ين اختفى الأمير محمد بن عبد القادر الجزائري؟
هناك احترقت فقط لأنها ابنة شخصية مرموقة غطت على جهدها ونضالها وعلمها. مثال على ذلك، العالم، والمؤرخ، والعسكري محمد باشا أو محمد بن عبد القادر بن محيي الدين الحسني الجزائري، الذي لم توله المؤسسة الثقافية العربية الاهتمام الكافي الذي يليق بجهوده. فقد ولد بقرية القيطنة، معسكر، مسقط رأس والده الأمير عبد القادر، في سنة 1256 هـ الموافق لـ 1840 م، في حضن عائلة عُرفت بنضالها وعلمها.
وتوفي في الأستانة في عام 1331 الموافق لـ 1913. تعلم في مدينة ولادته في مراحل حياته الأولى، فأخذ منها المفاهيم الدينية المبدئية، بما فيها الانتماءات الصوفية القادرية التي كانت تنتسب لها العائلة. فهو الابن البكر للأمير عبد القادر. رافق والده في منفاه بعد أن نفي إلى طولون الفرنسية، وعاش برفقته كل مراحل اعتقاله، وتحسسها عن قرب وهو في نعومة أظافره. فقد رُحِّلَ الأمير عبد القادر على متن السفينة البخارية الأصمودي l’Asmodée ووصل إلى طولون في 29 ديسمبر / كانون الأول 1847 برفقة حاشيته المكونة من بعض رفقائه ومن عائلته: صهريه وأمه المسنة، ونسائه الثلاث، وابنيه، ومنهم محمد الذي كان عمره وقتها قد تجاوز السبع سنوات.
عانى محمد ظروف العائلة الصعبة في قلعة لامالغ fort Lamalgue المليئة بالرطوبة. وبعد أن عاش منفى ومعتقل الخمس سنوات في فرنسا، رافق والده إلى منفاه الاختياري بتركيا بعد أن أطلق إمبراطور فرنسا نابليون الثالث سراح الأمير عبد القادر الذي استقر به المقام في النهاية في سوريا بدءاً من سنة 1855 حيث كان عمر محمد قد تجاوز الخمس عشرة سنة.
ومكث بمدينة دمشق، فتعلم في مدارسها، حتى أصبح من أحد أعيانها. ثم التحق بالجيش العثماني في فيالقه، وهو أمر على ما يبدو لم يرق لوالده كثيراً، بالخصوص رفضه الشديد لهيمنة تركيا على بلاد الشام في عهد أحمد باشا الذي ترجع له المجازر الدينية بين المسحيين والمسلمين التي وقعت في الشام في سنة 1860 وتدخل فيها الأمير وأبناؤه وحاشيته لإنقاذ أكثر من 15 ألف مسيحي من موت مؤكد. وتدرج محمد باشا في مناصبه العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق، التي كانت هدفه الكبير.
ويحتمل أن يكون قد شارك في كثير من المعارك التي خاضتها تركيا في المنطقة ليستحق تلك الرتبة الميدانية العليا. وكأن حياة والده ومساره قد أثّرا فيه بشكل كبير. ونظراً لعكوفه مدة طويلة مع والده الأمير عبد القادر وعيشه لحله وترحاله، فقد جمع محمد بن عبد القادر وثائق كثيرة تهم حياة والده فدونها ورتبها، ليكتب الصيغة الأولى من كتابه الكبير «تحفة الزائر» قبل أن تُسرق منه كما يقول هو نفسه في المقدمة: «فسطت عليه يد من لا بارك الله بأصلها ونسلها. وسرقته عمداً». وأعاد كتابة نصه من جديد معتمداً على ذاكرته الحية، لكننا نفترض أن الكثير من الوثائق والحقائق تكون قد ضاعت مع المخطوطة المسروقة. كان محمد باشا يفكر دوماً في كتابة تاريخ والده، بعد أن كلفه هذا الأخير بذلك. في سنة 1871 بدأ محمد باشا في كتابة سيرة والده. وعكف على تدوين كل تفاصيلها كما رآها، أو كما عاشها، أو كما رُويت له. فجمع ما تفرق منها، ولم ينهها إلا في وقت لاحق. وسماها «تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر»، في جزأين، الأول في سيرة الأمير عبد القادر الحربية، ضد الفرنسيين، والثاني في سيرته العلمية. الكتاب يفيد