سعدي يوسف
شاعر الدهشة الأولى والحداثة الثانية
د. عبد الحسين شعبان*
بقيتُ مشدوداً طيلة أسابيع وأنا أتابع خبر مرض سعدي يوسف، فما أن كَتبت إقبال محمّد علي، رفيقته المُخلصة “سعدي يُصارِع المرض… هو الذي رأى كلّ شيء، فغنِّي بذكره يا بلادي”، حتّى تيقّنتُ أنّ الذئب الذي ظلَّ يترصّده سنواتٍ طويلة سيتمكّن منه، فقد دخلَ أحد المستشفيات في لندن في 4 نيسان/ إبريل 2021 مُتأثِّراً بمُضاعفات سرطان الرئة الذي ظلّ مُتكتِّماً عليه لحين، وفضَّلَ أن يُكابده وحده بكبرياءٍ وشموخ، كي لا يُقلق الأصدقاء ويشمِّت الأعداء.
ثمّ رحل في 13 حزيران/ يونيو 2021 عن عمرٍ ناهز الـ 87 عاماً، كان حافلاً بالشعر والكتابة والإبداع والتمرُّد والمنفى.
“سأرحلُ في قطارِ الفجرِ:
شَعري يموجُ، وريشُ قُـبَّـعَـتي رقيقُ
تناديني السماءُ لها بُروقٌ
ويدفعُني السبيلُ بهِ عُـــروقُ.
سأرحلُ…
إنّ مُقتـبَــلِـي الطريقُ”.
المتنفِّسُ شِعراً
لم يكُن سعدي يوسف المولود في “أبو الخصيب” – مُحافظة البصرة في العام 1934 شاعراً فحسب، بل إنّه حالةُ شعر، فلم يكُن يكتب الشعر، بل كان يتنفّسه. والشعر بالنسبة إليه هو الحياة بسليقتها وتلقائيّتها، على حدّ تعبير الشاعر الكبير محمود درويش، مثلما الحياة هي الشعر، وخصوصاً حين يندغم ما هو خاصّ بما هو عامّ، وتتشابك الذّات بالموضوع.
يُعدّ سعدي من أبرز شعراء الحداثة الشعريّة الثانية مع أدونيس ومحمود درويش، إذا اعتبرنا أنّ الحداثةَ الشعريّة الأولى ممثَّلة بنازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهّاب البيّاتي وبلند الحيدري، وقد واصَلَ ولوجَ طريق الحداثة مُنتقِّلاً من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، مازِجاً الغنائيّة بالسرديّة على نحوٍ غير متكلّف في إطار بلاغة جديدة شكلاً ومضموناً، مُتّخِذاً أشكالاً جديدة وجوهراً جديداً، ربّما غير مألوف في إطار مِعمارٍ فنيّ دقيق.
وبحسب ما يقول سعدي نفسه: الشعر ساحة مفتوحة وكلّ تجريب فيها مُمكن مثلما كلّ الأشكال مُمكنة ولا وجود لشكلٍ فريد، بل إنّ الأشكال تتعدَّد في القصيدة، وتلك ميزة غنىً واكتناز. وهكذا ترى قصيدته مكتظّة بالصور إلى درجة أنّه يتداخل، هو ونصّه، أحياناً في لقاءٍ حميم وحوارٍ مُتّصل مع الروح، حيث تمكَّن من تقريب اليوميّ والمألوف والعاديّ والإنسانيّ إلى قيَمٍ شعريّة مُثيرة وأليفة، وبقدر زهد اللّغة وبساطتها، لكنّها في الوقت عَينه تحتاج إلى وعيٍ لفَهمِ طبيعة العلاقة بين اليومي والتاريخي والعابر والخالد والحاضر والمُستقبل.
لعلّ قصيدة سعدي يوسف تُلامس الحياتيّ، المَعيش، المَنظور، المَلموس والحسّيّ، الفيورباخيّ إذا جاز التعبير، وهي بقدر فردانيّتها، فإنّها عامّة أيضاً، حيث القيَم الجماليّة. ويُحاوِل سعدي إشراك المتلقّي في قصيدته، بما هو آنيّ ومُباشر ومحسوس، وهكذا ترى مفرداته تتعلّق بحياتنا.
