عبد الحسين شعبان لـ “عكاظ”
قال إن اليسار أخطأ في نظرته للدّين
“الصهيوني” و “الإيراني” و “التركي” .. أخطر المشاريع في المنطقة.
* يجب تحويل الميزانيات الضخمة من التسلّح إلى البحث العلمي
* جماعة الإخوان لجأت إلى العنف والإغتيالات منذ بدايات تكوينها
* الحزب الشيوعي العراقي أحيا مناسبات دينية
* الموجة الدينية عالمية ولا تخصّ المسلمين وحدهم
حاوره: علي الرباعي (الجمعة 6 أغسطس 2021)
الحوار مع المفكّر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، شيّق إلاّ أنه شاق، فالضيف موسوعي، جمع بين الأدب وبين العلم، ودرس الأديان، كونه تعلّم في النجف، وتخصّص في الإقتصاد والعلوم السياسية، ونال درجتي الماجستير والدكتوراه (مرشّح علوم) في القانون (دكتوراه فلسفة في العلوم القانونية)، ناهيكم عن ثقافته الواسعة، وعلاقاته الإنسانية الممتّدة من المحيط إلى الخليج.
وهنا محاولة مني بحكم ميانة منحني إيّاها ذات مساء، أن تقف على بعض الوقائع والأحداث، ونفتح معكم حقائب الأحزان والأفراح، ونسمع بشفافية أخطاء وخطايا اليسار وإغفال الماركسية الجانب الروحي للإنسان، وكيف كان الحزب الشيوعي العراقي يحي المناسبات الدينية، وقضايا أخرى مثيرة نسلّط عليها الضوء. وإلى نص الحوار:
- هل انتهى زمن الآيديولوجيا، وما بديله اليوم؟
– يمكن القول إذا كان القرن التاسع عشر، قرن “صراع القوميات” وإن القرن العشرين قرن “صراع الآيديولوجيات”، فإنَّ القرن الحادي والعشرين هو “صراع القيم والمصالح”، وإن أراد البعض اعتباره قرن “صراع الحضارات”، كما ذهب إلى ذلك عالم السياسة الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون.
وقد بشّر فوكوياما بـ”نهاية التاريخ” وإن على الشعوب والأمم إذا ما أرادت العبور إلى العالم المابعد تاريخي، فعليها أن تتخلّى عن قيمها ومنظومة أفكارها وأيديولوجيّاتها لكي تلتحق بالحضارة السائدة والغالبة والمنتصرة والتي أساسها منظومة القيم السياسيّة والاقتصاديّة الليبراليّة.
أما هنتنغتون فقد قال بنظرية “صدام الحضارات” و“صراع الثقافات”، ولا سيّما بعد انهيار الشيوعية الدولية، معتبراً الإسلام عدوّاً جاهزاً، وإن لم يوجد هذا “العدو” فلا بدّ من اختراعه في ضوء حتمية صراع الحضارات.
النظريّتان تلتقيان عند نقطة تسيّد الحضارة الغربية “المسيحية – اليهودية”، خصوصاً بجعل الشعوب وثقافاتها وحضاراتها العريقة العربيّة – الإسلاميّة والهنديّة والصينيّة وغيرها من الأمم والأديان والحضارات الطرفيّة أو الهامشيّة البعيدة عن “اللوغوسيّة” المركزيّة و”العقلانيّة” الغربيّة، عرضة للإكراه والإجبار، إلاّ إذا أبدت استعدادها للالتحاق بمرحلة ما بعد التاريخ وانضوت تحت الحضارة الوحيدة التي لا بدّ لها أن تسود وهي الحضارة الغربية وسلّمت بقيمها.
وإذا كانت الصراعات والنزاعات تخلق في العقول وتنطلق إلى الواقع وتتحرك عليه، فإن دستور اليونسكو يؤكد “لمّا كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب بناء حصون السلام”.
من يقول إن القرن الحادي والعشرين يمثل نهاية الآيديولوجيا، كمن يقول إن نهاية التاريخ أو موت الفلسفة والقيم الإنسانية. وهذا يعني، تمجيداً لقيم المقاولة والبزنس والسوق وهيمنة أخلاق السمسار على المفكر والباحث والمناضل، بزعم عصر العولمة والثورة الصناعيّة – التقنيّة، والطفرة الرقميّة “الديجيتيل” وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والمواصلات، حتى وإن كنّا في صميم الطور الرابع للثورة الصناعيّة والذكاء الاصطناعي، لكن يبقى للآيديولوجيا دور لا يمكن الزعم بنهايته تماماً.
لقد ضعُف مثل هذا الدور أمام تقدم القيم الإنسانيّة التي تقرّ بالإنسان كقيمة عُليا وحقوقه الأساسيّة الجماعيّة والفرديّة، بغضِّ النظر عن دينه وقوميّته وجنسيّته وجنسه ولونه ولغته وأصله الاجتماعي وانتمائه الفكري أو توجهه الآيديولوجي. وهذه القيم لا تتعارض مع المصالح العُليا لأيّ شعب أو مجموعة بشريّة، بما فيها من قواسم مشتركة ذات بُعد إنساني، وهذه تمثّل اليوم معايير جديدة لتقييم الأنظمة وسلوكها وبقدر الإقتراب أو الابتعاد عنها يمكن القول إنَّ هذا المجتمع يتمتّع بالقيم الأساسيّة، في حين أن مجتمعاً آخر يتمتع بدرجة أدنى من الأوّل، … وهكذا
ولذلك تتسابق الدول اليوم للقول إنها الأكثر إلتزاماً بهذه القيم أو إنها في الطريق إليها، لأنها تعرف أن التقويم الحقيقي ليس بامتلاك الأجهزة الألكترونية والحاسوبات وغيرها من وسائل التقدّم العلمي – التقني، وإنما التقدم والاستثمار الحقيقي بالإنسان، فالأيديولوجيا مهما تزعم أنها “إنسانيّة”، إلاّ أنها لا تعصم المرء من الوقوع بارتكابات بزعم أفضليّاتها وامتلاكها للحقيقة، سواءً كانت آيديولوجيّة يساريّة شيوعيّة أو قوميّة نازيّة أو فاشيّة أو دينيّة تكفيريّة متعصّبة ومتطرّفة.
