الشاعر حسن عبد الحميد
ومجموعته الشعرية “حين تنكَرّ الموج … لضحكات القوارب”
مقدمة بقلم : عبد الحسين شعبان*
“نحتاج إلى الفن حتى لا تميتنا الحقيقة”
نيتشه
يُعرف الشاعر من نبرته الأولى حين يغتسل بالضوء في خيال أصيل متسلّقاً الغيمة، ملتمساً قمراً وردياً بغواية عين مدربّة على النظر خارج حدود المألوف، حيث تُعزف عند جداول الرغبة الموسيقى بأصوات مرئية ليشرئب النرجس والجمال في صهوة التشهّي والحضور.
“حين تنكرّ الموج … لضحكات القوارب” هو عنوان مجموعة شعرية لحسن عبد الحميد طلب مني أن أكتب مقدمة لها ؛ ومع أننّي أعرفه فناناً وإعلامياً وناقداً ومختصاً بعلم النفس وكاتب قصص للأطفال، إلاّ أنني فوجئت به شاعراً ، له صوته الخاص مثلما لقصيدته رائحتها المتميّزة بلغتها المتوهجة مثل موجات البحر وموسيقاه، فاللغة ليست مجرد أداة حسب مارتن هايدغر، بل إنها ما يضمن “الموجود” في إطار الوجود بما تمتلكه من دلالة وتحقّق.
وكان آخر ما كتبه حسن عبد الحميد وأثار إنتباهي قصيدة إثر حادث انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) 2020 والموسومة “آه … بيروت”، حين تفجرّت لحظتها في داخله مشاعر حادة ، بل ينابيع دفّاقة من الألم والحزن، ذلك الذي يدفن الغبطة والرجاء، ويكفّن الكرامة والفرح، هذا الذي تطاير حتى غاب مع الأشلاء والثياب.
ولأنه إنسان حساس وشاعر تدهشه أي لفتة إنسانية فقد تأثر إلى حدود كبيرة يوم جاء إلى بيروت للدراسة في جامعة اللاّعنف، وكانت دهشته تكبر ساعةً بساعة، خصوصاً حين ارتبط بعلاقة حب معطّر مع بيروت غائصاً في تلابيبها باحثاً في حقل اللؤلؤ عن الجمال والسلام والأمل،في تلك المدينة التي ما أن تدخلها حتى تشعر بنثيثها اللذيذ وريحها الخفيفة المنعشة، التي عادة ما تسبق المطر وتفوح منها رائحة زكيّة تملأ الحارات والمقاهي والأمكنة والكتب .
وبالرغم مما عانته المدينة من استلاب معتّق، لكنها ظلّت بحروفها المنيرة تتهجّى قصائد الحب وتلوذ بالعشق وهو ما يظهر على الوجوه وفي الشفاه والكؤوس وما بين السطور، باستثنائية عجيبة.
بأبعاد روحية وأثر عقلي وانفعال حسّي كتب حسن عبد الحميد قصيدته البيروتية، تلك التي كان يريد فيها أن يؤاخي بين الجرح والحلم والبحر والبرق والبحر والغابة والبحر والجبل والبحر والتاريخ، في “أحلى مدن الله / حتى أضحى بَهاء الكون سكونْ” ، وبهذا الكبرياء والخشوع في آن ، أراد أن يعبّر عن هول الحقد ” وما قدمت به نيران الشر/ وجلجلة الطاغوت في إدانة للكراهية والقسوة وأدواتهما التي حرثت أرض الفجيعة والألم، لحجب الشمس والبحر “وصباحات أغاني … فيروز ” .
ليس ذلك سوى تبشيع ساخر من القدر اللعين حسب شكسبير ومن سخرية التاريخ وفقاً لماركس “بيروت/وجع الروح…/حين تنوح…/بنايات البوح/وتخطّ على جدران العالم، لبنان…/أبقى/ لبنان أبقى/ لبنان أبقى/ لبنان حيٌ … لا يموت”.
