حرية قتل الآخرين!
جلست على المقعد الخشبي على رصيف الشارع الباريسي (الشانزليزيه) وأنا أتأمل شعارات الذين يتظاهرون، وأكاد لا أصدق ما يدور، فأنا امرأة من العالم الثالث (رغم إقامتي لعقود في باريس) وإنهم يتظاهرون ضد اللقاح الذي يحميهم من الإصابة بوباء كورونا، بالمقابل أجد أن من حسن حظ المواطن الفرنسي أن يجد لقاحاً ضد وباء قاتل ينتقل بالعدوى.
ماذا يريد المتظاهرون؟ يريدون عدم تلقي اللقاح، وبالتالي عدم حمل Pass sanitaire أي الشهادة التي تثبت أنهم تطعوا لكي يصير في وسعهم الدخول إلى المطاعم والمسارح ودور السينما بدون أن يسببوا العدوى للجالس إلى جانبهم.
الحرية ليست حرية القتل!
منذ البداية، يوم علمنا بهلع بوصول الفيروس من الصين، ظهر رئيس جمهورية فرنسا ماكرون على معظم قنوات التلفزيون الفرنسي قائلاً باختصار: «نحن في حالة حرب. والعدو هو فيروس كورونا» ولم يكن مخطئاً. ومات الآلاف في تلك الحرب ريثما جاء زمن التطعيم ضده (وأنا من الذين سارعوا إلى تلقي اللقاح).
المشكلة مع وباء كورونا هو انتقاله بالعدوى، أي أنك إذا لم تتلق اللقاح لن تموت وحدك، بل ستسبب العدوى للآخر وتقتله معك. وبالتالي، فإن حرية تلقي اللقاح أو رفضه التي يطالب بها المتظاهرون في عدة مدن فرنسية وبالآلاف ليست اعتداء على حريتهم الغالية على قلوبهم كفرنسيين، بل هي كما قال رئيس الجمهورية السيد ماكرون منذ أيام: «عليك أن تتلقى التطعيم، لا من أجلك بل من أجل الذين تحبهم ولا تريد أن تسبب لهم الموت» وهو كلام مختزل وجدته مؤثراً.
لا يعون مدى حظهم!
بعض الفرنسيين لا يعي أن وجود اللقاح في بلده لمن يشاء حظ كبير.. فثمة بلدان من العالم الثالث تنتظر أن تتبرع لها الدول الثرية بجرعات اللقاح لرعاياها، حيث لا يتكبر أحد على اللقاح، بل يشكر الخالق على نعمة وجوده ووصوله إليه. فاللقاح ينقذ الأرواح! ولكن المتظاهر الفرنسي ضد اللقاح يعتبر إرغامه على تلقيه اعتداء على حريته، وهو ما لا يطيقه أي فرنسي. حين بدأ الوباء كان الناس في باريس يفتحون نوافذهم ويصفقون في الساعة الثامنة مساء للذين يعالجون المرضى بوباء الكورونا. اليوم لم نعد نسمع تصفيقاً، بل نسمع شجاراً بين من يرضون بنعمة اللقاح، والذين يرفضونه بذريعة رفض الاعتداء على حريتهم الشخصية!.. ولكن ماذا عن حرية (الآخر) الذي قد يصيبونه بالعدوى وبالتالي بالموت شبه المحتوم؟
لماذا لا تتظاهرين معنا؟
كنت ما أزال جالسة على المقعد الخشبي في شارع الشانزليزيه الباريسي أتأمل ما يدور حين تقدمت مني متظاهرة شديدة الحماسة من أجل حريتها في عدم تلقي اللقاح، وسألتني: لماذا لا تنضمين الينا للتظاهر من أجل حرية تلقي اللقاح أو ضده مثلنا، فالحرية أغلى من الحياة.
لم أقل لها إنها حرة بحياتها لا في حياة الآخرين وإصابتهم بالعدوى، لأنني لم أكن أبحث عن شجار ولا أجهل أنني لن أقنعها، فقلت لها كاذبة: لأنني لا أستطيع المشي!
وهنا اعتذرت مني ومضت في طريقها. من غريب المصادفة أن أحد المتظاهرين في الصفوف الأمامية ضد التطعيم نام ليلتها في المستشفى لإصابته بالوباء، وكان يتظاهر في النهار ضد التطعيم!
الحرية مقدسة، والحياة كذلك!
الحياة هدية من الخالق تعالى، وليس من حقنا عدم الحفاظ عليها قدر الإمكان، وبالتالي رفض تلقي اللقاح المضاد لكورونا بذريعة الحرية. ومن طرفي، أخط هذه السطور لأقول إن تلقي اللقاح ضد كورونا هو الواجب مع رفض الذرائع كلها، أما القول بضرورة حرية التطعيم أو عدمه، ومن لا يريد (التطعيم) عليه ألا يرغم الآخرين على رفضه.
شتم الدين الإسلامي الحنيف للشهرة!
ثمة ضالون مثل الشابة الفرنسية ميلا (17 سنة) التي هاجمت الدين الإسلامي والقرآن الكريم على وسائل التواصل الاجتماعي. وقيل إنها مراهقة وتريد الشهرة بأي ثمن.
ولعلها لم تكن تتوقع ردة الفعل العنيفة على ذلك، فقد تلقت آلاف الرسائل المستنكرة، ناهيك عن التهديد بالقتل، وصارت القضية لا تتعلق بشهوة «ميلا» للشهرة بل بسلامة حياتها.
وهكذا تقدمت بالشكوى إلى الشركة الفرنسية بذريعة حرية الرأي، بل وشبهت نفسها بما حدث لمحرري جريدة (شارلي ايبدو) الشهيرة.
إذا أكرمت الكريم ملكته!
وكما سبق وذكرت، تمت دعوة ميلا إلى جامع باريس وأحبت تسامح شيوخه في تعاملهم معها لتفهم أن (الإسلاموفوبيا) من صناعة أعداء الدين الإسلامي الحنيف.
يقول الشاعر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وآمل أن تعرف ميلا القيمة المعنوية لاستقبالها في جامع باريس، وأن تطالع النسخة المترجمة إلى الفرنسية من القرآن الكريم لتعي أن ما كانت تشتمه دونما معرفة به، يستحق التقديس.