احتضار الديمقراطيات الغربية
ضرغام الدباغ
لم تكن العنصرية الجديدة التي بشر بها الباحثان الأمريكيان: صاموئيل هينتغتن (Samuel Huntington) وفرنسيس فوكوياما، (Francis Fukuyama) سوى المسمار الحاسم في نعش الديمقراطيات الغربية، مع أنها ليست جديدة كل الجدة على الاطروحات السياسية الرأسمالية. وكلا الباحثان عاشا وترعرعا (بصرف النظر عن اصولهما العرقية) وتعلما في المعاهد والجامعات الرأسمالية، وعايشا حقب الحرب الباردة بكل تفاصيلها، ثم أنهما عملا في المؤسسات العلمية المولجة بتقديم صياغات نظرية للقيادات السياسية الرئيسية (وزارة الخارجية ــ البنتاغون (وزارة الدفاع) والمخابرات الأمريكية CIA …الخ)، وبالتالي فإنهما ينتميان إلى أشد الدوائر رجعية واعتدائية في متروبول الرأسمالية العالمية ومؤسساتها السياسية، والتي تنظر (تؤدلج) للمناهج العدوانية. ويحاولان منح الفاشية الجديدة مسحة وأساساً (Foundation) لنظرية ذات قيمة علمية، ففشلا في ذلك فشلاً ذريعاً.
لابد من الإشارة إلى المرحلة التاريخية لطرح محاولة التنظير هذه. فقد بزغ نجم هذان الباحثان في ظروف تاريخية هي غير تلك الظروف التي برز فيها فلاسفة أمريكيون نظروا للبراغماتية (Pragmatism) ممن سبقوهم من فلاسفة من العصر الوسيط والحديث، لذلك ليس من المدهش مطلقاً أن يبزغ نجم هذان الباحثان مباشرة بعد انقضاء الحرب الباردة، وانهمكا كثيرا في تقديم مسوغات وفحوى آيديولوجي لإبقاء تماسك وتلاحم المعسكر الرأسمالي العالمي، حتى بعد تفكك المعسكر الاشتراكي، وحلف وارسو، وانظمام روسيا الاتحادية والصين إلى نظريات السوق والتجارة الحرة، وهو ما أسقط الباعث الاقتصادي أو أضعفه بدرجة كبيرة، كمبرر نظري للتكتل وبهدف إضفاء التوتر في السياسة الدولية.
وقد شهد العلم السياسي الاستعماري في مختلف العصور تعديلات، ولكنها تكن بتعديلات جوهرية على أية حال بل هو ضرب من أحداث ملائمة (Adaptation) ومسايرة للعصر ومتطلباته، تمثلت بالفلسفة البراغماتية (Pragmatism)، وهي فلسفة تستند أساساً إلى قواعد رجعية إنتهازية واعتداءيه، تعتبر أن النتائج العملية تبرر أساليب الوصول إليها، على هذا النحو فأن بريطانيا الاستعمارية أقامت أمجادها وثرواتها اعتمادا على الاعتداء على شعوب أخرى، بل هي استخدمت أبناء المستعمرات في الحروب الاستعمارية ضمن سياسات الضم والإلحاق، واستنكرت وقاومت وقمعت أي عملية تحرر ومقاومة أبدتها الشعوب المستعمرة، وعلى بحر من الدماء والآلام والتضحيات التي قدمتها شعبنا شعوب كثيرة في العالم. أو لم تكن %84، من مساحة اليابسة في العالم حتى مطلع القرن العشرين تدار استعماريا.