لعلَّ القيم التي تحدَّثنا عنها هي البديل عن الصراع الآيديولوجي الذي كان سائداً، وخصوصاً في فترة الحرب الباردة والذي تحوّل إلى شكل آخر جديد ما بعد انهيار الكتلة الإشتراكية وتحلّل المنظومة السوفياتيّة، ولا سيّما بذبول الآيديولوجيا كمعيار أوّل لهذا الصراع أو معيار متقدّم، وحلول القيم الإنسانيّة والمصالح كمعيار أساسي دون اعتبار دورها قد استنفذ كليّاً.
والآيديولوجيا تبقى تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، سواء في المجتمعات المتقدمة في إطار شعبويّة جديدة ابتداءً من ظاهرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومروراً بانتصارها أو إحرازها مواقع متقدمة في العديد من البلدان مثل النمسا وتشيكيا وبولونيا والمجر وهولندا وبلجيكا وبعض الدول الإسكندنافية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإلى حدود معيّنة في بريطانيا وغيرها، مثلما يلعب الصراع الآيديولوجي في العديد من بلدان العالم الثالث ومنها منطقتنا دوراً مهماً حتى وإن اتخذ شكلاً دينيّاً أو طائفيّاً دون نسيان دور “إسرائيل” بعدوانها المتكرّر، ناهيك عن إعلانها مشروع الدولة النقيّة.
الآيديولوجيا مثل الدِّين أو بعض تأويلاته لا ترتضي ولا تقبل بشطر من الحقيقة أو جزء منها بادّعاء امتلاكها للحقيقة كاملة أو الزعم بحقها في الاستحواذ عليها والنطق باسمها، وما عداها بطلان وزيف مثلما في الفقه الديني نجد بعض الفقهاء يبرّر ذلك بالقول “من قال في الدِّين برأيه، فهو مخطىء وإن أصاب” ومثل هذا القول حجب للحقيقة التي هي ليست سوى انبثاق ولقاء وتواصل بين الفكر والواقع حسب الشاعر الكبير أدونيس في كتابه “رأس اللغة جسم الصحراء”، وهو كتاب يبحث في الهُويّة والمواطنة وجدل الفردانيّة والجماعيّة وعلاقة الإنسان بالمكان من خلال استهلال للماضي الفردي والماضي الجمعي.
2– ما منجز اليسار؛ ألا يؤسس إلى عدميّة داخل الإنسان؟
– تمكّن اليسار العالمي من إحداث شرخ في منظومة العلاقات الدولية بانتصار ثورة أكتوبر الروسيّة لعام 1917. وتعمّق هذا الشرخ بعد الحرب العالمية الثانية بنجاح دول مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا والمجر ورومانيا وبولونيا وبلغاريا وألبانيا من الالتحاق بذات التوجه الاشتراكي وتشكيل حلف وارسو العمود الفقري للكتلة الاشتراكية، وقد أدى ذلك إلى إنعاش اليسار على المستوى العالمي، بما فيه في منطقتنا.
وكان لليسار العربي دوراً إيجابيّاً في التصدي إلى بعض القضايا الجوهريّة، مثل الكفاح ضد الاستعمار وأحلافه ومعاهداته المذلّة
والدعوة إلى التحرر وإقامة أنظمة وطنيّة، كما ساهم في تأسيس النقابات والاتحادات وتعبئة الناس عبر التنظيم إلى الدفاع عن مصالحهم في العمل وضدّ البطالة والأُميّة والتخلّف ومن أجل تعليم عصري وحياة حرّة كريمة وضمانات للمستقبل.
لكن اليسار العربي مثل اليسار العالمي أخفق في الكثير من الأحيان في عدم تقدير دور الفرد والفردانيّة والخصوصيّة الإنسانيّة، ووقع في أخطاء وخطايا كبرى، خصوصاً محاولته “قولبة” النظريّة وإسقاطها على الواقع، في حين يوفّر التطبيق فرصة حيويّة لاختبار صحّة النظريّة من خلال الواقع (البراكسيس).
إنّ إدّعاء امتلاك الحقيقة يعني حجب حق الآخر في التعبير والتفكير، وحسب أدونيس فإنّ ذلك يعني “اعتقال العقل”، أي عقل الآخر، وينطلق من مصادرة حق الغير في التعبير عن “إرداويّة” سياسيّة مفروضة على الواقع ومرتبطة بالقوّة وليس بالعقل، وتصبح صورة “الغير” هي “صورة العدو”، أو الخصم، ويتحوّل الرأي الآخر إلى مشبوه أو عميل بلغة السياسة والآيديولوجيا وبلغة بعض رجال الدين (المتعصّبين) تصبح صورة “الآخر” الكافر والمُلحد والزنديق والمرتدّ.
يمكنني القول دون الخشية من الوقوع في الخطأ إنّ فهم التاريخ العربي بمعزل عن المكوّن الغيبي أو الجوهر الروحي، هو نوع حالم أو مستعار من أشكال الحداثة الغربية. وقد جرت محاولات عديدة لتقديم تفسيرات آيديولوجية للتاريخ العربي. وكان الرأي السائد لدى اليسار أن الدين يشكّل عائقاً أمام التنوير وأعتبر ذلك نوعاً من الدعاية الأيديولوجيّة ليسار مستعار من “الغير” الأوروبي في النظرة إلى الدين.
