القائمة البيضاء: علماء غربيون أنصفوا تاريخنا وقضايانا
علاء اللامي*
قليلة هي الكتب المترجمة إلى العربية في ميدان التاريخ القديم وعلوم الآثار والديانات واللغات القديمة والإناسة قياسا لما يصدر ويطبع في العالم، وأقل منها تلك الكتب التي أنصف مؤلفوها تاريخنا ووقفوا بحزم ضد السردية الصهيوتوراتية التي عاثت فسادا في ذلك التاريخ ومعطياته حتى جعلت من تاريخنا الجزيري “السامي” عموما والعربي والفلسطيني خصوصا مجرد هامش صغير ضمن الرواية التوراتية الملفقة. والواقع، فإن قلة الترجمات العربية لكتب هؤلاء العلماء النقديين الشجعان من أصدقاء الحقيقية لا يعود لقلتهم أو قلة كتبهم باللغات الأصلية على أرض الواقع وإنما يعود في جزء كبير منه لإهمال وكسل وجهل وانعدام الشعور بالمسؤولية الحضارية لدى الجهات الثقافية العربية الرسمية وغير الرسمية.
بهدف التعريف بعدد من هؤلاء العلماء وبإنجازاتهم أقدم أدناه هذا الجرد المأخوذ عن هوامش ومقالات نشرتها أنا وغيري في السنوات الماضية، ورأيت من المفيد جمعها في دليل صغير خدمة للقارئ العربي إيمانا مني بأنه إذا كان جهلك بعدوك خطأ ميدانياً فجهلك بصديقك خطيئة كبرى!
إن التعريف بهؤلاء العلماء يساهم في تفنيد الاتهامات العشوائية والتعميمات الإطلاقية ضد العلماء الأجانب، التي يوجهها بعض الكتاب العرب الخائضين في ميدان الأركيولوجيا واللاهوت والتاريخ القديم والإناسة من حملة الخطاب الأيديولوجي السياسيوي الإنشائي والفقير علميا كالاتهامات بالتزوير والتلفيق البحثي والتآمر وكأن جميع الباحثين والعلماء في العالم صهاينة وتوراتيون متعصبون متجانسون ومتفقون على العداء لنا ولتاريخنا وقضايانا.
إنَّ تزوير الآثار والوثائق والأدلة التاريخية مثلا من قبل ذوي الغرض الديني والسياسي أمر واقع، وهناك أمثلة موَّثقة عليه، ولكن الإنصاف والموضوعية العلمية يوجبان علينا أيضا تسجيل أن هناك باحثين وخبراء أجانب، وحتى في المؤسسة الأركيولوجية الإسرائيلية أحيانا، تصدوا فعلا لعمليات تزوير وتحريف آثار ووثائق تاريخية عديدة وكشفوها وفندوها، مؤكدين بذلك وجود بعض الباحثين الذين يحترمون العلم والتخصص المهني، أو الذين يفعلون ذلك تحت وطأة المنافسة المهنية بين التيارات البحثية والباحثين الأفراد، ومن أشهر الأمثلة على ذلك كشف تزوير نقش تل القاضي في الجليل الفلسطيني الأعلى أو “تل دان” حسب التسمية التوراتية المعاصرة؛ فهذا النقش الذي احتفلت به الأوساط الآثارية في الكيان الإسرائيلي ساهم في كشف كونه مزوراً عددٌ من الباحثين الإسرائيليين من بينهم نداف نعمان المؤرخ والأستاذ في جامعة تل أبيب، وجرينشتاين خبير اللغات الجزيرية “السامية” والأستاذ بجامعة تل أبيب، وزئيف هرتسوغ رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب وصاحب الدراسة المثيرة “التوراة: لا إثباتات على الأرض”، ورولستون الخبير بالنقوش السامية القديمة ورئيس تحرير مجلة (معراف) المتخصصة باللغات والكتابات الجزيرية “السامية”، الذي رأى أنه “ليس من الصعب فضح التزوير في هذا النقش لأنه ليس متقن الصنع ولا يمكن أن يؤخذ بجدية على أنه قديم“، كما ذكر د. عصام سخنيني من كلية الآداب بجامعة البتراء في مقالة له حول الموضوع. ومن خارج فلسطين المحتلة، من أوروبا، ساهم في كشف تزوير هذا النقش كل من غاربيني وكيرير وليمشي.