في أمريكا (الولايات المتحدة) بالذات وجدت المناخ المناسب (وتلك ليست مصادفة…!) لتطوير الأفكار البراغماتية، حيث دارت على الأراضي الأمريكية وعلى مدى سنوات طويلة صراعات سياسية / عسكرية استعمارية، بريطانية / فرنسية / أسبانية، ثم لظروف وأسباب لا مجال لها هنا، تأسس مجتمع رأسمالي حديث (دون مقدمات تاريخية سابقة) يمتلك قدرات الانطلاق، كان (James William) وليم جيمس (1842 ــ 1910) أحد أبرز مفكري هذه المدرسة التي أطلق عليها البرغماتية، أي المذهب العملي. وقد وجدت هذه الأفكار إيضاحا لها عند الفيلسوف الأمريكي تشارلس ساند بيرس(Charles Sanders Peirce) (1839 / 1914) الذي أعتبر العمل مبداً مطلقاً بإعلان هذه القاعدة (أن تصورنا لأي موضوع هو تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر) . (1)
(الصورة : الفيلسوف تشارلس ساندرس بيرس)
مضى علماء آخرون في منح هذا المذهب الانتهازي، الاعتدائي القائم على مبادئ القوة والغلبة في منحه أبعاد فلسفية عميقة باستعارات من فلسفات أوربية مثل جورياروس الأمريكي (1855 – 1916)، والأهم كان الأمريكي جون ديوي ((1859 – 1952. وتصف الموسوعة الألمانية (Duden) مذهب البراغماتية باختصار (أن حقيقة كل الأفكار والنظريات تقيم بدرجة نجاحها) فهي أذن عملية تجميل وعصرنة (Modernisation) للميكافيلية، على أن روحها الانتهازية مازالت تبدو واضحة ودقيقة، ولكن هذه النظرية (وهناك من ينتقدها في العالم الغربي الرأسمالي) كانت العماد النظري / الفلسفي للسياسات التي أتبعتها الدول الرأسمالية الاستعمارية التي أباحت لنفسها فعل كل شيء مقابل الحصول على أهدافها الاستعمارية التوسعية، والأخلاق مسألة نسبية تماماً ولا أهمية واقعية لها. لا تنطوي على أي قدر من الاحترام لمصالح الآخرين، بل مصالحها .. ومصالحها فقط ….! فنظام عصبة الأمم الذي وضعته الدول الاستعمارية المنتصرة في حرب استعمارية، في إطار اقتسام جديد للعالم، أباحت لنفسها فيه صراحة تسلطها (حق الشعوب المتقدمة من الآخذ بيد الشعوب المتخلفة….الخ) من خلال نظام الأنتداب (Mandatssystem) والتخلف هنا لم يكن يعني سوى هزيمتها (الدول الصغيرة والمتخلفة ) في الحروب الاستعمارية مقابل الدول الصناعية، وهذا الحق المزعوم أخذ استلابا وليس اتفاقاً أو بالاستشارة.
(الصورة : الفيلسوف جون ديوي)
وبالطبع فأن الدول الاستعمارية مارست كل ما في وسعها في إطار السيطرة والهيمنة على مجتمعاتها، وعلى قارات العالم، وارتكبت آلاف المجازر وحملات الإبادة في العالم، وهناك مئات من الكتب والمصادر تحدثنا عن مئات ألوف من الهنود ماتوا وهم يحفرون أنفاق المترو في لندن، وملايين من العبيد الأفارقة ماتوا تحت سياط المستوطنين وهم يستصلحون أراضي الغرب الأمريكي، وكذلك الإبادة الشبه تامة للهنود الحمر في أمريكا، وقاتل عرب وسنغاليون وأفارقه آخرون في جيوش فرنسا الاستعمارية، وهنود وباكستانيون ( ضمن الجيوش الهندية) ونيوزيلنديون وأستراليون وكنديون وأقوام أخرى كثيرة ضمن الجيوش البريطانية، هذا عدا عن الاعتداءات التي شنتها دول استعمارية على شعوب آمنة فقتلت مئات الألوف بل الملايين من تلك الشعوب، وهذا ما فعلته بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا وهولندا والولايات المتحدة واليابان، وسائر المتربولات الرأسمالية.
