذا التعاطي السياسي المنافق مع الحالة؟
تعوم الأحواز على بحيرة من النفط يشكل 80% من احتياطيات إيران النفطية. كما يشكل الغاز فيها نسبة 60% من الاحتياطي الإجمالي للبلاد، لكن السكان فيها يعانون من فقر مدقع حتى وصل معدل البطالة نسبة 50%. كما تفشت الأمراض بين السكان بسبب التلوث، حيث صنفت منظمة الصحة العالمية المدينة في تقريرها الصادر في عام 2011 على أنها البقعة الأكثر تلوثا في العالم. ولأن المدينة فيها أغلبية عربية، فقد عانت كذلك من التهميش والتمييز العرقي على يد النظام الحالي والسابق، حتى من غير المسموح هناك استخدام اللغة العربية، وأن أسماء الأشخاص يجب أن تُفرّس، بعد إضافة لاحقة فارسية للاسم العربي. كما جرت محاولات عديدة لتغيير الطبيعة الديمغرافية للمدينة، ودفع الناس للهجرة منها، من خلال استخدام سياسة مائية كارثية، تقوم على مناقلة المياه من هذه المدينة إلى بقية الأقاليم. فقد تم إنشاء مشروع لنقل المياه منها إلى أصفهان ويزد وكرمان، من دون النظر إلى التبعات السلبية التي ستحل بالمدينة. وفي كل مرة يخرج الناس للتظاهر ضد هذه السياسة، تكون الاستجابة الحكومية مجرد إجراءات رمزية ووقتية، في حين يُطلق العنان للعنف الحكومي كي يأخذ مداه كاملا في سحق المحتجين، كما حصل في عام 2019. فهل يمكن القول إن الاحتجاجات الشعبية الحالية في الأحواز هي مجرد مطالب خدمية؟
محافظة الأحواز امتداد للجنوب العراقي وساحل كبير على الخليج العربي، ما يعزز الانتماء العروبي لأهلها
إن نشوء الدولة في الأحواز كان قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة، حيث كانت إمارة مستقلة يحكمها الشيخ خزعل الكعبي، الذي كان أحد المرشحين لتولي عرش العراق بعد الاستقلال. هذا الوضع الكياني المادي والمعنوي والتاريخي للأحواز يدفع العرب فيها للشعور بالتعسف، على اعتبار أنهم كانوا دولة قائمة بذاتها وحضارة معروفة ابتلعتها الدولة الإيرانية الحديثة. كما أن العامل الجغرافي ذو أثر كبير في أذكاء هذا الشعور أيضا، فهذه المحافظة امتداد للجنوب العراقي وساحل كبير على الخليج العربي، ما يعزز الانتماء العروبي لأهلها. أما في الجانب الاجتماعي فهنالك امتداد ثقافي بارز مع المجتمع العراقي، تمثله اللهجة المحلية والعادات والتقاليد التي فرضها الواقع القبلي والعشائري الواحد في جنوب العراق والأحواز، لذلك ما نراه من احتجاجات بين الحين والآخر في هذه المحافظة العربية، إنما هو عملية تراكمية مركبة، وتدافع وصراع من أجل الحصول على الحاجات الحياتية الأساسية، وكذلك من أجل تأكيد الهوية القومية. لأن سياسات الأنظمة المتتابعة في إيران كلها مارست عمليات تغييب واسعة ومبرمجة للهوية العربية، وكذلك للهويات القومية الأخرى أيضا.. لكن وقع هذا السلوك يبدو أنه أكثر تأثيرا في العرب من غيرهم في إيران، بسبب الأبعاد التاريخية للصراع العربي الفارسي، وبهذا تشكلت في الذات العربية عوامل طاردة للاندماج مع الوضع القائم في الأحواز كمحافظة تابعة لإيران.
إن التتابع الزمني للاحتجاجات في زمن الشاه وما بعده في زمن النظام الحالي، يشير الى أن السلوك السلطوي ضد هذه القومية هو نفسه، وفي الوقت عينه يؤشر إلى أن الهدف من الاحتجاج، لم يكن مرتبطا بحاجات خدمية يومية يسعى الناس للحصول عليها فقط، بل هو أعمق من ذلك بكثير، هي احتجاجات قومية تستغل الظروف الحياتية كرافعة لها، وقد ظن الأحوازيون أن تهميشهم وإقصاءهم كان مرتبطا بنظام الشاه وسياساته العنصرية، لذلك كان لهم دور بارز في الثورة الإيرانية في عام 1979، لكنهم اكتشفوا أن سياسة الشاه ضد القوميات هي نفسها السياسة التي انتهجها النظام الذي أرسى دعائمه الخميني، فقد استغل الأخير الأحوازيين الذين شاركوا بالثورة فأسند المناصب لهم، واستخدمهم كحجة ضد أبناء شعبهم، بأنهم ممثلون في السلطة، ولا داعي للمطالبة بحقوق أكثر من ذلك. كما أنه استعملهم كأداة لقمع الأصوات العربية التي تنادي وتُطالب بالحقوق القومية. في حين استمرت سياسة التجويع والإفقار بهدف تغليب الهم الشخصي على الهم القومي. وكلما تصاعدت الاحتجاجات وباتت تشكل خطورة على النظام السياسي، تتحرك الماكنة الحكومية لتحسين بعض الظروف الحياتية الخدمية بمعالجات آنية مؤقتة، الهدف منها تشكيل ورقة ضغط عليهم، على اعتبار أن الحكومة أنجزت لهم شيئا، وهذا الإنجاز ثمنه الكف عن المطالبة بالحقوق القومية. كما أن السلطات الحاكمة استخدمت العامل المذهبي لخنق الحقوق القومية ضد أبناء هذه المدينة، فقد استثمرت سياسيا في المذهب الجعفري الذي عليه غالبية أبناء المدينة من العرب، وحاولت سحب الهوية القومية من خلال التأكيد على أن التقليد للإمام يُبطل التمسك بهذه.
إن الظروف الذاتية والموضوعية الحالية التي يمر بها النظام الإيراني، والمتمثلة بإحجام عدد كبير من الناس عن التصويت الأخير على المرشح الرئاسي، ووصول رئيس جديد تاريخه سيئ جدا في مجال حقوق الإنسان، وكذلك صعوبة المفاوضات في الملف النووي، والتدهور الاقتصادي في ظل استمرار العقوبات الأمريكية، كلها تربة خصبة وإيجابية تزيد من اندفاعة الاحتجاجات وانتشارها ووصولها إلى مدن أخرى، وهو ما نراه اليوم حيث تمددت الرقعة الجغرافية للاحتجاجات من الأحواز إلى غيرها، فهل يملك النظام الرسمي العربي رؤية واقعية لدعم أهلنا عرب الأحواز للوقوف بوجه النظام؟ هل هنالك مشروع عربي حقيقي يوجد حالة من التوازن السياسي مع المشروع الإيراني في أقطارنا العربية، ويجعل صانع القرار في طهران يعيد حساباته تجاهنا، بعد أن يرى أننا قادرون أيضا على تهديده من الداخل؟ لكن أليس واقعيا أيضا ذلك السؤال الذي يقول، وماذا قدم العرب لفلسطين وأهلها كي يقدموا للأحواز؟ يقينا إذا كان التحرك العربي لدعم أهلنا في الاحواز سيكون على غرار دعمهم للمعارضة السورية فلا خير في ذلك.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية