أمسية مع علي الشوك: الفرعون «الملتزم»!
كان اتصال هاتفي من أحد الأصدقاء أثناء زيارتي للعاصمة الأردنية عمّان قبل أكثر من عشرة أعوام، خير فرصة للفرار من مشاغل يوم متعب، حيث كنت قد بدأت أشعر بالإرهاق وتواقا للتحدث حول أي شيء سوى العمل، لاسيما التحدث مع صديق عزيز.
وبعد السلام والسؤال عن الأخبار اقترح الصديق عليّ تناول العشاء في منزله، خاصة أنه قد دعا كذلك كاتبا معروفا من العراق. ولم يكن الصديق في حاجة إلى إغرائي لزيارته، إذ كنت تواقا للقائه، لأننا لم نلتق من سنوات طويلة. ولكنه نجح في إثارة فضولي عن ذلك الكاتب العراقي، فمن المؤكد أنني لم التقِ به نظرا لابتعادي عن الوسط الأدبي العراقي. وقطع صديقي عليّ حبل تساؤلي بسرعة بقوله إن الكاتب هو علي الشوك. وكان ذلك مفاجاة بالنسبة لي، فعلي الشوك كان أحد أشهر الكتاب في المجال الثقافي، والأيقونة الثقافية للحزب الشيوعي لعقود مضت. وجعلت منه ماكنة الحزب الإعلامية كاتبا «عظيما» وممثلا للثقافة العراقية الحديثة، على حد قول الحزب الذي يعتبره الكثيرون مرجعا رئيسيا للمعايير الثقافية.
«الكتاب الملتزمين»
ومن الطبيعي أن يكون الرجل من «الكتاب الملتزمين» وهو لقب أضفته الأحزاب الشيوعية في جميع البلدان العربية على أتباعها وأنصارها من الكتاب مهما كانت درجة كفاءتهم. وقد تساءل الكثيرون عن معنى كلمة «الملتزم» فما هي المعايير اللازمة، وهل هي صفة جيدة أم سيئة؟ ويدعي البعض أن اللقب يشير إلى التزام الكاتب بالأخلاق والمبادئ، بعيدا عن الإغراءات المادية والجنسية والدينية، ولكن الحقيقة مختلفة تماما لأن اللقب يعني في الحقيقة التزام الكاتب بالحزب وأفكاره وقراراته. وفي المقابل يقوم الحزب بتحويل ذلك الكاتب إلى شخصية ثقافية كبيرة عن طريق دعاية منظمة بدقة. وللحزب الشيوعي مصلحة في هذا، فهؤلاء «الكتاب» ينشرون مبادئه ودعايته السياسية، وفي الوقت نفسه يجعل هذا الحزب يبدو وكأنه حزب المثقفين. أما بالنسبة للكاتب، فانها خير طريقة للشهرة والوصول إلى الصفوف الأولى في ميدان الثقافة بغض النظر عن الكفاءة.
التصق تاريخ الحزب الشيوعي بادعاء الثقافة، حتى ادعى البعض أن كل مثقف في العالم شيوعي، على الرغم من أن كبار المثقفين في التاريخ لم يكونوا أبداً شيوعيين.. وأما كون بعض المثقفين يدافعون عن الضعفاء وينتقدون الجوانب السيئة من الحياة، فلا يعني ذلك أنهم شيوعيون، إذ أن الشيوعية شيء مختلف وأكثر قتامة. وينسى البعض أن المثقف الحقيقي هو المستقل في فكره والواسع في اطلاعه، والمدرك لواقعه والساعي إلى الحقيقة، ولذلك، فإن صفة الالتزام بأفكار حزب معين تعري المثقف من أحد أهم جوانب الثقافة الحقيقية، وتحوله إلى مرتزق يستعمل القلم بدلا من البندقية.
التصق تاريخ الحزب الشيوعي بادعاء الثقافة، حتى ادعى البعض أن كل مثقف في العالم شيوعي، على الرغم من أن كبار المثقفين في التاريخ لم يكونوا أبداً شيوعيين.
كنت قد قرأت لعلي الشوك مقالا نقديا عن كتاب صدر في الولايات المتحدة الأمريكية قبل فترة قصيرة، كنت متحمسا لمناقشة هذا المقال مع الكاتب «الشهير». وكان ذلك المقال قد أثار استغرابي لعدة أسباب، منها ذكر علي الشوك في نهاية المقال أنه لم يقرأ الكتاب، ما اثار ذلك تساؤلي، فكيف بإمكان أي ناقد كتابة مقال مطول عن كتاب دون قراءته، إلا إذا كان قد اعتمد على تحليل نقاد آخرين، مما يقلل من احترام القارئ لذلك الكاتب ومقاله.