وإذا كانت التطورات على مسرح السياسة الدولية قد أرغمت الأساليب الاستعمارية على التراجع شكلاً، إلا أن جوهرها ما زال عدوانياً نهابا ويفتقر إلى الأخلاق والشرعية القانونية، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة لا حصر لها، ففي كل بقعة من الكرة الأرضية هناك شواهد شاخصة تطل على الإنسانية وهي تحمل آثار جروح أو نزف مستمر بسبب الأنشطة الاستعمارية : سياسياً واقتصاديا وعسكرياً وثقافياً، في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وفي استخدام مفرط للقوة المسلحة في العلاقات الدولية، وفيما يتعرض له العراق وفلسطين وليبيا والصومال وأفغانستان)تحررت 15/ أب / 2021 على أيدي شعبها)، ابرز شواهد وأدلة في العصر الحديث على ذلك، وما هذه العولمة Globalisation، إلا استعمار وإمبريالية الألفية الثالثة ونسخة حديثه عنها لنهب وجلد شعوب العالم.
بيد أن العولمة وهذه هي التسمية الثانية لها، إذ قوبلت التسمية (النظام الدول الجديد) الجديدة برفض عالمي واسع النطاق (New world system)، فقد بدت توسعية وعدوانية واضحة، أبدلت بمصطلح العولمة (Globalisation)، التي وضعت أهداف التوسع خلف كلمات براقة توحي بالأمل، ولكن ما تسرب من أقاويل أفصحت عن النوايا … فالعولمة هي بأختصار، أن تعتبر الرأسمالية العالمية وتفرعاتها وأدواتها، أن العالم بأسره عبارة قرية كبيرة بقيادة العمدة الأكبر متربول الرأسمالية الاحتكارية الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك تفاهمات سرية بين أقطاب المتربول على تقاسم المغانم على الصعيد العالمي. وقد تدور بينها صراعات دموية من أجل هذه المغانم.
وإذا كانت الشعارات الآيديولوجية قد اضمحلت وتلاشت (تقريبا) ولم تعد تدور بين رأسمالية واشتراكية، فقد كان فر تواصل بل واشتداد حلف الناتو والسعي المحموم لتوسيعه في بلدان شرقي أوربا، ولم يعد هناك مغزى آخر سوى التوسع المالي وكسب النفوذ. وجاءت اطروحات هنتغتن وفوكوياما فقط من أجل إيجاد ذرائع لمواصلة التوتر والعداء، وشد أواصر التحالف الغربي (الرأسمالي / المسيحي) والإبقاء على قوته ونفوذه السياسي / الاقتصادي / العسكري في العالم. وسيتخذ هذا التحالف ذرائع غير مبررة لإبقائه متفوقا سياسيا واقتصادي وعسكرياً، و في مواقع الهجوم والسيادة.
وكانت الولايات المتحدة وحليفاتها، يتمترسون وراء شعارات خلابة :
- اقتصاد السوق الحر.
- اتفاقية التجارة العالمية.
- الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وحين أتبعت البلدان الاشتراكية (روسيا والصين) نظام اقتصاد السوق الحر وأحرز نظامها الجديد (المطّْعّم)، تذرعت الولايات المتحدة بأتفاقيات التجارة الحرة، وحين أنظمت لها البلدان الاشتراكية، ضاقت الولايات المتحدة بالتجارة الحرة ذرعاً، وراحت تتمسك بحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان غير مخترقة في مكان في العالم كما هي في الولايات المتحدة والبلدان الرأسمالية، على أساس اللون والدين والمذهب، وليست هناك بلدان في العالم يتعرض فيها المواطنون إلى التميز كما في البلدان الرأسمالية ..! وللمسخرة والفكاهة، تعتبر الولايات المتحدة إسرائيل البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط وتحترم حقوق الإنسان. وهي تعلم علم اليقين أن إسرائيل دولة عنصرية بقرار دولي، وأن هناك 156 قانون عنصري يشمل من التملك حتى الزواج والتعليم والعمل … وهذه العنصرية العلنية يعدها الغرب ديمقراطية.