أما الباحث الرافض لتأريخية التوراة فنكلشتاين فقد تورط في الدفاع عن القراءة التوراتية المزيفة للنقش، في كتابه “التوراة مكشوفة على حقيقتها”، وقد انتقدتُ تفسيراته الخاطئة هذه وقدمت محاولة لتفنيد ما ذهب إليه في مناسبة سابقة.
والخلاصة؛ هي أن استسهال إطلاق الاتهامات بالتزوير دون دليل أو قرينة أو حجة مُفحِمة وحاسمة يضرُّ بمطلقِها ويفقده صدقيته ويحوِّله من باحث جاد ورصين في ميادين البحث العلمي الآثاري والإناسي والتأثيلي والتأريخي إلى مجرد خطيب سياسي شعبوي هجّاء ليس إلا.
لقد سرَّني ما أثارته مقالة صغيرة نشرتها قبل فترة للتعريف بالعالِم الشجاع توماس طومسون من ردود أفعال القراء؛ وفي هذا ما يشبه المفاجأة والكشف، إذْ تأكد لي أن طومسون اسم مجهول أو شبه مجهول لدى القراء العرب رغم أنه هو واحد من أشهر مَن كتبوا بإنصاف وعلمية في تاريخ فلسطين وشعوبها القديمة والتوراة وخرافيتها ولاتاريخيتها؛ لذا، وجدت من المفيد التعريف به وبعلماء آخرين، ربما لم يسمع بهم القارئ، بسبب هيمنة الإعلام الغربي وحتى العربي المنحاز أو الجاهل بحقيقة الأمور ولنبدأ بهذا الاسم لعالِم جليل ما يزال عطاؤه العلمي متواصلا رغم تقاعده الوظيفي، ضمن قائمة تتضمن التعريف بأكثر من اثني عشر عالما وباحثا:
اضطهاد طومسون:
ولد توماس طومسون (Thomas L. Thompson) في 7 كانون الثاني/يناير 1939 في ديترويت بالولايات المتحدة الأميركية. نشأ متخصصا بحثيا في الدين الكاثوليكي وتخرج بشهادة (ليسانس / بكالوريوس الآداب) من جامعة دوكين، بيتسبرغ، بنسلفانيا، في عام 1962.
–أصبح مدرساً لاهوتياً في جامعة دايتون من عام 1964 إلى عام 1965، ثم أستاذًا مساعدًا لدراسات العهد القديم بالجامعة في ديترويت من عام 1967 إلى عام 1969.
–درس اللاهوت للكلية الكاثوليكية بجامعة توبنغن، وأكمل أطروحة الدكتوراة الخاصة به حول “تاريخ الروايات. البطريركية: البحث عن إبراهيم التاريخي”، في عام 1971.
–رُفِضت أطروحته للدكتوراة لأن أستاذه الذي أجرى الامتحان والتقييم، الأب جوزيف راتزينغر، أستاذ علم اللاهوت ورجل الدين الذي سيصبح سنة 2005 بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر، اعتبرها غير مناسبة لعالم لاهوت كاثوليكي.
–فكر طومسون في تقديم أطروحته إلى الكلية البروتستانتية في توبنغن، والتي اضطر إلى تركها في عام 1975 دون دبلوم. تمت دعوته بعد ذلك لإكمال دراسته في جامعة تمبل في فيلادلفيا، حيث تخرج أخيراً لدراسات العهد القديم بتقدير امتياز في عام 1976.
–أدى الجدل الذي أثارته هذه الأطروحة المنشورة في الأوساط الأكاديمية الأمريكية المحافظة إلى منع كاتبها من الحصول على وظيفة في إحدى جامعات الأميركية.
–ظل غير قادر على تأمين وظيفة له في الأوساط الأكاديمية الأمريكية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، واضطر للعمل كمدرس في مدرسة ثانوية وكبواب عمارة وصباغ منازل حتى عام 1984.
–حصل سنة 1984 على منصب أستاذ زائر في مدرسة القدس للكتاب المقدس. ولكن هذه المدرسة تعرضت لانتقادات شديدة من قبل الدوائر الصهيونية الإسرائيلية التي عارضت الشكوك التي أثارها طومسون حول موضوع تاريخية القصص ذات الأصل اليهودي وطُرد من وظيفته.
–عمل طومسون على أسماء الأماكن الفلسطينية لمصلحة منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، لكن المشروع توقف بسبب اتهامات التي وجهتها له الأوساط الصهيونية بأنه معاد للسامية، وبسبب انتقاده لممارسات “نزع التعريب” الإسرائيلية في فلسطين وفرض العَبْرَنَةِ بدلا من العربية.
–في عام 1975م عاد طومسون من ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ونظراً للمعارضة الشديدة لآرائه في الأوساط العلمية الأمريكية، حُرم من التدريس في الجامعات الأمريكية، وهو يتحدث عن نفسه في جريدة الحياة فيقول: تقدمت بأكثر من 200 طلب توظيف خلال 12 عاماَ من 1974وحتى 1986م، لكن لم تسنح لي الفرصة خلالها إلا لمقابلة جدية واحدة.
–لكسب العيش وتأمين متطلبات حياته اليومية تحول طومسون إلى عامل للدهان “الصبغ” في بيوت الناس، وعامل يدوي يشتغل حيثما يوجد العمل يديوي، فعمل لفترة بوابا ولكنه لم ينقطع عن العلم، وكان ينفق وقته في مساء نهاية الأسبوع في البحث العلمي لدراسة العهد القديم، ولقد استمر الوضع هكذا لمدة عشر سنوات، حتى عين أستاذاً مساعداً في المدرسة اللاهوتية بالقدس عام 1985م، واستمر في هذه الوظيفة قرابة سنة.
–كما اشتغل في جامعة ماركويت وجامعة لورنس، وهما جامعتان كاثوليكيتان، وخاضعتان للجهات التبشيرية، وبما أن أبحاثه وتوجهاته كانتا في سمت مخالف للجامعة الكاثوليكية، فالجامعة قررت الاستغناء عن خدماته. بعدها عين طومسون أستاذاً لتدريس العهد القديم في جامعة كوبنهاجن بالدانمارك، وكان ذلك في عام 1993م واستمر فيها حتى تقاعده عام 2009 حاملا لقب أستاذ فخري.
–أصدر أكثر من عشرين كتابا مهما ترجمت خمسة منها إلى العربية. كما أصدر أكثر من 170 مرجعا علميا في تاريخ فلسطين والأدبيات التوراتية.
–رغم تقاعده ما يزال يواصل عمله وأبحاثه العلمية بنشاط، وآخر نشاط علمي له كان تقديمه سلسلة من المحاضرات في فلسطين المحتلة قبل سنتين، رفقةَ زوجته الباحثة أنغريد يلم، حيث ألقيا محاضرات وعقدا لقاءات مع الطلاب الفلسطينيين بدعوة من البيت الدنماركي الفلسطيني في جامعة الخليل وفي المتحف الفلسطيني ببيرزيت وفي دار الآثار جامعة القدس – أبو ديس، وأماكن أخرى وقد جمعت وترجمت عشر من تلك المحاضرات وصدرت سنة 2019 في كتاب يحمل عنوان “الماضي العصي” عن دار الناشر في رام الله.