وافقت على تلبية دعوة صديقي فورا، ووعدته بأنني سأكون عنده تمام الساعة السابعة مساء، وأعطاني العنوان الذي كان في أحد أحياء عمّان الجميلة. وصلت إلى منزل صديقي في الموعد المحدد، وكان منفعلا بشكل واضح لمجيء علي الشوك، ما زاد من فضولي حول تلك الشخصية الأدبية. وكان علي الشوك موجودا لأن صديقي كان قد اصطحبه بنفسه من فندقه.
ألقيت التحية على الكاتب «الشهير» ولكن رد فعله كان بالغ البرودة حيث تمتم بكلمات غير مفهومة وبصوت واطئ دون أن يبتسم، بل نظر إليّ بشكل غير ودي، وكأنني قد أزعجته بحضوري. وأمعنت النظر إليه، كان طويل القامة، أصلع الرأس، جالسا على الكرسي محدقا نحو الحائط وكأنه فرعون. بدا صديقي بالحديث الودي المعتاد، محاولا أن يكون مرحبا بقدر الإمكان، ولكن علي الشوك، كان فاتر الرد، بارد الكلام طوال الوقت، بل كان بالكاد يقول شيئا، مفضلا توجيه نظره نحو الحائط عوضا عن النظر إلى صاحب الدعوة كي يبادله الحديث بشكل متحضر، ونظرت إلى المكان الذي كان ينظر إليه لعلي اكتشف سبب اهتمامه، ولكن ذلك الحائط كان خاليا. ولم أستسغ هذا التصرف من قبله، ولكني وجدته في الوقت نفسه مضحكا، إذ إنني عرفت أن بعض الكتاب مصابون بالنرجسية، ولكن نرجسية علي الشوك فاقت تصوراتي.. وأخذت أتصرف وكأنني أشاهد مسرحية فكاهية، وتجاهلته تماما مركزا الحديث مع صديقي، الذي شعر بالحرج لمقاطعتي ضيفه الفرعوني. ولم أستطع الاستمرار في إحراج صاحب الدعوة، لاسيما أن علي الشوك أكبر مني سنا بكثير، وقد علمتنا تقاليدنا احترام كبار السن، ولذلك، بدأت بالحديث الودي معه، فسألته بلطافة عن ذلك المقال، دون أن أعلق عن كونه قد اعترف هو نفسه بعدم قراءة الكتاب، لأنني لم أكن أنوي إحراجه، فإذا بفرعون يتكلم أخيرا، ولكن دون أن ينظر إليّ أو إلى مضيفه، ويا ليته لم يتكلم حيث نفى علمه بالمقال تماما ونافيا أنه قد كتبه. وكان من الواضح أنه حاد الذهن وذو ذاكرة ممتازة، ولكن جهله بمقال له نشر في صحيفة عربية معروفة، أثار استغرابي، إذ إنني لم أصادف كاتبا ينفي كتابة مقال له. وأردت أن أخفف من توتر الموقف، فأخبرته بمعرفة والدي الجيدة بشقيقه رضا، منذ أيام المدرسة الثانوية، ولكن رد فعل علي الشوك، أدهشني حيث ارتبك فجأة لسبب ما، وسألني كيف تعارفا بقلق واضح، وما جعلني أزداد فضولا حول الكاتب «الكبير» إخباره لي إنه لا يقيم في عمّان، بل إنه في زيارة وحسب، وإنه يقيم في أحد أكثر فنادق العاصمة فخامة، ما جعلني أتساءل، فالكتاب يتجنبون الفنادق الباهظة التكاليف، لكون أوضاعهم المالية لا تسمح لهم بارتيادها. وعندما أخبرته إنني كنت في اليمن، سألني إن كانت كتبه تلقي رواجا هناك، ولم يخفِ انزعاجه عندما أخبرته إنني لم أجد أي كتاب له في المكتبات اليمنية.
كان ضحية الجلسة صاحب الدعوة المسكين، الذي شعر بأن مسار الأمسية لم يكن في الاتجاه الصحيح، ما جعلني أشعر بالشفقة عليه، ولذلك، كنت أحاول جاهدا أن أختلق حديثا ممتعا، كي تنتهي الأمسية بشكل مرضٍ، ولكن علي الشوك لم يحاول الاشتراك في الحديث، بل بقي ينظر إلى الحائط متفوها بكلمة ما بين الحين والآخر، ما جعلني انزعج من غروره الاستعراضي. وفجأة قال إنه معجب بالموسيقار الألماني بيتهوفن، ولم تكن لملاحظته أي علاقة بمجرى الحديث، ومع ذلك قررت أن اجاريه، فقلت إنني أفضل الموسيقار الروسي تشايكوفسكي، حيث إنني كنت قد بدأت أشعر بالملل من كثرة استماعي لموسيقى بيتهوفن. وسارع علي الشوك بقوله بيتهوفن.. بيتهوفن بإصرار واضح. وهنا قررت ألا أجامله، وقلت إن بيتهوفن فنان عظيم، ولكنني أفضل تشايكوفسكي.