تتميز المرحلة الحالية، الألفية الثالثة بتراجع لمكانة الرأسمالية العالمية ومراكزها الكبيرة، والمحيطية، مقابل تقدم الاقتصاديات الناشئة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وبتراجع مكانتها الاقتصادية، تتكون مشكلات جنينية في البلدان الرأسمالية تقود تفاعلاتها إلى أزمات لم تكن معروفة، أو أنها لم تكن تمثل ظواهر مؤثرة.
فعلى سبيل المثال الظواهر العنصرية / العرقية معروفة في المجتمعات الرأسمالية الكبيرة (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) الفاشية في إيطاليا 1850، النازية في ألمانيا، 1919، الكلوكس كلان في الولايات المتحدة الامريكية 1866، القمصان السود بريطانيا 1930، واليمين الفرنسي الذي تمتد جذوره عميقا في فرنسا المعاصرة.
الجديد في الظواهر على الساحة، هو التطرف الديني الطائفي، ورغم أن التطرف ضد اليهود قديم في أوربا : روسيا القيصرية، فرنسا، ألمانيا، أسبانيا، والآن أضيف الإسلام بسبب الانتشار الإنساني في العالم، فالرأسمالية تزعم أن العالم صار وحدة اقتصادية ثقافية، ولكن ذا محض بروبوغاندا إعلامية، فالغرب لا يحتمل أن لا تأكل إلا مثل طعامه، ويريدك أن تكون الأزياء كما يرتأي .. وتفاصيل أخرى تدخل في صلب حرية الإنسان وخياراته الثقافية والاجتماعية.
وبدون أي مسوغ عقلاني / فلسفي هانتغتن وفوكوياما يقرران، أن صراع الغرب في الحقبة المقبلة ستكون مع الإسلام والكونفوشيوسية ..ولكنهما لا يشيران إلى الجذر الاقتصادي، وهو (Motivation) (الباعث الحقيقي)، ودائماً جوهر الأنظمة الرأسمالية، وأساس للموجة الجديدة للإمبريالية المسماة العولمة (Globalisation)، وهكذا تفعل الإمبريالية في إيجاد تغطية وذرائع كعنوان لحملاتها التوسعية ترفعها كلافتات، بيد أنها أخفقت في شعاراتها العنصرية والدينية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
- ترجمت كلمة البراغماتية (Pragmatism) إلى اللغة العربية بالتفسير الحرفي والمعنى للكلمة (الذرائعية) أن تتخذ ذرائع لتبرير تصرف معين. ونجدها ترجمة موفقة.
بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندة وأسبانيا والبرتغال كانوا يفعلونها بأسم المدنية ..! وبعد الحرب العالمية الأولى، وفي عصبة الأمم قالو حرفياً “” حق الأمم المتقدمة، الأخذ بيد الأمم المتخلف …! “”، ستالين كان يفعلها بأسم الأممية الدولية والاشتراكية، وروسيا اليوم هي خلطة لا تعرفها روسيا من قبل … روسيا إمبريالية …. اليوم يفعلها العالم الحر المتحضر بدعوى قتال منظمات هو أسسها، تلك المنظمات تقتل ألف، العولمة تقتل 100 ألف ..! بعض السذج من العرب وغيرهم، يشدهم حنين مرضي (Nostagia) ويرون إرهاب روسيا بعين حولاء … موسكو عاصمة كادحين العالم …ولكن واقع الأمر وطعمه مر …بل شديد المرارة .. الروس هم نفس الروس، يفعلون كل شيئ بدم بارد، مع فارق أنهم يقتلون عشوائياً ويتشابهون في ذلك مع الأمريكان، ربما الأمريكان يفعلونها بدقة وأناقة أكثر، والروس بهمجية أكثر، ولكن النتيجة هي ذات الخلطة، أسمنت وحجارة مطحونة ومعجونة باللحم والدم، وأطفال يتراكضون هنا وهناك، وأشلاء أطفال ونساء وشيوخ، فالشباب يعرفون كيف يحمون أنفسهم.