«دجلة وفرات»: مهند أبو خمرة وحيوية الدراما العراقية
«دجلة وفرات» مسلسل عراقي من إنتاج قناة الشرقية 2021 كان عرضه الأول في شهر رمضان الماضي، وهو من تأليف وإخراج مهند أبو خمرة، الذي اختار له العنوان الفرعي «حكايات من هوى بغداد» للدلالة على أنه الجزء الثاني من مسلسل «هوى بغداد» 2019 وعلى أن المغامرة الفنية لا تزال مستمرة وإن توقفت لمدة عام من أجل القضية الوطنية، عندما ترك الجميع مواقع التصوير وذهبوا إلى ساحة التحرير للمشاركة في مظاهرات الشعب العراقي.
في عشر حلقات فقط يعرض أبو خمرة الكثير من طاقاته الإبداعية وقدراته الفنية كمخرج وكاتب ورسام، وعاشق لا يمل من مغازلة معشوقاته بغداد والبصرة والموصل وبابل، وكل قطعة من أرض العراق، والغريب أن المشاهد يشعر بأن المكان يحبه أيضاً ويطمئن إليه كالجميلة التي يتضاعف جمالها وتزداد تألقاً أمام حبيبها، هذا الحب هو ما يمكنه من إبداع دراما عراقية خالصة تحمل قدراً كبيراً من الحيوية والجمال، رغم كل الظروف والصعوبات، كما أن الحب هو موضوعه الفني الأول والأساسي المقترن لديه بالجمال، لذا يبحث عنهما دائماً، ويستطيع أن يجدهما حتى وسط الدمار والموت وأقصى درجات الخوف.
دجلة امرأة جميلة، وحبيبة ذكية وفاتنة هي الفنانة التونسية العراقية زهراء بن ميم، وفرات رجل وسيم، وعاشق شجاع وحنون هو الفنان العراقي علي عجينة، لا بد لهما أن يلتقيا وأن يقع كل منهما في غرام الآخر، مهما ابتعد المكان واختلف الزمان وتناقضت الهيئة، سيتم العشق وإن كان أحدهما بشراً والآخر من الجن، أو كان أحدهما من طين والآخر تمثالا من حجر، ولن يموت العشق وإن كان أحدهما حياً والآخر ميتاً، كل منهما نهر تجري مشاعره بلا توقف، وفي كل حلقة دجلة جديدة وفرات جديد وقصة حب مختلفة، حيث يقدم أبو خمرة أفكاراً عن الحب تتنوع ما بين البساطة والتعقيد، والسعادة والألم، والواقعية والاستحالة، أما لحظة الوقوع في الغرام وبارقة الحب الأولى فهي من اللحظات المثيرة في أغلب الحلقات، يعرضها المخرج بهدوء وسلاسة، ويعبر عنها بطلا العمل بتلقائية ودون مبالغة، كما في الحلقة التاسعة حلقة داعش على سبيل المثال، حيث لا مجال لتبادل كلمات ونظرات الغرام بين الفتاة المسيحية والجندي الذي قام بتحريرها من داخل كنيسة مهدمة في الموصل، ولا يزال يواجه الخطر الذي يحيط به من كل جانب، ولا تزال هي تعاني أقصى حالات الذعر والهلع، ويكاد جمالها يختفي وراء سوء حالتها الجسدية والنفسية، لكن المشاهد يصل إليه الشعور بالحب، من خلال إحساس الممثلين وحركة جسديهما، عندما تسير دجلة خلف فرات ممسكة بذراعه، كما أن مظاهر التعبير عن الحب تختلف من حلقة إلى أخرى، فقد تكون عناداً وتحدياً وتنافساً بين اثنين، يرى كل منهما أنه صاحب الكاريزما الأقوى والجاذبية الأكبر، كما في الحلقة الثالثة المتميزة بأجوائها العراقية شديدة المحلية، من ناحية اللهجة والملابس والعادات والتقاليد، وقد تكون مشاكسات لا تنتهي وشجارات لا تتوقف، بين مخرج وممثلة كما في الحلقة السابعة، وقد تكون ندماً شديداً يشعر به من خان الثقة، وثمناً باهظاً يدفعه من صدق وآمن ووثق كما في الحلقة الأولى.
