في “مملكة” الجواهري
مقدّمة كتاب كاني ياسين آل جواد
بقلم عبد الحسين شعبان(*)
من الإهداء حتى آخر كلمة في الكتاب ينبض قلم الكاتب كاني ياسين آل جواد، بالجواهري، متولّهًا بمحبّته وعاشقًا عذريًّا لكل ما يتعلّق بمعشوقه، مقتفيًا أثره ومستمتعًا بحكاياه ونوادره، واقفًا إلى صفّه في معاركه بإعجاب وانبهار، وهكذا يحاول الدخول إلى مملكة الجواهري التي يتمنى أن يعيش فيها ولا يخرج منها مطلقًا، ويعتبر ذلك أُمنية من أُمنيات حياته التي كثيرًا ما راودته نفسه عنها حتى استحالت إلى واقع.
و”مملكة الجواهري” ليست سوى مملكة الشِّعر والمغامرة والتحدّي وتلك حياته المليئة بالاحتمالات التي يصعب تكهّنها ليس فقط على الصعيد الشِّعري والإبداع الأدبي بصفته عالَمًا شعريًّا، بل “عوالم شعريّة” وإنّما على المستوى الشخصي أيضًا، فالجواهري شخصيّة حسّاسة، وأستطيع القول إنّها بالغة الحساسيّة وله مِزاج خاص، ولذلك فالاقتراب منه يعني الاقتراب من عالَمٍ مأزوم، وكلُّ مُبدع كبير هو إنسان مأزوم بالطبع، فما بالك حين يكون بوزن الجواهري وبحجم مُنجزه الشِّعري وعُمق تراثه، وهو الحامل صولجان الشِّعر امتدادًا للمُتنبّي.
لقد حاول كاني آل جواد حين أعدّ سرديّته عن الجواهري أن يؤشّر إلى ذلك أو لبعضه، بعد أن اختزنت مكتبته بما قيل وكتُب ونُقل وسُمع عن الجواهري تحريرًا أو تفوّهًا، وهو ما حاول تجميعه وإعداده كمادّة توثيقيّة، وتلك ميزته الأولى. أمّا ميزته الثانية فهي أنّ الكاتب يقدّم نفسه قارئًا ومتذوّقًا ومُعجبًا، مع أنّه بذل جهدًا كبيرًا في إعداد كتابه الذي جمع فيه ما توفّر لديه ما كُتب عن الجواهري، فقد توقّف عند مذكّراته (جزءان) كما استند في عرضه إلى بعض النصوص ومُقتبسات لعدد “ممّن يُشار إليهم بالبَنان وممّن زاملوه وعايشوه وكانوا قريبين إليه” كما يقول، ويعدّدهم كالآتي: محمد حسين الأعرجي في كتابه “الجواهري دراسة ووثائق”، وعبد الحسين شعبان في كتابه “الجواهري: جدل الشعر والحياة“، وهادي العلوي: دراسات نقديّة أعدّها فريق من الكتّاب، وصباح المندلاوي في كتابه “الليالي والكتب” وخيال الجواهري في كتابها: “الجواهري – النهر الثالث”.
ومن خلال هؤلاء ونصوصهم، يحاول التسلّل بشغفٍ إلى صومعة الجواهري كما يقول، ويتغلغل بمودّة في عالمه ولا يريد مفارقته، حيث ظلّ يجمع فصول كتابه وُيدوّن ويُتابع ويُشاهد ويقرأ كل ما يتوفّر بين يديه عنه، محاولًا التعريف بأشهر قصائده، وتلك ميزة الكتاب الثالثة، مقتفيًا أثر “الجواهري في العيون من أشعاره” الذي صدر في العام 1986 في دمشق عن دار طلاس لكاتب السطور وذائقته الشِّعريّة بالتعاون مع الشاعر الكبير ومقدّمته المؤثّرة، وهو ما أصبح يُنقل عنه ويُقتبس منه ويُعدّ مرجعًا للدارس والباحث والمهتم والمتذوّق لشعر الجواهري، خصوصًا وقد حظيَ برضا الشاعر نفسه وموافقته والاستئناس برأيه واستمزاجه.