منذ أن قرأتُ مجموعته الشعريّة “الأخضر بن يوسف”، لم أُشفَ من قصيدة سعدي، فقد شعرتُ أنّه يكتب باسمنا أو باسم كلّ واحدٍ منّا أو حتّى من دون أن يسألنا، فهو يُمثِّلنا ويُعبِّر عنّا، وهكذا انفتَحتْ ذائقتي الشعريّة على نحوٍ جديد من الشعر.
بقيتُ مُغرَماً ومُندهشاً بنصّه الباذخ، لأنّني شعرتُ أنّني أمام شاعر من نَوعٍ مُختلف، وكنتُ كلّما أقرأ قصيدةً جديدةً له، ازدادُ قناعةً بأنّه يُخاطبني أنا بالذات، ويُلامس فردانيّتي، حيث كان يتحدّث بلغةٍ مُختلفة خارج الإيقاع المُفخّم.
“يبلّل ماؤه طعم الوسادة في ليالي النوء والحسرة
ويأتي مثل رائحة الطحالب، أخضر الخطوات،
يمسح كفّي اليمنى
بغصن الرازقي:
– أفق…
أنا النهر…
ألست تحبّني؟ أو لمْ تُرِدْ أن تبلغ البصرة؟
بأجنحة الوسادة؟
أيّها النهر
أفقتُ…أفقتُ
فوق وسادتي قطرة
لها طعم الطحالب
إنّها البصرة”.
وإذا كانت قصيدة السيّاب ملحميّة ذات إيقاعٍ قويّ ومُطرَّزة بالأسطورة واللّغة المُفخَّمة، فإنّ قصيدة سعدي يوسف مباشرة وآنيّة ومعيشة، بما فيها من رشاقةٍ وأناقةٍ وجمال، وبما فيها من إدهاشٍ وعفويّة. وبقدر ما يكون نصّه مدهشاً، فإنّ الدهشة الأولى كانت شخصه، وهي تبقى مُلازِمة لك، حتّى بعد عقودٍ من الصداقة، وغالباً ما كان سعدي يُفاجِئنا بنصٍّ جديد ولغةٍ جديدة وسلوكٍ جديد.
حين قرأتُ الأخضر بن يوسف حدستُ مَن يكون؟ إنّه سعدي نفسه، الذي عاش في الجزائر، في بيتٍ جزائريّ، مُبتدِعاً اسم الأخضر، وهو اسم شائع في الجزائر، والخضرة كما قال لي هي دليل الحياة والجمال، وهو ما استوحاه من مُحيطه، أمّا ابن يوسف فليس سوى سعدي بذاته.
يقول عن تجربته الجزائريّة إنّها أَعطته فسحةً للتأمُّل، فبعدما اعتُقل وعُذِّب إثر انقلاب شباط/ فبراير عام 1963، تَرك البلاد بعد إطلاق سراحه، وكانت وجهته الأولى بيروت -كما هو حال أغلب المَنفيّين العرب-، الغزالة الخضراء التي تُسابق الزمن نحو الضوء، ومنها ارتحل إلى الجزائر في العام 1964، واستمرّ فيها لغاية العام 1971. وفائدة المنفى الأخرى أنّه بَدأ إطلالةً جديدة، حيث قرَّر امتلاكَ ناصيّة اللّغة الفرنسيّة بعد الإنكليزيّة، فضلاً عن اللّغة الأمّ “العربيّة”. وقد تآلف سعدي في المنافي التي زادت على ثلثَيْ عمره الإبداعيّ، بل أَصبح المنفى جزءًا عضويّاً من حياته ولغته ومَجالاً رحباً للتعرُّف إلى الذات والآخر، أُمماً وشعوباً وأصدقاءً ولغاتٍ وعاداتٍ وثقافات.