بسالة وكرم كاثلين كينيون:
2-الباحثة الآثارية والمنقبة البريطانية د.كاثلين كينيون (Kathleen Kenyon): كانت أول امرأة ترأست جمعية جامعة أوكسفورد للآثار. توفيت قبل أن تتم مشروعها الآثاري في القدس والذي توقفت عن إكماله احتجاجا على مضايقات السلطات الصهيونية لها وتخريبها للآثار الفلسطينية بعد حرب 1967، عندما كانت تجري تنقيباتها في القدس. وقد كتبت حينها رسالة نشرت في صحيفة “التايمز” اللندنية قالت فيها: “ذكرت عدة صحف أن السلطات الإسرائيلية قامت بحفريات بجانب السور الغربي للحرم الشريف بالقدس، ولقد عدت لتوي من القدس، وأستطيع الجزم بأن التقارير لم تبالغ بما كتبت… وهناك إشاعات بأن الحفريات ستستمر على طول سور الحرم، حيث توجد أروع الأبنية الإسلامية التي بنيت في القرون الوسطى… إن إتلاف هذه الأبنية يعتبر جريمة كبرى، ولا يعقل أن يتم تشويه الآثار القديمة بمثل هذا النوع من الحفريات ذات الأسلوب البالي، مما يتوجب على الرأي العام العالمي تقديم كل دعم لإيقاف هذه الأعمال البربرية”.
ولم تقتصر انجازات د. كينيون على أعمال الحفر والتنقيب في حيفا وأريحا والقدس، وما أصدرته من مؤلفات حول تلك الأعمال، وإنما تجاوزتها إلى مجالات أخرى كثيرة، فإليها يعود الفضل في إنشاء مركز “الاعتماد الفلسطيني المالي للتنقيب” الذي ترأسه والدها العالم الآثاري واللاهوتي هو الآخر سنة 1937 وحتى سنة 1948، ثم انتقلت رئاسته إليها حتى وفاتها عام 1978. وكانت المهمة الرئيسة لذلك المركز جمع التبرعات لمتابعة الأبحاث الأركيولوجية في فلسطين، وصدرت عنه العديد من الكتب والمنشورات عن فلسطين، منها حوالي 13 كتاباً و84 مقالاً لها فقط معظمها عن فلسطين. وترأست د. كينيون منذ عام 1951 المركز البريطاني للآثار في القدس، وتمكنت خلال فترة رئاستها الطويلة لهذا المركز من توسيع المكتبة، ونشر مجلة باسم المؤسسة. كما أنشأت بيتاً كبيراً لإقامة الباحثين الغربيين القادمين إلى فلسطين لأغراض البحث والتنقيب/ مقالة للدكتور إبراهيم فؤاد عباس بعنوان/ كاتلين كينيون: اسم ينبغي على كل فلسطييني أن يعرفه!”
3- الباحثة الهولندية مارغريت شتاينر (Margaret Steiner) : تولت إكمال أعمال د.كينيون عبر دراسة متقنة لما خلفته زميلتها الراحلة من معطيات على الورق في كتاب مهم هو “القدس في العصر الحديدي” ونشرت عملها في كتاب بعنوان “فلسطين في العصر الحديدي” والكتاب مترجم إلى اللغة العربية ومتوفر بنسخة مجانية رقمية “P.D.F” على النت.
ويتلام يكشف العلاقة بين الصهيونية السياسية والتوراتية الآثارية:
4– د.كيث ويتلام (Keith W. Whitelam) : أستاذ جامعي، وباحث في الكتاب المقدس ومؤلف للعديد من الكتب والمنشورات عن الكتاب المقدس وإسرائيل، ومدير شركة نشر متخصصة في دراسات الكتاب المقدس. وهو أحد ممثلي مدرسة كوبنهاجن، إلى جانب توماس طومسون، وفي كتابي “موجز تاريخ فلسطين/المقدمة” اعتبرته (أول من شخص حقيقة “إنَّ الارتباط التاريخي والمضموني بين الرؤية الصهيونية الاستراتيجية والرواية الدينية التوراتية والمشروع السياسي المباشر لدولة “إسرائيل” العنصرية أمور علائقية لا يمكن نكرانها. في كتابه “اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني” وهو مترجم إلى اللغة العربية وتتوفر منه نسخة مجانية رقمية “P.D.F” على النت ، يسمي كيث دبليو وايتلام تاريخ إسرائيل القديمة “اختراعا”. ويستنتج د.ويتلام من ذلك استنتاجاً صحيحاً مفاده (هذا يعني أن التاريخ الإسرائيلي، ويهودية الهيكل الثاني، اللذين كانا حكراً على الدراسات التوراتية حتى عهد قريب، يشكلان في الحقيقة جزءاً من التاريخ الفلسطيني، بينما التاريخ الإسرائيلي، الواقع تحت هيمنة الدراسات التوراتية، قد سيطر على المشهد العام لفلسطين لدرجة أنه أسكت فعلياً كلَّ مظاهر التاريخ الأخرى في المنطقة، من العصر البرونزي حتى الفترة الرومانية“.