وميزة الكتاب الرابعة استنادًا إلى ما تقدّم هي تأرخة معاركه الشعريّة والشخصيّة من خلال قصائده، حيث تشكّل عمارة الشاعر الشعريّة التي يرتفع بناؤها لأكثر من 20 ألف بيت “تدوينًا حقيقيًّا” يضاف إلى مذكّراته، فقد اختصم الجواهري وتصارع وانقلب وتواصل وتناقض وغضِب وأصفح وعبّر عن همومه وأحزانه وأفراحه، وكلُّ ذلك يمكن أن يشكّل مادّة حقيقيّة للدراسة النقديّة لتاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي وتطوّر مدارسه الفكريّة حاول أن يعكسه آل جواد مُعدّ الكتاب.
وفي هذا الخصوص كان يمكن للكاتب أن يتوقّف عند كتابين مُهمّين للمفكّر حسن العلوي وهما: “ديوان العصر” الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية في عام 1986، وكتاب “الجواهري – رؤية غير سياسية” الذي صدر في لبنان زحلة 1995، وكنت قد كتبت عن كتابه الأول “ديوان العصر” مشيرًا إلى أن بحق يعتبر واحدًا من أهم الدراسات النقديّة التفصيليّة التي صدرت عن الجواهري. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى دراسة جبرا ابراهيم جبرا وإبراهيم السامرّائي وداود سلوم وسليم طه التكريتي وعبد الكريم الدجيلي.
استند آل جواد بشكل خاص في كتابه على ثلاثة مصادر أساسيّة هي: “مذكّرات الجواهري” (جزءان) وهي مهمّة جدًّا، إضافة إلى كتاب كريمته د. خيال الجواهري “الجواهري – النهر الثالث” مثلما استعان بكتاب صباح المندلاوي – “الليالي والكتب”، وهو جولة في ذائقة الجواهري الأدبيّة التي نتعرّف من خلالها إلى نظرة الجواهري للكثير من زملائه المُبدعين العالميّين مثل بيكاسو وبابلو نيرودا وهمنغواي ولوركا وماركيز وغيرهم، وهو ما كنت قد أشرتُ إليه في كتابي “الجواهري – جدل الشِّعر والحياة” (دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997)، إضافةً إلى ما جئتُ عليه من تفاصيل في كتابيَ الموسوم “كوبا – الحلم الغامض” الصادر عن دار الفارابي، بيروت 2011.
أمّا الأسماء الواردة في الاقتباسات التي أشار إليها فقد جاءت من خلال إعداد كتاب د. خيال الجواهري، وشملت باقةً من الأدباء والكتّاب العراقيّين والعرب، لعلّ أبرزهم طه حسين الذي قال عن الجواهري: إنّه البقيّة من التراث العربي الصحيح، وصلاح عبد الصبور الذي اعتبره السلسلة الذهبيّة الأخيرة من الشعر العمودي، إضافةً إلى أمين الأعور الذي أطلق عليه اسم “النهر الثالث” منذ العام 1963، ومحمود درويش وأدونيس ونزار قبّاني وعبد الرحمن منيف وآخرين.
كما شملت قائمة الأدباء العراقيّين: سعدي يوسف ومظفّر النواب وهادي العلوي وحميد المطبعي ومحمد حسين الأعرجي وجبرا ابراهيم جبرا وفوزي كريم ورشيد الخيّون ومالك المطلبي وغزاي الطائي وعناد غزوان وحميد هدّو وحنّون مجيد ومحمد بحر العلوم وعبد الرزاق الربيعي وأحمد النعمان، ومير بصري وإبراهيم السامرائي وعبد اللطيف أطيمش ونجاح العطّار وعبد الحسين شعبان وآخرين. وكان يمكن استذكار بعض مَن كتبَ عن الجواهري مثل عبد الغني الخليلي وزاهد محمد وجليل العطيّة ورواء الجصّاني وآخرين، إضافةً إلى أطروحات أكاديميّة في عدد من الجامعات.