وكنت قد سألته في مُسامَرةٍ شاميّة، وأخرى قبرصيّة، عن مَصادره الروحيّة، وبمَن تأثَّر في مشواره الأوّل، وقد كرَّر أكثر من مرّة أنّ أُستاذه الأوّل هو بدر شاكر السيّاب، وقال في إحدى المرّات لو عاشَ بدر، لكان الشعرُ قد تغيّر. وأثنى عليه كيف حوَّلَ قريته جيكور إلى عمارةٍ مُقدَّسة أقرب إلى كاتدرائيّة أو جامع مهيب، وأشار إلى أنّه تعلَّم من السيّاب: الوفاء للبيئة وبشكلٍ خاصّ للطبيعة، بما فيها من بَشَرٍ وشَجَرٍ وحَجَر.
وفي حوارٍ مُتلفَزٍ مع الإعلامي والكاتب السعودي محمّد رضا نصر الله، قال: الأسئلة التي قدَّمها بدر شاكر السيّاب ما تزال قائمة، وكنتُ قد استطلعتُ رأيه، أيقصد: الحريّة والمُساواة والجمال؟ أضاف والعدل. وقد حاولَ السيّابُ الإجابةَ عنها بطريقته الخاصّة، لكنّ هذه الأسئلة أخذت تتوالد، وللأسف، فإنّ الرحيل المُبكر للسيّاب قطع المرحلة الأولى، إلّا أنّ الأسئلة التي تركها لنا، وسيبقى بعضها لِما بعدنا، حاولنا ونحاول الإجابة عنها بطريقتنا الخاصّة أيضاً.
عن بيئة أبو الخصيب والبصرة عموماً، وهي ذاتها بيئة السيّاب، جيكور والبصرة، يقول سعدي إنّها غاباتُ النخيل وشمس القرى، وهو ما اكتنزه، حيث الجداول والنُهيرات والفضاء الشاسع والدهشة الأولى، ويضيف: لقد كانت الحياة الثقافيّة في البصرة، بما فيها أطرافها أبو الخصيب وجيكور، بيئة نشطة وحيويّة وحسّاسة، وهي بيئة مفتوحة تتقبّل الجديد مثلما تتقبّل الاجتهاد والحداثة وحركة التيّارات الاجتماعيّة الراديكاليّة.
وأظنّها كانت بيئة مُلائمة للتفاعُل مع الآخر، وهي متواصلة مع بيئة البصرة تاريخيّاً التي شهدت حركاتِ احتجاجٍ واسعة في التاريخ الإسلامي، فهي مُلتقى المواصلات الإقليميّة والدوليّة، حيث طريقها سالك إلى الجزيرة العربيّة، ناهيك بعلاقتها بالبحر، فهي طريق الهند والصين وجنوب آسيا، فضلاً عن شرق أفريقيا والسواحل الجنوبيّة للجزيرة، مثلما هي السواحل الإيرانيّة القريبة.
وينحت سعدي مصطلح “تنافذ الثقافات” على هذه العلاقات المُتشابكة، والمقصود بذلك تواصلها وتفاعلها وتداخلها.
تأثَّر سعدي بعددٍ من الشعراء المصريّين واللّبنانيّين في بداية مشواره الشعري الرومانسي، منهم: علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وتأثّر بإلياس أبو شبكة وصلاح الأسير، لكنّ القصيدة بَدأت تكتمل على يدَيه، وتأخذ شكلها الهندسيّ الجديد، وخصوصاً الانشغال بالتفاصيل منذ مطلع الستّينيّات من القرن الماضي، حيث بدأ الكتابةَ بلغةٍ مُبتكَرة، مُستحضِراً ما هو حسيّ، مُستبطِناً جوهراً جديداً، موّلداً صوراً جماليّة جديدة، ولاسيّما بوضع يده على الحياة المعيشة، بما تملك من قيَمٍ مجازيّة مُتراكِبة ومُتشابِكة وذات دلالاتٍ رمزيّة ونَصاعةٍ شعريّة.