فالدِّين بحدِّ ذاته يمتلك مقوّمات حضاريّة كبيرة وهو نظام كلّي يحفظ للإنسان حقوقه وواجباته ويُقدّم صورة للأخلاقيّة الخيريّة، ولا يمكن عدّه صورة من صور التخلّف الاجتماعي أو العائق الحضاري فقد كان الدين موجوداً في جميع الحضارات في التاريخ وما قبلها.
والدِّين هو اهتمام بالمصير الإنساني، وهناك فرق بين جوهر الدين وبين العقيدة الدينية، ولذلك لا بدّ من إنارة المناطق المُعتمة عبر أنوار العقل لكي لا يقع الإنسان فريسة القوى الظلاميّة التي تستهدف استغلال ضعف البشر وحاجاتهم إلى الدين بتوظيفه بعيداً عن جوهره الإنساني وقيمه السمحاء.
لقد تمَّ إهمال دور الدِّين وهو عصب أساسي للوجود الإنساني وحاضنة له، ولم تستوعب الحركة الشيوعيّة والتيّارات الماركسيّة هذه الحقائق فظلّت تدور في إطار النظرة المتعالية والفوقيّة للتعامل مع العالم الروحي للإنسان ومع الدِّين بشكل خاص، بزعم العلمانية، كما جرت محاولات للانتقاص من الأديان والإساءة إليها. وتجارب الدول الاشتراكيّة ماثلة أمامنا فقد صودرت أراضي وأملاك الكنائس والأديرة، والأكثر من ذلك اعتبر الإلحاد شرطاً لعضويّة الحزب وفيما بعد لعضويّة الكومسمول (منظمة الشبيبة الشيوعية) ونظّمت حملات لمناهضة الدِّين لتثقيف الجماهير وتحريرهم من أوهام الدِّين والتعصب الديني (في روسيا) وحُرم رجال الدِّين بعد الثورة الأكتوبريّة من حق التصويت واعتُقل وأُعدم المئات منهم، ولكن الأمر تغيّر بعد حين وإن ظلّت الأسس باقية.
وإذا كانت تلك مرحلة سابقة، إلّا أنّه لم يتم نقدها حتى الآن، وأحياناً لا يتم التمييز بين مواقف بعض رجال الدين المتعصّبة والمتطرّفة والتفريقيّة وبين الدِّين وجوهره وقيمه الإنسانية.
والأمر يشمل الموقف من القضية القومية، فبحجّة المبادئ التي تقول بحق الأمم في تقرير مصيرها، جرى ازدراء القوميات والتجاوز على الهُويّات الفرعية والخصوصيات، وقد كان لمثل هذا الأمر تأثير سلبي كبير على مواقف الحركة الشيوعية العربية تساوقاً مع التعاليم السوفيتية، سواء في الموقف من القضية الفلسطينية منذ قرار التقسيم السيء الصيت ووصولاً إلى الموقف من الوحدة العربية. وهي مواقف كان على اليسار أن يكون المبادر فيها وليس اتخاذ موقف سلبي منها لأنها تنسجم مع تطلعاته ذات البُعد الإنساني بالتعبير عن مصالح الكادحين بشكلٍ خاص.
3 – أين تضع نفسك إثر المتغيّرات يمين اليسار أم وسطه أم يساره؟
لا هذا ولا ذلك ولا غيره. فاليسار مواقف من الحياة والكون وهي مواقف متحرّكة تتعلّق بعددٍ من العوامل. والمثقف اليساري هو تعبير عن حالة الوعي الإنساني في ظرف تاريخي محدّد وهو القطب الفاعل في العملية الإنتاجيّة الفكرية، لأنه ينتمي إلى خطاب غير تقليدي، فهو يتمثل بثقافة وطنه أولاً ومعرفة خصائص لغته وتراث أمّته، ثمَّ السؤال للبحث وطلب المعرفة للتعبير عن القيم الجمالية والإبداعية. ولعلّ الالتزام الثقافي هو غير الالتزام السياسي.
ومن تجربتي الشخصية كنت أصدُر أحكامي في نقد الثقافي للسياسي. وبالنسبة للمثقف لا تستكين روحه لموقف متكامل وسرمدي ونهائي، لأنّه في حالة قلق إنساني مستمر، والسكون ضرب من الوهم أو الوعي الزائف، لذلك علينا المراجعة والنقد مع كل معلومة جديدة ومعطيات حديثة لأنَّ الحياة متغيّرة وهي مثل نهر متدفّق لا يعرف التوقف، وحسب نيتشه إن على المرء أن يغيّر منظومة أفكاره مع تغيّر الحياة، مثلما تنزع الحيّة جلدها، فذلك سِمة من سمات التطور، وهو الأمر الذي اعتبره إنجلز ضروري بقوله: إنّ علينا تبديل استراتيجيّتنا عند أي اكتشاف حربي، وذلك لمواكبة التطور، وإذا كان الأمر يخص السياسة، فهو من باب أَولى يمسّ الثقافة بالصّميم.
واليساري الحقيقي حتى وإن استخدم أدوات مختلفة للتعبير إلّا أن موقفه ينبغي أن يستند إلى معايير تتعلّق بالجمال ضدّ القُبح والخير ضدّ الشرّ والسلام ضدّ الحرب، وبالطبع بالحرّية ضدّ الاستبداد والتسامح ضدّ التعصّب واللّاعنف ضدّ العنف. تلك بالنسبة لي سمات المثقف اليساري وهو ما تشرّبتُ به بعد القطيعة مع المرحلة الإيمانية التبشيرية والانتقال إلى المرحلة التساؤلية العقلية النقدية.