ميلر براوس و”قضيته الفلسطينية”:
5–د.ميلر براوس ( Miller Burrows) الرئيس السابق للمدرسة الأميركية لأبحاث الشرق والأستاذ الفخري في جامعة ومؤلف كتابين مهمين ومرجعيين عن مخطوطات البحر الميت ومؤلف كتاب “فلسطين هي قضيتنا”. وقف هذا العالم ضد مدرسة بالتيمور(التي أسسها وترأسها وليم أولبرايت إلى جانب ورايت وغلوك في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي والتي ربطت علم الآثار التوراتي بالأيديولوجيا الصهيونية وقسمت شعوب فلسطين القديمة الى “إسرائيليين أخيار” و”كنعانيين أشرار” ورفضت وناهضت كل من لا يُقِرُّ بتاريخية التوراة وصحة رواياته التاريخية) وقف ضدها بحثيا بقوة ودافع عن الشعب الفلسطيني وتاريخه إلى درجة التخلي وقطع ارتباطاته بالمدرسة الأميركية لدراسات الشرق وكرس جل وقته لدراسة النكبة الفلسطينية سنة 1948 وأصدر كتابه “فلسطين قضيتنا” سنة 1949 وأهداه إلى “المنكوبين والمشردين من الشعب الفلسطيني الأصلي في الأرض المقدسة”، كما وجه الكتاب برسالة إلى المسيحيين الأميركيين حول “الخطأ الرهيب المرتكَب بحق الشعب الأصلي لهذا البلد” قاصدا الشعب العربي الفلسطيني.
6–المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (Arnold Toynbee): صاحب نظرية الاستجابة والتحدي في التاريخ، شجب في كتابه دراسة التاريخ “الأعمال الشريرة التي ارتكبتها الصهيونية بحق العرب الفلسطينيين، وقارنها بالجرائم التي ارتكبت بحق اليهود إبان الحرب العالمة الثانية“.
7–العالم الانثروبولوجي واللاهوتي الأميركي وليم جي ديفر ( William J. Dever) وصف مدرسة بالتيمور التوراتية وصفها بأنها مدرسة بروتستانتية رجعية لدراسة العهد القديم “الجزء الأكبر من التوراة”، نمت خلال عقد الثلاثينات المحافظ في أميركا واستمرت سائدة حتى عقد الستينات من القرن الماضي وقد تحول أولبرايت إلى داعية صهيوني صريح. أما زميلهما أرنست رايت فلم يكن يميز بين علم الآثار وعلم التوراة ويرفض الفصل بينهما ويجعل من علم الآثار مستندا لإثبات صحة مرويات التوراة حتى لو كان ذلك بطريقة تلفيقية ولا علمية.
باحثون يهود منصفون:
8–ومن الباحثين اليهود في الكيان الصهيوني الذين يكتبون في هذا الشأن بشيء من الموضوعية والحياد العلمي النسبي يمكن ذكر الباحث إسرائيل فنكلشتاين رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب، وزميله دافيد أوسيشكين، اللذين أكدا أن ما يسميه اليهود ’قدس الأقداس’ “لم يشيّد في عهد سليمان وإنما قبله بمئة عام، وأن هذا العهد غامض جداً، وليس هناك أي سند أو دليل آثاري لما ورد في العهد القديم بشأنه”. ونذكر أيضا الباحث الأميركي نيل سلبرمان شريكه في تأليف كتابه المهم “التوراة مكشوفة على حقيقتها”/ وتتوفر منه نسخة مجانية رقمية “P.D.F” على النت. وعالم الآثار وأستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب البروفيسور زئيف هرتسوغ صاحب دراسة ومقولة “التوراة: لا إثباتات على الأرض“.