الشاعر الذي عاش للشعر
النافذة، والساقية، والبستان، والحانة، والعائلة، والنهر، والمرأة، والأشياء التي نعرفها ونُصادفها يوميّاً، حوَّلها سعدي يوسف إلى لحظةٍ شعريّة أثَّرت في مِخيالنا وأَعادت رسم ذاكرتنا على نحوٍ جماليّ غير مألوف من قبل. وبقدر ما كانت لغته هادئة، فإنّها كانت أيضاً متوهِّجة، سرعان ما تتوغّل إلى العقل، مُستدعيةً التفكير، راسِمةً بريشةِ فنّانٍ أصيل لوحاتٍ بألوانٍ مُختلفة، مازِجاً اللَّون باللَّون في هارموني تفرَّد في صنعه، فقد تراه يتحدّث عن يانيس ريتسوس وهو في معرض تناوله للسيّاب، وعن لوركا والمقصود إليوت.
إنّ شعر سعدي يحتاج أن يُقرأ أكثر من مرّة، ففيه تأمُّلات تحتاج إلى قراءةٍ مُتأنّية، ولاسيّما ما يحتويه من تنويعٍ وغنىً وبساطة وتفرّد. وقد حاول سعدي كسر مرآة الشعر خارج دوائر الانفعال وخارج التجديف، وكانت اللّغة شيفرته الخاصّة إلى ذلك ووسيلته، حيث عاش للشعر وحده، مُخلصاً له على نحوٍ شديد.
ولذلك ليس من العدل تناوُل سعدي باللَّوم بسبب مُقارَباته الفكريّة وخَيباته السياسيّة وخروجه عن جلده أحياناً، فلم ينجُ شاعرٌ عربي قديم أو مُعاصر، وإنْ بدرجاتٍ مُتفاوِتة، من الشطحات، بما فيها الخروج على المألوف، لكنّ الجوهر لديه، ونعنيّ به المَوقف من الاحتلال -حتّى وإنْ عبّر عنه بطريقة غير مقبولة- كان سليماً، فما قاله الشاعر تبرُّؤاً من وطنه، وأثار ضجّة حوله، هو مقلوب الصورة ومعكوس المعنى، فهو يريد عراقاً غير ما هو قائم على التقاسُم الطائفي والإثني والزبائنيّة السياسيّة والمَغانم.
وقد أَطلق على نفسه لقب “الشيوعيّ الأخير”، مثلما فَعَلَ أيّام الحرب العراقيّة-الإيرانيّة، حيث وقَّع بياناتٍ مع شخصيّاتٍ عراقيّة وعربيّة تدعو إلى رفضِ المشروع الحربي والسياسي الإيراني، والدِّفاع عن الوطن، على الرّغم من مَوقفه المُناوئ للديكتاتوريّة والاستبداد.
“يا بلاداً بين نهرَين
بلاداً بين سيفَين
أعادت هذه الأرض التي كانت لنا بيتاً ولو يوماً، ممّراً للغزاة؟
فريسةً أخرى؟ أكان عليكِ أن تجدي لكِ الرجل المريض ولو بأفدح ما وهبتِ؟
عليك يا أرضي السلام
عليك، يا أرضُ، السلام…”
وفي ديوان “صلاة الوثنيّ” الذي صدر بعد الاحتلال، يستعيد سعدي يوسف ملحميّته الشهيرة “إعلان سياحي إلى حاج عمران” 1983، حيث يقول:
“يا ليلُ، أين الصفا؟ أين انطفأ المأمول؟
أرضُ السواد انتهت للشوكِ والعاقول
كلّ الجيوش اقتضتْ منها، وحال الحول
يا حسرتي للضميرِ المُشترى المقتول!”
تَرك لنا سعدي يوسف عمارةً شعريّةً قوامها 35 مجموعة شعريّة، و10 أعمال شعريّة مُترجَمة لكِبار الشعراء العالَميّين، وترجماتٌ لـ 14 رواية عالَميّة، ورواياتٌ وقصصٌ وكتاباتٌ نقديّة زادت على 8 كُتب، فضلاً عن 6 مجموعات مُترجَمة بلغاتٍ أجنبيّة. كما هناك دراسات وأطروحات أكاديميّة عن تجربته الشعريّة.
دُفِنَ سعدي يوسف في مقبرة هاي غيت (لندن)، وقد تنّقل في المنافي العديدة: الكويت، الجزائر، دمشق، بيروت، عدن، نيقوسيا، بلغراد، باريس، عمان.. واستقرَّ في سنوات العمر الأخيرة في لندن.
*أكاديمي وأديب عراقي