وأخذ الغضب يظهر على محياه حيث كرر اسم بيتهوفن، وكررت أنا اعتراضي محاولا كل جهدي عدم الضحك لسخافة الأمر، فإذا بعلي الشوك يستدير نحوي رافعا قبضتيه، وكأنه ملاكم على وشك توجيه ضربة قاضية لي، قائلا بصوت عال «أنت لا تعرف شيئا عن الثقافة الألمانية». وهبّ هنا صاحب الدعوة ضاحكا بقوله «أستاذ علي، والدة زيد ألمانية، وهو يتكلم الألمانية، ويحمل الجنسية الألمانية» فإذا بمعالم وجه علي الشوك تتغير، وكأنه اصيب بصدمة نفسية وقال «ماذا؟ لم أكن أعرف ذلك» واستقام في جلسته وتغير كل شيء في شخصيته، حيث أخذ يجاملني وتحول إلى إنسان وديع جدا معي، بل إني وجدت نفسي أتكلم مع شخصية مختلفة تماما في ما تبقى من الأمسية. ولم يعرف علي الشوك أنه فضح نفسه، فمن الواضح أن معيار الثقافة بالنسبة له ليس الثقافة بحد ذاتها.
بعد نهاية الأمسية، اعتقدت أنني لن أسمع عن علي الشوك بعد ذلك. ولكنني كنت مخطئا، حيث كتب مقالا في جريدة عربية معروفة، أنه من أصول غير عراقية، وأن عائلته ارستقراطية وكانت تملك نصف بغداد.. وأن أحد أقاربه ذهب إلى المؤسسة الحكومية المسؤولة عن تسجيل الأملاك، واكتشف أن الورقة المتعلقة بأملاك العائلة قد انتزعت من الملف، إذ أن العائلة المالكة العراقية، استولت على جميع ممتلكاتها.
مبادئ الفكر الشيوعي
وكرر هذا الادعاء في مقابلة معه على إحدى القنوات التلفزيونية المعروفة. وهذا الادعاء عار عن الصحة ويدل على عدم معرفة المدعي بطريقة تسجيل العقارات في الدوائر الرسمية العراقية، ولم تسرق العائلة المالكة العراقية أي شيء من أي أحد، بل إنها لم تملك أي عقارات في العراق، بالاضافة إلى ذلك أن عائلة علي الشوك لم تكن ثرية على الإطلاق، بل إن والده لم يكن يملك سوى الدار المتواضعة التي كانت عائلته تسكنها. وقد يكون هذا سبب ارتباكه عند إخباري له بمعرفة والدي بشقيقه، إذ كان ذلك يعني معرفتي بخلفيته الاجتماعية، وقد أثبت هذا الادعاء غير الصحيح كذلك أن علي الشوك لم يكن مؤمنا بمبادئ الفكر الشيوعي، إذ أن الشيوعي الحقيقي يفتخر بأصوله الفقيرة، ولا يحاول اختلاق أصول ثرية أو أرستقراطية غير حقيقية. وقد بدأ هو نفسه حياته المهنية مدرس ثانوية فقيراً. ومن غير المعروف سبب هذا الادعاء، فهل اعتقد أن جهة ما ستعوضه ماديا كتعويض لتلك السرقة المفتعلة؟
لم يكن هذا الادعاء الوحيد الذي أثار دهشتي، بل إنه في المقابلة التلفزيونية نفسها، ادعى أن أصول البريطانيين والأيرلنديين من شمال العراق. وليس هذا النوع من الادعاءات عارياً من الصحة وحسب، بل إنه يتعارض مع جميع المفاهيم العلمية والتاريخية، ولكن هل كان الرجل جاهلا بخطأ ما قاله؟
وإذا كان كذلك، فلماذا قال ذلك على شاشة التلفزيون، وماذا كان دافعه؟ ليس لديّ الجواب، ولكن امتلاكه الجرأة على اختلاقها وذكرها عن طريق وسائل الإعلام أثار دهشتي، وفي نهاية المطاف أخذت اتساءل عن مشكلة «الكتاب الملتزمين» ومصادر أفكارهم الغريبة.