بيني وبين نفسي
“حكايات من آرشيف الحركة الشيوعية العراقية”
- مالمو – بغداد
صدر عن دار الرافدين (بغداد – بيروت) كتاب جديد للنصير الشيوعي محمد السعدي، وهو الكتاب الثاني بعد كتابه الأول “سجين الشعبة الخامسة” والكتاب هو رحلة في أوراق وتجارب شخصية ومذكّرات جمعها فصولاً من ثمانينات القرن الفائت كما يقول مؤلف الكتاب، وهدفه توثيق حقبة مهمة من تاريخ حركة الأنصار الشيوعية، وقد كتبها في فترة متقطّعة أسماها “التقطير الإتلافي للذاكرة”.
ويروي السعدي في كتابه المثير كيف وقع في فخ الإستخبارات العسكرية العام 1987 لقمة سائغة ليجد نفسه نزيلاً لمدّة 87 يوماً في الشعبة الخامسة ويتعرّض للتعذيب والضغط النفسي، ليضطرّ الإعتراف بمهمته والكشف عنها، وقد أقتيد إلى محكمة الثورة، ومن حُسن الحظ يقول أن المحكمة تأجّلت، فتمّت مساومته للعمل لصالح الإستخبارات العسكرية مقابل إطلاق سراحه، وهي طريقة اتبعت في الكثير من الأحيان مع من يلقى القبض عليهم، خصوصاً ممن كانوا يتوجّهون إلى داخل العراق لإعادة بناء التنظيم، وفي الكثير من الأحيان كان هؤلاء تحت أعين الأجهزة الأمنية بأنواعها واختصاصاتها التي كانت تخترق خطوطاً حزبية وتتغلّغل فيها وتسهّل مهماتها لتكون في حدود السيطرة عليها باللحظة المناسبة. وقد استدرجت قيادات متقدّمة في مطلع التسعينات وهيأت لها أماكن إقامة وبيوت حزبية راصدة جميع تحركاتها واتصالاتها كما ورد في الكتاب وهو ما يعتبر فضيحة حقيقية.
بعد موافقته على العمل لصالح الإٍستخبارات العسكرية أُطلق سراح السعدي فهرب مرّة ثانية إلى كردستان وبعد فترةٍ ضاقت به الأمور فقرّر الذهاب إلى دمشق ومنها حصل جواز سفر يمني بمساعدة عامر عبدالله فسافر إلى براغ ومنها توجّه إلى السويد لاجئاً. وعانى ما عاناه ليس فقط من التعذيب، بل من الشكوك والإتهامات، خصوصاً بعد أن كوّن فكرة ورأياً حول كيف تصنع السياسات الحزبية وكيف يتخذ القرار بمزاجية ومنافسات وأنانية بين القياديين وقد فوجيء كيف يتمّ طرد بهاء الدين نوري أبرز قيادي في الحزب الشيوعي بسهولة واستخفاف بسبب خلافات سياسية وفكرية وهو الأمر الذي حصل لاحقاً مع باقر ابراهيم وحسين سلطان وعشرات من القياديين والشخصيات البارزة في الحزب بعد المؤتمر الرابع إضافة إلى إبعاد قياديين مرموقين مثل عامر عبد الله ونزيه الدليمي وآخرين.
وفي الكتاب الكثير من الأسرار والخفايا حول حركة الأنصار والسياسات الحزبية وما يتعلّق بالمؤتمر الرابع للحزب الذي فجّر الصراع على المكشوف وأدى إلى فصل أعداد كبيرة من الرفاق القياديين والكوادر. فلم تكن ملاحقة الحكم البعثي وتصفيات أجهزة الأمن كافية، بل أكملتها القرارات التعسفية التي اتخذتها مجموعة صغيرة وحاقدة وقف على رأسها عزيز محمد المسؤول الأول عن أخطاء وارتكابات قيادة الحزب والذي استمرّ على قمّته 29 سنة.