4 – لماذا توالت النكبات على الدول التي قامت على ثورات؟
– إذا كانت الشرعيات القديمة التي قامت عليها بعض أنظمة الحكم قد تصدّعت، فإنَّ عدم التمكّن من إنتاج شرعيات جديدة قاد إلى نوع من الفوضى، ولا سيّما بعد انهيار الشرعيات القديمة. كما لم تستطع الأنظمة الجديدة بناء مشروعيّات جديدة، والمقصود بذلك حكم القانون، إضافة إلى الحصول على رضا الناس وتقديم منجزات حقيقيّة لهم، وهذه أساس الشرعية السياسية، في حين أنَّ المشروعيّة القانونيّة لم تُبنى أو تُستكمل، فضلاً عن وجود تعارضات شديدة بشأنها ولم يكن العامل الذاتي متوافقاًمع العامل الموضوعي، ناهيك عن غياب مشروع تغيير موحّد وإدارة متّفق عليها وبيئة داخلية وخارجية مساعدة على التغيير.
وتوالى على ذلك نشاط للثورة المضادّة وعدم أهليّة المجموعات الجديدة لإدارة شؤون الدولة وفساد الكثير منها وصعود عناصر المحسوبيّة والمنسوبيّة، لأسباب دينيّة أو طائفيّة أو مناطقيّة أو جهويّة؛ علماً بأن بيئة الإقليم لم تكن مساعِدة مثلما هو في أوروبا الشرقيّة، حيث لم يكن هناك وجوداً للأُميّة وإن مستوى التعليم كان جيّداً، فضلاً عن التطوّر العلمي والتقني وإن دور الدين لم يكن سلبيّاً وهي مُحاطة بدول ديمقراطية، الأمر الذي ساعد على تجاوز المصاعب الاقتصادية والسياسية بيُسر وبمساعدة الغرب أيضاً.
5 – ما حجم تأثير الآخر في مصير الأمة العربية وما حجم تأثير العرب على بعضهم؟
– عانت الأمّة العربيّة من ثلاث صدمات: أوّلها صدمة الاستعمار في مطلع القرن الماضي، وثانيها – صدمة قيام دولة إسرائيل في العام 1948، وثالثها – صدمة هزيمة 5 حزيران/يونيو العام 1967، ويمكن إضافة صدمة رابعة هي صدمة انكفاء الحلم العربي بالتغيير بسبب العوامل التي تمَّ ذكرها فانكسرت موجته عند شواطئ البحر المتوسط، في حين أن دول أمريكا اللاتينيّة وبعض دول آسيا وأفريقيا، ناهيك عن أوروبا الشرقية سارت باتجاه التغيير وحقّقت مُنجزات في الشرعيّة السياسيّة والمشروعيّة القانونيّة.
وبسبب عوامل التخلّف والأُميّة والاقتصادات الأحاديّة الجانب ودور العامل الخارجي الدولي والإقليمي والصراع العربي – الصهيوني والنزاع العربي – العربي، وبغياب الحدّ الأدنى من التضامن، حَدَثَ نكوص في عمليّة التحوّل. العاملان الخارجي والداخلي والعربي – العربي، كلّ واحد منهما يُغذّي الآخر، وبضعف العامل الداخلي سيتمكن العامل الخارجي أن يكون تأثيره أكبر والعكس صحيح.
هناك ثلاث مشاريع خطرة في المنطقة: هي المشروع الصهيوني الذي كان نواة حرب مستمرة وعدوان متواصل منذ 73 عاماً. والمشروع الإيراني والذي تجسّد بعد ثورة الخميني في العام 1979 وإطاحته شاه إيران، وهو مشروع قومي له امتداد تاريخي ويتغلّف بالمذهب والطائفة أحياناً، لكنّه مشروع أيديولوجي بعناصره المختلفة. والمشروع التركي، وهو محاولة للتمدّد أيضاً في إطار مشروع تاريخي عثماني أيديولوجي وإن تغلَّفَ بالمذهب أو الطائفة أيضاً.
وفي ظل هذه المشاريع المتصارعة والمتصالحة أحياناً كلًّا أو جزءً يغيب المشروع العربي الموحّد وإن بحدّه الأدنى وهكذا يزداد دور العامل الخارجي في التأثير والذي يتناغم مع عناصر التخلّف الداخلي، لاسيّما بغياب التضامن العربي، وإن كنّا في الستّينات نأمل بقيام تكامل عربي وسُوق عربية مشتركة واتفاقيّة دفاع مشترك، وإذا بنا الآن نبحث عمّا يحمي الدولة الوطنية التي أصبحت مُهدّدة ومُعرّضة للتفتّت والتشطير والانقسام.
6 – بماذا تحصّن الدولة الوطنيّة نفسها من الحزبيّة الناقمة؟
– الحزبيّة بحدِّ ذاتها ليست شرًّا، بل هي ركن من أركان الأنظمة الديمقراطية، ولكن هذه تحتاج إلى قوانين وأنظمة ومؤسسات ورقابة، فكلّما اتّسعت دوائر الحرّية وحق التعبير كلّما سارت الأمور باتجاه ترصين وتعزيز الدولة الوطنية، وكي تكون الحزبية سالكة وبالاتجاه الصحيح، فلا بدّ من قوانين ترعى ذلك كي لا تلجأ إلى العمل السرّي أو إلى استخدام العنف لتحقيق أهدافها، وكذلك كي لا يتم استثمارها من جانب القوى الخارجية.
وبالطبع فلكلّ بلد ظروفه الخاصة وأوضاع تطوّره الاجتماعي والاقتصادي وشكل نظام الحكم الذي يعتمده. ومهما كانت التسميات: أحزاباً أو جمعيات أو موسسات سياسيّة، فإنَّ هدفها الأساسي ينبغي أن يكون خدمة الوطن والمصالح العُليا للدولة، إضافةً إلى مساهمتها بالتنمية كمكمّل ومُتمِّم وشريك مع الدولة وليس ضدّها.