مثلما اهتزّت بيروت كانت القصيدة ترتعش بين أصابع حسن عبد الحميد، بل إن سبابته ارتفعت بوجه الريح تخاطب السفائن المهاجرة والمهجورة التي حاولت أن تفتح أشرعتها في بحر ملغوم أتعبه ضوضاء وهموم وضباب موهوم.
وعلى الرغم من كل ما حصل فقد ظلّت بيروت التي لا يمكن إلاّ أن تُدخلك في تفاصيلها وتُشاركك في أحلامها، حين تهطل فيها السماء ورداً وعطراً، لتسقي فيه حدائق الروح وبساتين الأمل ، حيث الدروب مفتوحة إلى الشمس وأمواج البحر والحساسين الجميلة وأشجار البلوط واللوز والكستناء.
من لم يبكِ بيروت فلا قلب له ومن عاشها ولم يحبّها لا عقل له، تلك المدينة الأليفة التي تحتضن الغرباء والمثقفين والمتمردّين والصعاليك وترفع راية العز والإعتراض، التي لم تتعلّم إلاّ أن تقول “لا”، وكأن حسن عبد الحميد حين يبكي بيروت يريد أن يقتفي أثر الشاعر الإسباني الكبير لوركا الذي يقول “أنا الظل الهائل لدموعي” فبكى نفسه وبكى بيروت، البشر والشجر والحجر.
ولعلّ أغلب قصائد مجموعة حسن عبد الحميد تسير على هذا النسق من الرهان محاولة تعميد شجرة الذاكرة بماء المعرفة المتراصفة مع الوعي لتتخذ من الحدث مُرتكزاً في ترسلّه لاختراق خلجات الشاعر في قاعها وكينونتها وأفقها .
توزعت المجموعة إلى نصوص مكتوبة بين عامي 2016 ومنتصف 2020، وجاءت قصائدها مسكونة بهواجس التشبّث بالحياة أمام جائحة كورونا “كوفيد – 19” حيث داهم الفايروس الغامض والمخيف البشر في كل مكان، وقد كتب معظمها في عنكاوا (إربيل) التي يقول عنها “إنها بلدة لها سطوة الحضور” وفيها نصوص مهداة إلى زها حديد ويتداخل فيها الشعر بالنثر برؤى صوفية أحياناً من بغداد إلى بيروت ومن بيروت إلى بغداد.
… لك ترجمان الشعر
يتمايل مطراً
… حين تفصحين
عمّا خبأت لؤلؤات الشوق
من بيروت … إلى بوابة الدنيا
!!… بغداد
إن مجموعة حسن عبد الحميد “حين تنكّر الموج… لضحكات القوارب” وقصيدة “آه … بيروت” هي رسالة وفاء وحب إلى بيروت المدينة العصيّة التي ستنهض مثل طائر الفينيق من بين الرماد وحسب بابلو نيرودا “قد يقتلون الأزهار كلّها لكنهم لم يمنعوا حلول الربيع”، إنها كتابة بالروح، بل بالدم والقلب والعقل.
وقال لي بين النطق والصمت
برزخٌ فيه
قبر العقل
وفيه قبور الأشياء
حسبما يقول النِفري،ولعل حياتنا ستكون أكثر سقماً لولا الشعر، فهو النبع والرؤية والحلم.
ـــــــــــــــــــــ
*مفكر وأديب وناقد، عضو إتحاد الكتاب العرب (دمشق) وعضو إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين (بغداد) – له نحو 70 كتاباً في قضايا الفكر والقانون والسياسة والأديان والمجتمع المدني والثقافة والأدب، حائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي (القاهرة – 2003).(نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان – بيروت ) ورئيس مجلس أمناء المعهد العربي للديمقراطية (تونس) –الناشر
*وقّع الشاعر مجموعته في احتفالية افتتاح صالون 15 الذي أسستهُ الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار في بيروت (2-8-2021)