المؤرخ في كثافة معلوماته كما يقول مقدم الكتاب الدكتور ممدوح حقي في طبعته الثانية 1964: «إن ما في الكتاب من بساطة وسرد يساعد المؤرخ على التقاط وجهة النظر العربية من غير مشقة. لم يكن المؤلف يعرف من اللغات إلا العربية، ولم يدرس سوى علوم الدين، ولم يطلع من العلوم العصرية على شيء. وكيف نريد من ابن القرن التاسع عشر أن يلم بعلوم القرن العشرين وهو لم يعشها. وكيف نطلب من رجل قضى أكثر حياته في الجهاد أن يتفرغ لما يتفرغ له الخلي المسالم المرهف؟»وهذا الحكم السهل يدعو إلى تساؤلات كثيرة وبعض الغرابة. أولاً بالنسبة للغات، فقد كان محمد باشا متقناً للغة للعربية في معناها الأكثر كلاسيكية، يتجلى ذلك في الطريقة السجعية التي كتب بها، والتي كانت تشكل في زمانه رهاناً لغوياً ودليل إتقان لها. ولكن من الصعب التوقف عند هذه اللغة، وهو الذي رافق والده منذ صغره وعاش في منفاه الفرنسي مدة خمس سنوات، وهو يحيل في هذا الكتاب إلى العديد من المراجع الفرنسية، ومنها كتاب ألكسندر بلامار Alexandre Bellamar : «عبد القادر، حياته السياسية والعسكرية»، الذي حاور فيه الأمير في حياته. بل أكثر من ذلك يصرح محمد باشا في مقدمة كتابه أنه استعان بالكتب الفرنسية وقام بترجمتها.
يقول: «استخرت الله تعالى وشمّرت على ساعد الجد والاجتهاد لجمع ما أستعين به من المواد. فجلبت وقائع تواريخه المدونة باللغة الإفرنجية وتكلفت ترجمتها إلى العربية. وبعد مطالعتها وإمعان النظر فيها وجدت بعض مؤلفيها قد أصاب، والبعض الآخر قد أخطأ جادة الصواب. ومن المستغرب أن يصل عسكري إلى رتبة فريق وهو لا يعرف اللغة التركية مثلاً. فمحمد بن عبد القادر كان يتقن على الأقل ثلاث لغات ساعدته بقوة في حياته العملية والثقافية: العربية والتركية والفرنسية. وعلى الرغم من شح المعلومات الخاصة بتكوينه إلا أنه من الطبيعي أن يكون عسكري مثله وصل إلى رتبة فريق قد اطلع على النظم العسكرية الأوروبية وساعدته في ذلك ثقافته ولغاته. فهناك تسرع كبير في الأحكام عند الأستاذ ممدوح حقي، لكن هذا لا يمنعنا من القول إنه لعب دوراً مهماً في الحفاظ على ميراث الأمير عبد القادر، وأبنائه، بنشره وشرحه. فلولاه لضاع جزء مهم من هذا الميراث العظيم والمهم. بقي أن نشير إلى أن لمحمد باشا مؤلفات أخرى، طبع أغلبها في سوريا، لها علاقة مباشرة بما كان والده يمارسه حياتياً وكتابياً، مثلاً اهتمامه بالجياد والسهر عليها. في هذا السياق، فقد ألف الأمير محمد كتاباً مهماً في الجياد ومواصفاتها وخاصياتها تحت عنوان: «عقد الأجياد في الصافنات الجياد»، ومختصره: «نخبة عقد الأجياد». كلاهما في الخيل ومحاسنها وما قيل فيها وعنها. طُبِعا في سوريا، لكن أعيدت طباعة الكتاب «عقد الجياد» في وزارة الثقافة المغربية. وله أيضاً مجموع ثلاث رسائل، ما تزال مخطوطة إلى اليوم: الأولى «ذكرى ذوي الفضل في مطابقة أركان الإسلام للعقل»، والثانية «كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب»، والثالثة «الفاروق والترياق في تعدد الزوجات والطلاق»، وقد جارى فيها مجرى والده في التأليف باهتمامه بالقضايا الاجتماعية المتعلقة بالدين والعقل والزواج والطلاق، وغيرها مما كان يشغل المسلم في ذلك الوقت.
العودة إلى هذه الشخصيات المهمة والمنسية، هي عودة إلى الذاكرة الجمعية المرهفة التي بدأت تنخفض حتى تتلاشى. ويظل الفنّ هو حائط الصد الأخير في وجه كل الهمجيات.