7 – مَنْ وراء أسلمة الشعوب المسلمة؟
– أعتقد أنَّ الموجة الدينيّة عالميّة وهي لا تخصّ المسلمين وحدهم، فقد ارتفعت هذه الموجة في أمريكا اللاتينيّة فيما سمّي بـ“لاهوت التحرير”، وقد لعبت الكنيسة دوراً مهماً في عملية التحوّل الديمقراطي، وانتشرت الموجة في أوروبا وبخاصة في أوروبا الشرقية إثر انهيار الكتلة الاشتراكيّة التي لم تعطِ للدِّين حقّه، كما ازدادت الموجة الدينيّة مصحوبة بالعداء للأجانب والمسلمين والعرب في أمريكا وأوروبا الغربيّة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة في العام 2001 بتفجير برجَي التجارة العالمية في نيويورك.
وفي منطقتنا كانت تأثير حركة الإخوان المسلمين التي تأسست في العام 1928 يكبر، ووجد صداه بعد الثورة الإيرانية العام 1979، حيث بدأ نوع من التأسلم الطائفي ومحاولات تصدير الثورة، بسبب استغلال بعض الأوضاع الخاصة والصعبة في عدد من البلدان العربيّة. وبالمقابل فقد كان لصعود حزب العدالة والتنمية التركي أكبر الأثر في التمدّد المقابل، وإذا كانت إيران تتمدّد في العراق الذي تعتبره خط الدفاع الأوّل، ولها وجود في سوريا ونفوذ في لبنان وحضور في اليمن وتواصل مع حماس في فلسطين ومحاولة نشر الرسالة الإيرانية، فإنَّ تركيا هي الأخرى حاولت التمدّد في مِصر وفي تونس وأرسلت مرتزقة إلى ليبيا وكان لها دوراً كبيراً في الأحداث المأساوية في سوريا، إضافةً إلى شمال العراق (كردستان).
أمَّا الوجه الآخر لمثل هذا الوجود الأيديولوجي، فهو نشاط أيديولوجي سَلَفي بدأ مع تنظيم القاعدة واستمر وصولاً إلى داعش التي ساهمت في احتلال الموصل في العراق والرِقّة في سوريا وثُلث أراضي كلّ من سوريا والعراق، مُهدِّدة بأعمال عنف وإرهاب في العديد من البلدان العربية.
لقد اجتمعت عوامل ذاتيّة وأخرى موضوعيّة، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، باستغلال الدِّين في غير صالح الدولة الوطنية وبالضدّ من أهداف وطموحات الأُمّة العربيّة، الذي كان الدِّين عامل توحيد وتقريب فيما بينها.
8 – هل الإخوان المسلمون إخوان؟
– الإخوان المسلمون حركة سياسيّة أيديولوجيّة كونيّة عابرة الحدود ولا تعترف بها، وهي لا تتورّع من القيام بكلّ ما من شأنه إيصالها إلى أهدافها، مثلها مثل الحركات الأيديولوجيّة الشموليّة اليساريّة والقومية. ومنذ بدايات تكوينها لجأت إلى العنف والاغتيالات وقد أسَّسها حسن البنّا وتعتبر مصر أحد معاقلها الأساسيّة، وحاولت “أخونة” الدولة بعد فوزها في الانتخابات 2012، حيث تولى رئاسة الجمهورية محمّد مُرسي (بعد ثورة يناير/كانون الثاني/2011)، لكن الشعب المصري لم يطق حكم الإخوان، فتحرّك بتظاهرات مليونيّة ليُطيح بهم بواسطة الجيش ويحظر تنظيمهم.
وأدركت القوى التي ساهمت في دعم حركة الإخوان التي انبثقت من فكرها غالبيّة التيّارات الإسلامية، أدركت خطورة هذه الحركة، خصوصاً على نُظم التعليم ومناهجه، ناهيك عن تغلغلها الناعم في أجهزة الدولة، إضافة إلى بعض وسائل التأثير على المجتمع من خلال خدمات ومساعدات “خيرية” كانت تقدّمها لفئات فقيرة في ظروف بعض البلدان الاقتصادية والمعيشية الصعبة والقاسية، لذلك تمكّنت من التغلغل في وسطها ووجدت نفوذاً كبيراً بينها.
ومن أهم تلامذة حسن البنّا، سيّد قطب ويوسف القرضاوي ومهدي عاكف، وهناك مَنْ تأثّر به مثل محمد محمود الصوّاف وحسن الترابي وراشد الغنوشي وأبو علي المودوي وعبد الله عزّام.
وتحظى حركة الإخوان اليوم بدعم كبير من تركيا، بل تعتبر مركزاً لقيادة التنظيم على المستوى العالمي، مثلما تحظى الحركات الإسلامية الشيعيّة بدعم ورعاية من إيران على صعيد التمويل والتسليح.
9 – كيف تقرأ الواقع الثقافي والاجتماعي العربي؟
– الواقع معقَّد وشديد الحساسيّة، خصوصاً وأنَّ الدولة الوطنيّة العربيّة لم تستكمل مرحلة تطوّرها الأُولى، فهي ما تزال تحتاج إلى التنمية المستدامة باستعارة من أدبيّات الأمم المتحدة، والثقافة انعكاس لدرجة تطوّر الواقع الاجتماعي؛ وقد أثار كتاب إدوارد سعيد “صور المثقف” جدلاً كبيراً لم ينقطع بالأساس حول معنى ودور ووظيفة “المثقف” بشكل عام والمثقف العربي بشكل خاص.
وقد ارتكزت السلطة المعرفيّة تاريخيّاً على ثلاثة أطراف هي:
أولاً – الحاكم الذي بيده المُلك؛
وثانياً – العالِم الذي يُمثّل سلطة الفقيه الديني (الوسيط والمؤدلج لما يريده الحاكم وخلفه الأهل مع الرعيّة).