على مستوى الكتابة يميل أبو خمرة إلى تكنيك القصة القصيرة بدرجة كبيرة، حيث الوحدة والتركيز والإيجاز، واختصار الشخصية إلى خطوطها الرئيسية، ولا استغناء عن المفاجأة بالطبع، بل إنه عمد إلى الخداع في بعض الحلقات والإيهام وترك المشاهد في مساحة ما غامضة بين الوهم والحقيقة، حتى بعد أن تنتهي الحلقة وتنكشف جميع جوانب الحكاية، كما في الحلقة السادسة الأليمة حلقة حادثة غرق العبّارة، فبعد أن يعرف المشاهد من غرق ومن نجا، يظل يتساءل من هم الأموات ومن هم الأحياء حقاً، فالموتى يدون في حال جيدة بينما الأحياء ليسوا أكثر من بقايا حطام بشري، كما يلاحظ المشاهد التطور في بناء الشخصيات والحوار في هذا العمل، وإن كانت لغة الصورة هي الغالبة دائماً لدى أبو خمرة بطبيعة الحال، لأنه مخرج ورسام في المقام الأول، لكن قوة الفكرة وقوة الخيال من أهم سماته ومميزاته ككاتب، وهو يكتب ويعبّر عن أفكاره ويقول ما يريد بحرية ويوصل رسائله المهمة ببساطة ودون تعقيد، يمزح كما يشاء بخفة ظل، ويخلق الضحكات على الوجوه، ويكسر الخيال أحياناً متعمداً وكأنه يعرض قدرته على التحكم بمخيلة المشاهد وفصله للحظات عن الحكاية ثم إعادته إلى داخلها مرة أخرى، كما في الحلقة الرابعة عندما يذهب فرات إلى شراء «كيك أبو خمرة» فيضحك المشاهد ثم يعود إلى متابعة قصة الحب بين دجلة بائعة الكيك وفرات مطربها المفضل، وكذلك في الحلقة الثانية والحديث أثناء مشهد جسر الصرافية، عن مشهد آخر تم تصويره على الجسر نفسه في مسلسل «هوى بغداد» وعن بطل الجزء الأول «أسر ويست» وغيرة فرات منه، ولا يؤثر ذلك على متابعة رحلة دجلة المقبلة من لندن والمتأففة من كل شيء وتراه سيئاً مع فرات الذي يعلمها كيف ترى وتشعر بجمال العراق، وهو يكسر الخيال أيضاً كمخرج بطريقة مفاجئة قاسية وصادمة للمشاهد، وتزيد الحلقات المؤلمة ألماً وحزناً، حيث يقوم بإدماج مقاطع حقيقية من الواقع مع المقاطع التمثيلية، ويحتاج المشاهد إلى بضع ثوان حتى يدرك أنه يشاهد لحظات غرق حقيقية، التقطتها كاميرات المراقبة في حلقة حادثة الموصل، أو أنه يشاهد لقطات توثيقية لضحايا ومحررين في حلقة داعش، فيشعر بالفرق الشاسع الرهيب بين الخوف المتخيل والخوف الحقيقي، وللموسيقى دائماً مكانها الأساسي في أعمال أبو خمرة، حيث تبدأ جميع الحلقات وتنتهي بأغنية دجلة وفرات، التي تم إخراجها بشكل بسيط وساحر، يمتع المشاهد برؤية النهر ومياهه، وذلك النخيل على شاطئه الذي لا يشبهه أي نخيل آخر، ولكل حلقة أيضاً أغنيتها الخاصة التي تعبر عن قصة الحب والحدث الدرامي.
كأن المخرج يريد أن يقول أن الفنان الحقيقي لا يمكن أن يكون مجرماً، أو يجب أن لا يكون مجرماً، والجميل في هذه الحلقة أن أبو خمرة، لم يأت بنماذج مثالية مملة في مقابل النموذج الشرير البشع، فدجلة وفرات، أو الممثلة والمخرج لا يتوقفان عن الشجار، ولا يتردد فرات في توجيه أقسى الملاحظات اللاذعة الساخرة من أدائها التمثيلي.