وفي الواقع فإنّ الغالبية الساحقة التي كتبت عن الجواهري كانت بعد وفاته في 27 تموز/يوليو 1997 حيث تمّ دفنه في دمشق في مقبرة “الغرباء” بالقرب من مقام السيّدة زينب. وكان الجواهري قد وُلد في النجف العام 1900م، (وهناك روايات أخرى تقول إنّه وُلد في العام 1897 أو العام 1899 أو العام 1903)، وتحدّر من أُسرة عريقة في العِلم والأدب نُسبت إلى كتاب عنوانه “جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام” لمؤلّفه جدِّه الأقدم الشيخ محمد حسن أحد أكبر فقهاء عصره، ويُعتبر كتابه واحدًا من ثلاثة كتب مهمّة لا يمكن اجتياز مراحل الاجتهاد دون دراستها، ومن عنوان الكتاب أخذت العائلة إسمها.
لقد كانت ولادة الجواهري قبل ولادة الدولة العراقية بأكثر من عقدين من الزمان، حيث تأسّست المملكة العراقية في 23 آب/أغسطس 1921، فقد باشر بكتابة أُولى قصائده قبل كتابة دستورها “القانون الأساسي” الذي صدر في العام 1925 بعدّة سنوات، وهكذا وعلى مدى قارب ثمانية عقود من الزمان كانت “مملكة” الجواهري تزدان وتزدهر وتتّسع وتتألّق بروائع ضمّتها دواوين عديدة منذ صدور ديوانه الأوّل “ديوان بين الشعر والعاطفة” العام 1928، وديوانه الثاني “ديوان الجواهري” العام 1935. وقد أصدر في العام 1949 ديوانه الجديد، الجزء الأول، كما صدر الجزء الثاني في العام 1950، وصدر الجزء الثالث في العام 1953. وفي العام 1965 صدر له ديوان “بريد الغُربة” في براغ، وصدرت إضافة إلى طبعة بغداد، طبعتان جديدتان لدواوينه، الأُولى عن وزارة الثقافة السوريّة في العام 1979 والثانية عن دار العودة في العام 1982، وتُعتبر مجموعة “الجواهري في العيون من أشعاره” بمثابة مختارات من شعره وذائقة أدبيّة خاصّة لأهمّ القصائد والأبيات من القصائد مقسّمة إلى عشريّات: ابتداءًا من العشرينات وحتى أواسط الثمانينات، وصدرت في دمشق العام 1986.
ونال الجواهري عددًا من الأوسمة، منها: وسام “طوق الكفاية الفكرية” من جلالة الملك المغربي الحسن الثاني العام 1974، وجائزة “اللوتس” (جائزة كتّاب وأُدباء آسيا وأفريقيا) 1975، وجائزة سلطان العويس للإنجاز العلمي والثقافي ووسام الاستحقاق الأردني من جلالة الملك الحسين بن طلال العام 1974، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديرًا لتراثه ومواقفه، دمشق 1995.
وحسب ما يتتبّع كاني آل جواد حياة الجواهري من خلال قصائده، فقد كان الشاعر لا يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه وأن يعيش كلّ لحظة ولا يرغب بتبديد ثانية واحدة، وهو بقدر ما يريد الدنيوي فإنّه يسعى إلى الأُخروي أيضًا، أي يريد الحاضر والمستقبل والحياة والخلود. وكنت قد استعرتُ تعبيرًا للروائي الروسي مكسيم غوركي بخصوص الجواهري الذي كان نصف عقله وربّما نصف إبداعه يعيش في المستقبل للقادم الجميل الذي يريده شفيفًا ومعافى وأزرقًا مثل لون البحر الذي يحبّه، فقد ساهم الشِّعر في رسم أو إعادة تصوير حياتنا بتفاصيلها وشخوصها وتاريخها ومعالمها لا بنكهتها الواقعيّة وحسب، ولكن بإطارها المتخيّل والواهم أحيانًا، مشتملًا على رائحة حبٍّ ومذاق تحدٍّ وجِوار أضداد وتناقض حاد، وتلك شكّلت سِمةً من سِمات القصيدة الجواهريّة.
وقد جمع الجواهري في شخصه حزمةً من الشعراء المبدعين تمتد لحقبٍ شعريّة تاريخيّة كاملة وربّما لقرون، لكأنّ جذوره ممتدة من الفترة الأمويّة – العبّاسية على حدِّ تعبير الشاعر سعدي يوسف، والتي شغلت القرن العشرين بكامله، في مغامرة ممتدّة بهرمونيّة جمعت التناقض المحبّب بتناسق باهر مع التحدّي الفائق، وحين يجتمع التناقض والتحدّي يُصبح المشهد جواهريًّا.