وثالثاً – العامّة، وهم المتلقّون الذين يُمثّلون الرعيّة أو المواطنون أو الشعب بالمفهوم الحديث.
وحسب ميشيل فوكو يُجسّد المثقف الحالي ضمير الإنسان ويُوقظ فيه الوعي ويُبشّر المجتمع بالحقيقة، وهو ما كان قد عبّر عن أنطونيو غرامشي بصيغة المثقف العضوي.
ويواجه مثقف اليوم، وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ثلاث سلطات هي: الحكّام الذين يحاولون تطويعه بالإقناع أو الاقتلاع، والسُلطة التقليديّة التي تعتبره منافساً لها، خصوصاً دعوته للحداثة، وسُلطة العادات وسكونيّة المجتمع التي تُشكّل عائقاً أمام تقدّم المجتمع، وهذه تقف ضدّ أي تغيير لأسباب موروثة دينيّاً أو طائفيّاً أو عشائريّاً أو اجتماعيّاً.
والمجتمع العربي يمرّ بمرحلة تحوُّل من طوْرٍ إلى طور وقد تطول هذه المرحلة، ولذلك فإنَّ حفظ المثقّف لكرامته وكرامة الثقافة التي يحملها يقوم على مبلغ إخلاصه لهذه الثقافة على حدِّ تعبير قسطنطين زريق، بحيث لا يكون أداة بيد الغير لتبرير سياسات أو تلميع واجهات أو تبييض صفحات أو حرق البخور.
10 – هل (من ينال إقامة في بلاد الغرب فهو آمن؟)؟
– كلّا لا أحد في مأمن، فالمثقّف يتعرّض لشتّى الضغوطات، سواء في بلده أو حين يضطر إلى الهجرة، وهي ضغوطات تتعلّق بالعيش وبِنَشِر نتاجه أو ضغوطات من شأنها توظيفه لغير صالح الثقافة والقيم الجمالية التي يُؤمِن بها ويدعو إليها.
وكثيراً ما شاهدنا بعض أشدّ دُعاة الكفاح ضدّ الامبرياليّة قد تحوّلوا إلى دُعاة لليبراليّة، بل إن بعضهم لم يتورّع بالدعوة إلى احتلال بلده بزعم التخلّص من الدكتاتوريّة والاستبداد وإقامة النظام الديمقراطي، ناسين أو مُتناسين أنَّ الديمقراطية لا يمكن إقامتها أو تنصيبها بفعل عمل خارجي أو عدوان أو احتلال، بل إنها حصيلة معادلة اجتماعية داخلية تتطوّر ببطء وتحتاج إلى تفاعل من النخب وتربية قد تطول لتهيئة مُستلزمات نجاحها قانونيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً (أي تبيئتها أو توطينها).
11 – متى يشعر العربيّ بصدق الانتماء لعروبته وماذا يترتّب على ذلك؟
– العروبة رابطة وجدانيّة وثقافية تربط العربي إلى غيره وبالتالي فهي رابطة إنسانية تقوم على وجود هُويّة مشتركة أساسها الثقافة واللغة والتاريخ المشترك، ويمكن إضافة الدِّين إليها، إلى الجغرافيا أي العيش في مكان مشترك.
ويكون هذا الشعور تلقائيّاً وعفويًّا، لكنّه يتعزّز عندما يشعر العربي أن هُويّته مُهدَّدة من الخارج وأنَّ ثمّة مَنْ يحاول استلاب عروبته وترويضها، وبالطبع فإنَّ العربيّ كل ما تمتّع بالمزيد من الحرّيات وحق التعبير كلّ ما تمكنّ على نحو أفضل الدفاع عن عروبته، والعكس صحيح أيضاً.
12 – أيّ الأزمنة العربية كانت أوفر حظًّا ثقافيّاً وسياسيّاً أم أنّه لم يتأتَّ بعد؟
– كانت الثقافة العربية بمدارسها المختلفة قد ازدهرت في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وما بعدها وصولاً إلى مرحلة الستّينات التي شهدت تطوّراً كبيراً، والأمر له علاقة بالثورة الثقافية على المستوى العالمي، في مجالات الأدب بشكل عام والشِّعر بشكل خاص والفنّ التشكيلي والمسرح والسينما والموسيقى والنحت والغناء؛ لكن صعود الأنظمة العسكرية قطع خط التطوّر التدرجي، وقلّص من مساحة الحرّيات، بعد أن أحكمت قضبتها على مقاليد السلطة.
وجاءت هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967 فدفعت بموجة ثانية من الانقلابات العسكريّة (العراق، ليبيا، اليمن، السوادان)، إضافةً إلى تغييرات داخليّة في إطارات الأنظمة العسكريّة، الأمر الذي قاد إلى إضعاف دور الطبقة الوسطى التي هي حامل الثقافة والتغيير.
العالم العربي بحاجة إلى المزيد من الحرّيات وإلى قوانين تحمي الحرّية الفكريّة والإبداع الثقافي وإلى مؤسسات ضامنة ورقابة وشفافيّة، وأظنّ أن تحقيق مُنجزات على صعيد التعليم والقضاء على الأُميّة وتقليص البطالة ومُعدّلات الفقر وإحداث تطوّر في القطاع الصحّي والخدماتي سيُسهم في تعزيز جوّ أكثر رحابة لاحتضان الإبداع الثقافي والإنتاج الفكري.