ولمظاهرات التحرير مكانها في المسلسل، وإن تناولها المخرج من جانب خاص وبعيد لكنه مهم، يتخلل قصة الحب بين المخرج والممثلة في الحلقة السابعة، حيث يعقد مقارنة بين الفنان الحقيقي المحتفظ بإنسانيته، والوحش في صورة فنان، أو الممثلة دجلة التي تشارك الشعب آلامه وتذهب إلى حيث يكون في ساحات تظاهره، والممثلة مارينا التي تقف ضد الشعب وتسعى لاختطاف البطولة من دجلة، فتذهب إلى المخرج وتفشل في إغوائه، وبعد أن يطردها من بيته تذهب إلى المنتج فيقول لها «إنتِ خسرتِ جمهورك بسبب مواقفك ضد المتظاهرين، جمهورك هو رصيدك الحقيقي، إنتِ تحصدين هسه نتائج مواقفك، الفنان موقف، والفنان رسالة إنسانية كبيرة» فتحاول الفنانة/ المجرمة قتل دجلة وتطلق عليها الرصاص، ثم يراها المشاهد بالملابس البيضاء وراء القضبان، وكأن المخرج يريد أن يقول أن الفنان الحقيقي لا يمكن أن يكون مجرماً، أو يجب أن لا يكون مجرماً، والجميل في هذه الحلقة أن أبو خمرة، لم يأت بنماذج مثالية مملة في مقابل النموذج الشرير البشع، فدجلة وفرات، أو الممثلة والمخرج لا يتوقفان عن الشجار، ولا يتردد فرات في توجيه أقسى الملاحظات اللاذعة الساخرة من أدائها التمثيلي، ولا يتورع عن ضربها بقالب من الكيك في وجهها، بعد أن تقوم هي بسكب المشروب الغازي على ثيابه، لكنه يظهر عطفه وحنانه، عندما يكون بجوار سريرها في المستشفى، وبعد أن تتعافى يعود إلى مناكفتها مرة أخرى.
وقد تألقت زهراء بن ميم في هذه الحلقة، كما تألقت في بقية الحلقات بتطور في الأداء التمثيلي وتنوع كبير أيضاً، ومن أقوى الحلقات بالطبع الحلقة السادسة التي جسدت فيها شخصية تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، وعبّرت بجسدها جيداً عن حالة الضياع والتشويش، والتحطم النفسي، وتحديداً من خلال حركة يدها على أذنها وارتعاشات الخوف وهي في طريقها إلى المصّحة النفسية، وكانت فاتنة في الحلقة الثالثة بالثوب الأحمر والعباءة العراقية السوداء، وهي تلعب دور دجلة القوية والمهابة في منطقتها، أو «الدولة العميقة» في الشارع الذي تسكن فيه، كما يسميها فرات جارها وحبيبها، أما علي عجينة وفي أول بطولاته قام بتقديم عدد من الشخصيات منحته الفرصة لعرض مهاراته كممثل، وربما لاكتشافها أيضاً، ويميل أسلوبه إلى الهدوء في استخدام الصوت والتعبير من خلال العينين، ويستطيع أن يوصل الإحساس المطلوب ببساطة، كما في الحلقة الثالثة عندما كان يخيف الجميع ويخضعهم له، ويقوم حتى بضربهم بهدوء تام دون صراخ مزعج أو مبالغة في العنف وباختصار أيضاً، وتساعده ملامح وجهه الصافية على التعبير عن المشاعر الرومانسية البريئة، والتعاطف مع الآخرين، أما التعبير عن لحظات القوة والغضب أو الكوميديا والشقاوة في مغازلة الحبيبة فيكون أكثر من خلال تغير نظرة العينين، وكان متألقاً بدرجة كبيرة في الحلقة العاشرة حلقة المحافظين، ويبدو الأداء أكثر إتقاناً والإحساس أكثر اكتمالاً، وتلائمه تلك القبعة القديمة أو غطاء الرأس التقليدي العراقي القديم، حيث تدور الحلقة بين زمنين وعالمين مختلفين. ولا شك في أن الحلقة الثامنة حلقة أسد بابل هي من أجمل وأهم حلقات المسلسل، فكرة وكتابة وإخراجاً، تضمن بعض التقنيات والخدع والمؤثرات البصرية الجديدة على هذا العمل، وتتناول الحلقة كارثة نهب الآثار وقصة الحب التي تحتضنها حضارة إنسانية عريقة، وهي تذكر المشاهد بحلقة القشلة في مسلسل «هوى بغداد» والحق أن هذا النوع من الحلقات يكون غنياً بمعلوماته التاريخية وانطلاقه الخيالي بصورة بديعة، ولا تخلو الحلقة من المواقف الكوميدية، وما أجمل ذلك المشهد الذي يقف فيه أسد بابل آخر فرسان الأرض، وخادم لوح الأقدار، على شاطئ نهر الفرات ويقول «فرسان الأرض مثل الفرات عمرهم من عمر الأرض» ثم ينزل ليقف وسط النهر، ويرفع يديه إلى أعلى فتتحرك موجاته، وكذلك مشهد النهاية عندما تقف دجلة عالمة الآثار أمام تمثال أسد بابل الحقيقي أو حبيبها الذي تجسد لها بشراً ثم عاد حجراً مرة أخرى.
كاتبة مصرية