إنّه “سادن” الأضداد و”ملك” التحدّيات وفي ذلك سرّ استثنائيّته المُفعمة بإبداع استثنائي فريد ومتميّز وهو ما حاول كاني ياسين آل جواد أن يبرزه، وهو القائل:
ولم أرَ في الضدائد من نقيضٍ
إلى ضدٍّ نقيض من ضريبِ
وحين يستحضر الشاعر عملاق الشِّعر في داخله بأدواته المطواعة بين يديه وبلهجته الجميلة وأنفاسه المتغضّنة بالشِّعر وأصابعه الممدودة فيقول:
أنا العراق، لساني قلبه
ودمي فُراته وكياني منه أشطارُ
والتناقض والتحدّي يجتمعان باتّساق فريد بالصعود والنزول وبالجوانب المشرقة والمُعتمة وبنقاط
القوّة والضّعف الإنسانيّة، كلّ ذلك يمتزج في كأس الجواهري الذي يقول:
يا نديمي وصُبَّ لي قدَحًا
ألمَسُ الحُزنَ فيه والفَرَحا
هكذا جمع الجواهري الحزن والفرح في كأسٍ واحدة، تلك التي يريدها من النديم وهو جدَل الحياة المُقترن بالموت، فالجواهري الذي عشِق الحياة وتعلّق بها وبكلّ جنونها لا يصمد أمام إغراء التحدّي.
يقول الجواهري:
وأركبُ الهَول في ريعان مأمنةٍ
حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يُغريني
وفي قصيدته المُهداة إلى جمال عبد الناصر (بعد وفاته) يجمع المجد والأخطاء، فيقول:
أكبَرْتُ يومَكَ أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء
لا يعصمُ المجدَ الرِّجال وإنّما
كان العظيم المَجدَ والأخطاءَ
تُحصى عليه العاثرات وحسبُهُ
ما كان من وثباتِهِ الإحصاءَ
ما يريد أن يقوله آل جواد في استعراضه الشيّق وتتبّعه لمسيرة حياة الجواهري، أنّ الجواهري شاعر تجاوز زمانه ومكانه، بل إنّه ضاق ذرعًا بالمكان والزمان حتى وإن كانت الآراء والتقييمات قد اختلفت حوله إلّا أنّها تلتقي حول نتاجه الإبداعي وتميّزه واستثنائيّته ورياديّته وعبقريّته، ولذلك أصبح يمثّل رمزيّة الشِّعر وطُهريّة القصيدة ونزاهة الكلمة، وكان الجميع حكّامًا ومحكومين يقتربون منه لأنه مثّلَ نبض العراق المتناقض الحاد الطيّب، فقد حمِلَ في روحه عناد طفلٍ بريءٍ ومشاكس في الآن، فقد سعى إلى تجاوز المألوف والعادي من الأشياء إلى ما هو خارق أو يقترب من المستحيل في التمرّد والسلوك والنّفي والترحال، والأهمّ في الإبداع الشِّعري، وظلَّ مُبحرًا بسفينته ينتظر القصيدة مثل غيمةٍ فضّية تنقدح مثل شرارة البرق التي تخطف البصر كما قالت عنه الدكتورة نجاح العطّار، وحين تهبط عليه “اللحظة الشِّعرية” يُطرب لها ويُغنّيها فتخرج القصيدة طازجةً شهيّة مثلما يخرج رغيف الخُبز من التنّور فيفتح الشهيّة للجمهور ليدوّي مثل إعصارٍ عاصف.
بيروت – الجناح – 12/12/2020
(*) أديب وناقد ومؤلف لأكثر من 70 كتابًا في قضايا الفكر والقانون والسياسة والمجتمع المدني والأديان والثقافة والأدب، بينها كتابه الموسوم “الجواهري في العيون من أشعاره” وذلك بالتعاون مع الجواهري الكبير، وكتابه “الجواهري – جدل الشِّعر والحياة”، وهما كتابان مرجعيّان لا غنى عنهما لدراسة الجواهري، إضافة إلى أنّه أكاديمي ونائب رئيس جامعة اللاعنف – بيروت. (الناشر)
* نشرت في جريدة الزمان العراقية في 13 آب – أغسطس 2021