13 – كيف هو مركز دراسات الوحدة العربية بعد رحيل العربي خير الدين حسيب؟
– ما يحسب لحسيب أنّه عقل حيويّ وإداري ديناميكي، فقد أسَّس عدداً من المؤسسات، تفرّعت معظمها من مركز دراسات الوحدة العربيّة، وقد أرسى قواعداً لاستمراره وديمومته، وهو أكثر مؤسّسة علميّة وبحثيّة معمِّرة، فقد مضى على تأسيسه أكثر من 4 عقود من الزمان، وقد أصدر خلال هذه الفترة نحو 1000 كتاباً في المجالات المختلفة، كما أصدر مجلة بإسم “المستقبل العربي” احتفلت مؤخراً بصدور العدد 500 أي 500 شهراً على إصدارها. والمركز مستمر في نشاطه وحيويّته بالطريقة التي أرساها خير الدين حسيب الذي يعود له الفضل الأكبر في وجود هذا الصرح الأكاديميّ المهم.
14 – ماذا يعني لك رحيل الرفاق تباعاً دون تحقيق الآمال وتطلّعات الخمسينات والستّينات والسبعينات؟
– ما قدّمه الجيل الأول كان مُهمًّا على صعيد التأسيس، بكلّ ما له وهو كثير وكلّ ما عليه وهو ليس بقليل، وعلى مَنْ تبقّى ومَنْ جاء بعده، أي من الجيل الثاني والثالث مواصلة المشوار ولكن بعقليّة جديدة ورؤية جديدة تفرزها التطورات الجديدة، ويتطلّب الأمر إجراء مراجعة شجاعة ونقد التجربة والتأشير للأخطاء والنواقص والعيوب.
فلم تعد الإنقلابات العسكريّة مُجدية، ولم تعد الثورات العُنفيّة وسيلة للوصول إلى الهدف، كما لم يعد مُهادنة أنظمة استبداديّة نافعاً أو مبرّراً، مثلما ليس الأمر بالتواطؤ مع الغرب أو قوى دولية إنجاز عمليّة التغيير. علينا دراسة واقع مجتمعاتنا وتنمية قدراتها بالتطوّر البطيء الطويل الأمد وبالتدرّج والتراكم.
ويمكن القول إنّ لكل مرحلة ولكلِّ عُمْر ظروفهما، وبالتالي ما كان مقبولاً في الستّينات أو السبعينات، فإنّه لم يعُد كذلك اليوم، ولا بدّ من تفاعل بين النظريّات والممارسات وبين الغايات والوسائل، فلا غاية شريفة دون وسائل شريفة، وهي على حدِّ تعبير المهاتما غاندي مثل البذرة إلى الشجرة، وشرف الغاية من شرف الوسيلة، لأنَّ الأُولى بعيدة وغير ملموسة، في حين أنَّ الوسيلة معروفة وراهنة.
كلّما رحَلَ صديق أشعرُ أنَّ ركناً منّي قد انهار أو جزء من كياني قد تصدّع، ولكن ذلك سُنّة الحياة، “فكلُّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام” (سورة الرحمن- الآية 26 و27). والمهم التمسّك بالقِيَم والمُثل الإنسانية الأصيلة وإجراء مراجعات نقدية جريئة، فلا أحد يمتلك الحقيقة كاملة ولا أحد معصوم من الخطأ، فحتّى النظريّات الكبرى والأديان ذاتها لا تعصم المرء من انتهاك الحقوق وحتى الجرائم بزعم امتلاك الحقيقة والأفضليات والادّعاء بعصمَة رجل الدِّين أو المسؤول السياسي وآيديولوجيته. لذلك علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح حسب فولتير.
15 – ماذا بقي لديك ممّا لم تروِ من حكايات مع شاعر العرب الجواهري؟
– لعلّ حكايات الجواهري لا تنضب ولا تنتهي، وهناك الكثير مما يروى ويقال وينشر. فقد أجريتُ معه حواراً سجّلته على 10 أقراص تسجيل، لكل واحد ساعة كاملة، وقد نشرت جزءًا منه في كتابي “الجواهري – جدل الشِّعر والحياة” الذي صدر في حياته (أواخر العام 1996 وأوائل العام 1997) وبقي الجزء الأكبر غير منشور، وآمل في جمعِهِ مع ما هو منشور ليكون حواراً شاملاً مع الجواهري، خصوصاً ما يتعلّق بروافده الروحيّة وتكوينه والعائلة والوظيفة والصحافة والسياسة والنيابة والمعشوقات، والعلاقة مع عبد الكريم قاسم ولجنة الدفاع عن الشعب العراقي التي ترأّسها بعد انقلاب شباط (فبراير) 1963، والعلاقة مع الكرد، وقصيدته الشهيرة المُهداة للبارزاني مصطفى (قلبي لكردستان يهدى والفمُ)، وقصيدته المُهداة إلى جلال الطالباني (ماذا أُغنّي؟)، وعودته إلى العراق والعلاقة مع نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية، ومواقفه من المعارضة العراقيّة، وموت رفيقته أمّونة في لندن وقبلها شقيقته نبيهة، ورأيه بالعديد من الشخصيات، وطبع كتاب الجواهري في العيون من أشعاره، بالتعاون معه.
وقد نشرتُ مؤخراً حكايته مع طوق الكفاية الفكرية وهو وسام منحه إياه جلالة الملك الحسن الثاني العام 1974 وعلاقته بطنجة، والضجّة التي أثيرت حينها وما هو معلوم وما هو مستورٌ كذلك.
16 – جائحة كورونا حرب بيولوجيّة أَم مؤامرة كونيّة أَم قدر إلهي؟
لستَ ممّن يستطيع إعطاء رأي بشأن هذا الموضوع المعقّد في ظل التناقضات السياسيّة والاتهامات المتبادلة والمنافسات الاقتصادية، خصوصاً بين الصين والولايات المتحدة، حيث بينهما ما صنع الحدّاد كما يُقال، وقد اتخذت واشنطن عقوبات ضدّ بكين، قابلتها الأخيرة بعقوبات مضادة.
