ايزاك» قصة تقاوم النسيان في مرفأ بيروت… والصيفية في لبنان «أوريجينال»!
هل هناك ما يوجع أكثر من خسارة أم لطفلها؟
انتشرت قصص كثيرة مؤلمة عن ضحايا مرفأ بيروت، ولكن واحدة من هذه القصص عذبتني شخصياً ولامست أبعد نقطة في أعماقي. هناك حيث تنام المياه الدافئة، ربما ذكرتني بهزيمتي الكبرى، بطفلي الذي مات وما زال نبضه يخفق في قلبي،
ذكرتني بطفلي الذي انتهز الفرص لأكتب عنه،
طفلي مات، نعم مات ومتّ معه، وما زلت أموت كل يوم حين أشتم خيوط عطره البعيدة، وما زلت أنتحب عند كل ذكرى وكل تفصيل صغير، وما زالت ثيابه مرتبة في الخزانة وما زلت أغسلها.
رحل لأدخل في حرب نفسية شرسة. كنت أسيرة الفراش مهزومة. أهرب من الواقع بالنوم ساعات طويلة. لا أستيقظ أبداً. لم تكن لي رغبة في الاستمرار بالحياة، ولكني كنت جبانة وعاجزة عن إنهاء حياتي،
حتى جاءت معجزة الكتابة لتنصفني. بدأت أكتب فاستحال الحبر ضوءاً أعادني تدريجياً إلى الحياة.
غلبتني دمعة وأنا أشاهد قصة الطفل ايزاك، البالغ من العمر سنتين، عن لسان والدته، سارة كوبلاند، التي تعمل في الأمم المتحدة على قناة «بي بي سي عربي»، انتشرت تلك القصة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، ربما لأن الآلام العميقة تنسج خيوط إنسانيتنا فتوحدنا.
لا أعرف كيف أكتبها خصوصاً وأنها تحكي وجعي،
لكن الفرق الوحيد، ربما أن وجع أم ايزاك أكبر، فهي لم تعرف من وراء موت طفلها الصغير، أما أنا فكنت أعرف أن طفلي توفي بسرطان خبيث.
لكن لأول مرة أشهد أن هناك سرطاناً أخبث من ذلك الذي عايشته مع طفلي. سرطان يُعرف بـ«ملوك الطوائف» وبالسلطة الفاشلة، وبالعهد البائس.
بدأت المأساة حين انتقلت سارة للعيش في بيروت منذ حوالي سنة تقريباً.
كانت تحلم أن يكبر ابنها. أن تشهد تخرجه وزواجه. وربما كانت تتخيل أبناءه. كانت تنظر إليه ويهيأ لها بأنه سيقتحم العالم بشخصيته المحببة.
وفي 4 آب/أغسطس الماضي جلست قرب ابنها ايزاك الذي وضعته في كرسيه المرتفع المخصص للطعام.
كانت تضع اللقمة في فمه الصغير حين سمعت دوياً عالياً. تركته وخرجت إلى الشرفة. لم ترَ شيئاً. عادت إليه، ولكنها لم تتمكن من إطعامه أي لقمة ثانية. فما إن وصلت إلى جانبه حتى وقع الانفجار الضخم. طار ايزاك عن كرسيه. حلق في أرجاء الغرفة كعصفور صغير ثم وقع على الأرض لتجرح صدره قطع زجاج متناثرة من الشباك المكسور.
مات ايزاك. نام العصفور الصغير ونامت أحلامه، لتعيش أمه في عالم أحزانها.
إنه الحزن الشديد الذي يقيدنا داخل سجن من الوحدة، ولا شيء يخرجنا منه سوى اختيار ما يناسبنا من العلاجات النفسية التالية: الصلاة أو الفنون على أشكالها أو الرياضة.
بالنسبة لي، كانت الكتابة منقذتي في حروبي كلها. خصوصاً بعد خسارتي لأنطوني الصغير، ووجدت الأم الأسترالية في الكتابة أيضاً وسيلة للتعبير عن ألمها.
قالت: «أصدقائي وأسرتي كانوا رائعين، لكن لا أحد منهم مر بمثل هذه التجربة.