الكتاب يتناول أهم الإختراقات ويسمّي بعض الأسماء التي لعبت دوراً خطيراً في الأجهزة الأمنية بتسهيل من بعض القيادات، كما يتوقّف عند ظاهرة تعريض بعض المعارضين لنهج القيادة للتعذيب في سجون خاصة تمّ بناؤها في كردستان، ويتناول هذه الظاهرة الخطيرة بالأسماء حيث استشهد تحت التعذيب جابر عبد الله (منتصر) وتعرّض للتعذيب (الشيوعي) سامي حركات (ستّار غانم) الذي استشهد لاحقاً خلال تسلّله للداخل ويعتبر أمين (أحمد الناصري) أحد الشهود الأحياء الذين يواصلون نضالهم لفضح هذه الممارسات الإجرامية وهو يطالب بكشف المجرمين المعروفين والذين يحظون بدعم القيادة التي تتستّر على أفعالهم، وبالتالي فهي مسؤولة أيضاً خصوصاً القيادة السابقة وعلى القيادة الحالية أن تدين هذه المرحلة وتردّ الإعتبار للضحايا فالسكوت دليل تواطؤ.
وقد قدّم للكتاب الأستاذ عبد الحسين شعبان، وأورد أربع ملاحظات قال أنها خارج الآراء السياسية والحزبية:
أولها – إنه تعرّف أكثر على السعدي من خلال كتابته بعد أن إلتقاه عند عامر عبد الله في دمشق. وثانيها- أشاد بجرأته حين اعترف بأخطائه ومثالبه وعيوبه ومنها تعاونه مع جهاز الإستخبارات العسكرية حين تمّ اعتقاله وذلك إنقاذاً لنفسه بعد عدم تمكّنه من الصمود فوافق على عرضها ثم هرب إلى الجبل.
وقد تضمّن الكتاب معلومات كثيرة حول العديد من الذين أُلقي القبض عليهم وتعاونوا مع الأجهزة الأمنية ويعتقد السعدي أن قسماً منهم أخفى المعلومات عن الحزب واستمرّ في البقاء في مواقعه المتقدّمة دون أن يبلّغ عن ذلك. وينقل كاتب المقدّمة عن الكاتب (أن الغالبية الساحقة من الذين توجّهوا إلى الداخل وقعوا في شرك الأجهزة الأمنية) فإما استشهدوا ومن أطلق سراحه باتفاقات معها ويذكر العديد من الأسماء وبعض مهماتها واستدراجاتها.
وثالثها – إنه ينتقد تجربته، لا سيّما مشاركته في التحقيق (الحراسة) ضدّ آخرين أو قبوله فكرة التعذيب لآخرين لانتزاع إعترافات منهم.
ورابعها – إنه يشخّص عدداً من المسؤولين عن الأخطاء والعيوب بما فيها الأمنية، لعدم خبرتهم أو قلّة معرفتهم أو حتى جهلهم.
الكتاب مكرّس للنقد الذاتي وسعي لكشف الحقيقة والمصارحة والإعتذار لمن تمّت الإساءة إليهم أو لعوائلهم. ويقول مؤلفه لا مبرّر لمن أنكر أو سكت وذلك هو التواطؤ بعينه الذي لا بدّ من كشفه أيضاً، وقد فعل السعدي الخطوة الأولى ثقة نفسه.
الكتاب يعكس معاناة شاب تركت التجربة ندوباً على نفسه جسدية ونفسية، ليس من الأعداء فحسب، بل من رفاق الدرب أيضاً.
وكان كاتب المقدّمة (الأستاذ شعبان) قد ختم مقدّمته بالقول (إن تجربة محمد السعدي يجب أن تقرأ دون إسقاطات مسبقة بالـ “مع” أو “الضد” وحتى خارج السياسة لأنها تجربة إنسانية وهي تصلح أن تكون فيلماً درامياً بغضّ النظر عن سوداوياتها، فثمّة كوّة ضوء ويقظة لأمل جديد وروح جديدة).
إن (كتاب بيني وبين نفسي) يهمّ جميع السياسيين سواء كانوا من اليسار أو اليمين، من الإتجاهات الإشتراكية أو القومية أو الإسلامية، لأن الجميع عانى من ممارسات النظام الفاشي السابق ومن أساليب دكتاتورية في داخل كل حزب من الأحزاب. إنه كتاب يهمّ الجيل الجديد بعد أن انكشفت جرائم كثيرة وترتكب اليوم جرائم جديدة، وعلى الرغم من محاولات التستّر عليها، إلاّ أن الحق لا بدّ أن يظهر والحقيقة لا بدّ أن تنكشف. الكتاب وإن كان يتكلّم عن أمور شخصية وخاصة وهموم ذاتية لكنها أموراً عامة بل أكثر عمومية لجيلٍ من السياسيين ظلوا حالمين حتى اصطدموا بصخرة الواقع.
دار الرافدين (بغداد- بيروت) 2021، 397 صفحة من الحجم الوسط.