وقد دفعت البشريّة أثماناً باهظة جرّاء هذا الوباء اللّعين الذي يحتاج إلى تضافر الجهود عالميّاً للقضاء عليه بعد الحدِّ من غلوائه، علماً بأنَّ هناك عدم عدالة في توزيع اللقاحات بالنسبة للدول والشعوب الفقيرة، وإذا لم يتم ذلك فإنّ خطره سيبقى ماثلاً ويُهدّد الجميع، خصوصاً في ظل متغيّرات عديدة تجري على الفايروس وآخرها الدلتا.
ولا بدّ من تحويل الميزانيات الضخمة من التسلّح إلى البحث العلمي وإلى الصحة والبيئة في إطار تضامن دولي، لوضع حدٍّ لهذا الخطر الداهم من أجل سعادة البشريّة وصحّة الإنسان أثمن رأسمال على هذا الكوكب.
17 – ما سبب حدّة الراحل سعدي يوسف مع البياتي ورقّته مع السيّاب؟
– يعتبر سعدي يوسف السيّاب أستاذه، وقد كان له فضل كتابة مقدّمة لمجموعته الشعريّة الأولى “القرصان” 1952، ولم يكن حينها قد تجاوز الـ22 عاماً من عمره.
والأكثر من ذلك فإنَّ إعجاب سعدي بالسيّاب أيضاً لقُدرته كما يقول في تحويل قريته جيكور إلى مَعلَمٍ حضاريّ وعمارة أقرب إلى كاتدرائيّة يتنوّع بعطر الروحانيّة، في حين هو لم يستطع تحويل أبو الخصيب إلى مثل ذلك الصرح.
ويُعتبر سعدي متمّماً لقصيدة السيّاب، وقد كتب بذكرى وفاته مرثيّة يقول فيها:
جيكور توفد في المساء الرطب فانوساً ولا تلقي ضياءَه
مات اليتيمُ وخلّف امرأة وأيتاماً وراءَه
يا رحمة الله التي وسعت شقاءَه
* * *
أيّوب في المستشفيات يهيمُ، تسبقهُ عصاهُ
بين القرى المتهيّبات خُطاه، والمدن الغريبة
وهو المسيح يجرّ في المنفى صليبه
أمّا بالنسبة للمبدع البياتي، فإنّه كان معروفاً بهجاء الشعراء الآخرين. فقد قال عن الرائدة نازك الملائكة: “كانت نازك تحمل بذرة الموت منذ أوّل قصيدة كتبتها”، وعن نزار قباني يقول: يشبه ابن ضابط تركي مدلّل جاء إلى بلادنا. وعن محمود درويش قال: إنه يشبه الشعراء الإسرائيليين الشبّان، كما كان يبخس شعر سعدي يوسف. وقد انتهز سعدي رحيله العام 1999 ليردّ له بعض فرقعاته، ولكنها هذه المرّة ليست على نطاق محدود، خصوصاً في ظل الانترنت والفيسبوك والتويتر.
وإذا كان جيل الرواد في الشعر الحديث يتمثّل بـ السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري، فإن الريادة الثانية لموجة الحداثة الشعرية كان يتصدرها بجدارة سعدي يوسف دون أن ينازعه أحد، والمسألة تتخطى العراق إلى العالم العربي.
18 – ما قراءتك للعلاقات السعودية – العراقية حالياً وما هو المطلوب لتعزيزها؟
– يُفترض أن تكون العلاقات جيّدة جدًّا، فالبلدان لهما تاريخ عريق وتربطهما الكثير من الوشائج القويّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إضافةً إلى اللغة والدِّين والتاريخ والهُويّة الثقافية، وذلك بغضّ النظر عن اختلاف الأنظمة في السابق والحاضر.
المطلوب أن تتعزّز هذه العلاقات بين الشعبين الشقيقين على المستويات كافة، وخصوصاً عبر المنتديات الثقافيّة والأدبيّة والفنّية، وأن ترفع العوائق والعقبات التي تحول دون انتقال مواطني البلدين، إضافةً إلى تعزيز المشاريع الاقتصادية والتجارية المشتركة، وكذلك التكامليّة بما يخدم مصالح الشعبين.
19 – بماذا تشعر وأنت ترصد تحوّلات المملكة في ظلّ رؤية 2030؟
– إنَّ الانفتاح الذي تشهده المملكة والتطوّر في مجالات التعليم والصحّة والخدمات سيضعها على عتبة مرحلة جديدة وبرؤية مستقبليّة مواكبة للتطوّر العالمي، خصوصاً بالإمكانات الماديّة والبشريّة التي تملكها، إضافةً إلى موقعها الدينيّ – الروحي لعموم المسلمين في العالم البالغ عددهم أكثر من مليار ونصف المليار إنسان، خصوصاً وهي من الدول العشرين الكبرى، وقد استضافت في العام الماضي 2020 قمّة الدول العشرين (عبر الزوم) وهو الأمر الذي يؤهّلها لكي تلعب دوراً أكبر في المستقبل، لاسيّما إذا تمّ التعاون والتنسيق عربيّاً.
20 – هل تردّد (رُبّ يوم بكيت منه، فلمّا صرت في غيره بكيت عليه) ومتى؟
– كلّا، علينا أن نعيش يومنا ونستمتع بحياتنا وأن نتطلّع إلى المستقبل بما هو أجمل وأبهى. وعلى الرغم من الأحزان والمرارات والإنكسارات، إلّا أنَّ علينا أن نفتّش عمّا هو أفضل حتى ولو بين الركام فالحياة قصيرة وعلينا أن نعيشها بشرفٍ وعزٍّ وأن نتمتّع بالجمال ونسعى للخير والسلام.
على المستوى الشخصي لم أشعر بالندم في حياتي، وكلّ الأيّام جميلة والسعادة لا تأتيك هكذا من دون تعب وعناء، لكنّها موجودة بيننا وعلينا البحث عنها.
ـــــــــــــــــــــــ