لذلك فالكتابة مهمة جداً للتواصل مع الآباء والأمهات الآخرين الذين مروا بالتجربة نفسها لفهم ما نمر به «هي ما زالت تمارس الأمومة مع ايزاك كما تفعل مع مولودها الجديد حتى بعد غيابه.
لم يستطع الموت إنهاء أمومتها لايزاك. ربما لا تغسل ثيابه النظيفة، كما أفعل أسبوعياً. ولكنها أرادت إيجاد طرق أخرى تشعرها بأنها ما زالت تفعل أشياء كثيرة لأجله، وهي تريد أن تكرس حياتها لمعرفة الحقيقة والوصول إلى العدالة.
تفاهة المسؤولين أنهم اعتقدوا أن المسألة انتهت بالموت.
لا تقولوا لأم «ابنك مات» من غير أن تخبروها كيف مات.
لن يهدأ بال أم ايزاك قبل أن تعرف من وراء تفجير مرفأ بيروت، الذي قتل ابنها ومئتين آخرين وجرح ما يزيد عن 7 آلاف شخص وفجّر قلب لبنان.
وتسعى سارة اليوم بالتعاون مع مجموعة من الأشخاص الآخرين ومنظمات دولية لإنشاء لجنة مستقلة لتقصي الحقائق.
لكن الحقيقة تبقى غائبة حتى يومنا هذا والفضل كله يعود لملوك الطوائف الذين وفروا الحصانات لأزلامهم.
لن ترتاح قلوب أمهات شهداء المرفأ ولن تجف دموعهن حتى يحاسب كل المسؤولين عن اليوم الأسود.
تلك الدموع الطاهرة ستدفع الشهداء للخروج من قبورهم ولملمة أشلائهم والوقوف من جديد لمحاسبة المتآمرين والمتورطين.
ألم يقل درويش يوماً:
إذا متُّ أخجل من دمعِ أمي!
تلك الدموع ستعيدهم لنا.
صيفية اوريجينال في بيروت!
ومن مصيبة المرفأ إلى مصيبة الأدوية. لم يعد فقدان الأدوية مجرد أزمة بل أصبح كارثة تحل فوق رؤوس اللبنانيين لتطال حتى مرضى السرطان. مخزون المستشفيات لا يكفي لأكثر من أسبوعين كحد أقصى.
ومصرف لبنان ووزارة الصحة في «المصيف». لا حياة لمن تنادي.
تطل علينا مريضة سرطان عبر قناة «أل بي سي» اللبنانية وهي تشهق بالبكاء قائلة:
أخدت علاجي أول تلات شهور ومشي حالي.
بس هلأ هيدا العلاج لازم يتأمن. لكن الدواء ما عم لاقيه، ثم تبكي من الخيبة والقهر، تسكت قليلاً لتضيف:
«عم نتعذب كتير».
نعم الشعب اللبناني دخل نفقاً لا نهاية له من العذاب.
إن أبسط حقوقه لم تعد موجودة.
مريض السرطان مهدد بالموت إن لم يتابع علاجه. ولكن لن يموت بسبب السرطان بل القاتل الوحيد هي تلك الحكومة العاجزة عن توفير الدواء لعلاجه. انتشر أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مضحك مبك لشاب يقول بالحرف الواحد:
«لا لا.. بلا باريس.. بلا لندن.. بلا ميلانو.. بلا روما..
تعا بسرعة على لبنان.. كتير بتنبسط عاملين السنة بلبنان صيفية كتير أوريجينال! كتير مختلفة!
ما في كهربا، بتصدق؟ إيه بدك تنام بلا كهرباء متل أيام زمان. ما في مي (مياه) بدك تحمل مي بالسطل..
ما في دواء بدك تداوي حالك بالأعشاب الطبيعية..
في سيارات بس ما في بنزين بدك تروح مشي أو تستعمل بيسيكلات.
ما في حكومة! في رئيس حكومة بس بعد ما عمل حكومة.. يلا تعا الصيفية كتير أوريجينال!».
يلا.. لنعود جميعنا.. هكذا نموت معاً..
لقد صدق المثل الشعبي: الموت بالكثرة ما بخوف.