باحثون آخرون مخلصون للعلم:
9-الباحث الدنماركي نيلز ليمكِه “ليمشي” ( N.LLemche ) الذي توصل في أبحاثة إلى إنَّ ما سُميَّ إمبراطورية داود وسليمان لم تستمر أكثر من أربعين عاما، ثم عادت مملكتا إسرائيل ويهوذا إلى مساحتهما الطبيعية والتي تقارب مساحة جزيرة غوتلاند الصغيرة “ثلاثة آلاف كم² تقريبا” من مجموع مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم²!
10–فيليب ديفيس (Philip Davies) مؤلف كتاب “البحث عن إسرائيل القديمة” والذي توصل فيه الى الاستنتاج التالي: “إن إسرائيل القديمة المذكورة في الدراسات التوراتية هي من اختراع عقول العلماء وإن هذا الاعتقاد مبني على فهم خاطئ للتراث التوراتي بل إنه بعيد عن الحقيقة التاريخية” كما اقتبس وايتلام عنه.
11–هناك أيضا البريطاني جوناثان تيب (Jonathan Tubb) الذي يعد من أكبر علماء الآثار في تاريخ العالم العربي في المتحف البريطاني والذي دافع عن العالم توماس طومسون بوجه الاضطهاد الذي مارسه التوراتيون ضده فقال إن “طومسون دقيق جدا في بحثه العلمي الكبير وشجاع في التعبير عما كان كثير منا يفكر فيه حدسا منذ زمن طويل وإنْ كانوا قد فضلوا كتمانه“.
12–كرستوفر إيدن (Christopher Eden) صاحب الدراسة المهمة عن أعمال ويتلام وفنكلشتاين وركز فيها على السؤال الرئيسي التالي: “كيف تظل تلك البنية القوية التي تشكلها المعتقدات الدينية الشخصية والمواقف السياسية والتوجهات الأكاديمية وكذلك الخبرات التاريخية والأيديولوجية للمجتمع الواسع موجودة باستمرار سواء بشكل صريح أو ضمني، وذلك في ميدان العمل التاريخي بوجه عام، والتاريخ التوراتي بوجه خاص وكذلك علم الآثار التوراتي“.
13–هناك علماء وباحثون منصفون آخرون كتبوا بحيادية علمية وموضوعية في موضوع التاريخ الفلسطيني القديم لا نعرف عنهم الكثير وورد ذكرهم في أبحاث زملائهم ومنهم:
–آلستروم L.Ahlstrom
– كناوف E.Knauf
– وويبرت H.Weippert
أختم بالإشارة إلى أن إنصاف هؤلاء العلماء والباحثين وإطرائهم والتعريف بهم لا يعني بأي شكل من الأشكال الاتفاق تماما مع جميع أطروحاتهم وأبحاثهم وتصريحاتهم وتزكيتها مائة بالمائة، إنما يعنينا منهم الخط النقدي والموضوعي العام الذي ساروا عليه وأغلب الاستنتاجات المهمة والمنصفة التي انتهوا إليها واطلعنا علينا في ما تُرجِمَ ونشر منها. وقد يكون فاتني ذكر أسماء علماء وباحثين آخرين منهم، أو التوقف عن بعض أبحاثهم وكتبهم المثيرة للجدل والاعتراض مما لم نطلع عليه، ولكن المؤسف هو أن ما ترجم من أعمال وأبحاث وكتب هؤلاء العلماء الشرفاء الشجعان الى اللغة العربية قليل جدا وبجهود فردية لباحثين ومترجمين عرب دون أن تتولى مؤسسة أو دار نشر عربية أو فلسطينية هذا العمل المهم والكبير، وهذا سبب من أسباب جهلنا بأصدقاء قضيتنا من باحثين وعلماء شجعان وشرفاء دفعوا ثمن مواقفهم وإنجازاتهم العلمية كما حدث فعلا مع البروفيسور توماس طومسون.
*كاتب عراقي