أكاديميات مزيفة وشهادات مزورة تغزو العراق
مع علم الجميع بالحالة المتردية التي وصل لها حال التعليم العالي في العراق، إلا أن تصريح عضو لجنة التعليم النيابية رياض المسعودي، كان صادما. إذ أكد عضو البرلمان العراقي عن وجود (30-40) ألف شهادة مزورة في العراق. الوجه الآخر للكارثة، بحسب تصريحات المسعودي أيضا، أن الآلاف من مزوري الشهادات الدراسية ضبطتهم الجهات المختصة، وتمت إحالتهم للقضاء، إلا أن قانون العفو الذي أصدره البرلمان العراقي عن هذه الجرائم، والذي يعد من أسوأ القوانين التي صدرت حتى الآن، أخرج المزورين ومن يحملون الشهادات المزورة من المشكلة، من دون أي ردع جزائي على ارتكابهم لهذه الجرائم.
أسواق التزوير التي تُصدر الشهادات المزورة في العراق متعددة، وأسعار الشهادات مختلفة بحسب الدرجة الأكاديمية، و»جودة» التزوير، لكن هنالك جانبا خطيراً ربما لم يدرجه المراقبون في تناولهم هذه المشكلة، وأقصد هنا «الجامعات الوهمية» و»الأكاديميات المزيفة» التي انتشرت في أوروبا واشتغلت على بيع الشهادات للراغبين في دخول الحياة السياسية العراقية بوجاهة يزينها حرف الدال الذي يسبق أسماءهم.
وربما كانت أشهر»الأكاديميات المزيفة» التي يحمل شهاداتها عدد من رجال الحكومة والعملية السياسية، بمستوى وزراء واعضاء مجلس نواب في العراق هي «أكاديمية البورك للعلوم» ومقرها في الدنمارك، ويديرها دنماركي من أصل عراقي هو طلال النداوي، وفي هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على هذه «الأكاديمية» بناء على تحقيق استقصائي قام به الصحافي البريطاني برايان ويتكر المختص بشؤون الشرق الأوسط، وقد استعنت بترجمة وتحرير فقرات من هذا التحقيق. يقول ويتكر إن «أكاديمية البورك للعلوم» ليست جامعة، على الرغم من أنها تتظاهر بأنها كذلك، وهي المؤسسة الأحدث في سلسلة من المؤسسات التي يديرها القطاع الخاص، والتي وجدت لتعمل في أوروبا، من دون اعتماد مناسب، لتقوم بإصدار شهادات جامعية عليا للراغبين من الشرق الأوسط، لكنها في الواقع لا قيمة حقيقية له،. وقد تم مؤخرا الكشف عن اثنين من هذه المؤسسات المزيفة في النرويج بناء على جهود الصحافيين العاملين في التحقيقات الاستقصائية، ومنذ ذلك الحين، تم الكشف عن مؤسسات مشابهة في هولندا، والآن في الدنمارك أيضا.
الحاصلون على مؤهلات من الدول الأوروبية يثيرون إعجاب أصحاب العمل المحتملين في الشرق الأوسط، ويحققون مكانة اجتماعية
على الرغم من أن هذه «الجامعات» مقرها في أوروبا، إلا أنها تستهدف العملاء العرب، ويديرها في الغالب المغتربون العرب، ولا تتكون بعض هذه المؤسسات إلا من موقع إلكتروني يتم تشغيله من منزل أو مكتب مستأجر، لكن غالباً ما تكون لديهم أسماء تشبه أسماء المؤسسات الأكثر شهرة. كما إنهم يتجنبون الحاجة إلى الحرم الجامعي المادي، من خلال تقديم دورات «التعلم عن بعد» إذ يمكن للطلاب، بعد دفع رسومهم، تنزيل مواد التعليم الذاتي من الموقع الإلكتروني للمؤسسة.
المؤهلات من الدول الأوروبية مطلوبة كثيرا في الشرق الأوسط، والحاصلون على هذه الشهادات ما زالوا يثيرون إعجاب أصحاب العمل المحتملين، ويحققون أيضاً مكانة اجتماعية، بالتأكيد أن الحصول على شهادة من جامعة معترف بها يدل على مستوى جيد من التحصيل، لكن عندما تأتي الشهادة من مؤسسة غير معتمدة فلا توجد قيمة لذلك، إذ غالبا ما يكون من غير الواضح مقدار التعليم الفعلي الذي توفره هذه المؤسسات المشبوهة، أو ما يتعين على الطلاب القيام به للتخرج، بخلاف دفع الرسوم. بعض الجامعات المزيفة في النرويج لجأت إلى حيلة أخرى هي إصدار شهادات الدكتوراه «الفخرية» التي لا يتطلب إصدارها متطلبات تعليمية معينة، وبذلك تكون قد تبنت حيلة بسيطة لجعل شهاداتها تبدو وكأنها شهادات أكاديمية أصلية.
إن إنشاء جامعة في أوروبا يحتاج عموما إلى موافقات حكومية، ولا يُسمح للمؤسسات التعليمية في الدنمارك بتضمين كلمة «جامعة» في اسمها ما لم يصرح لها القانون بذلك، وتلتزم «أكاديمية البورك للعلوم» حرفيا بهذه القاعدة، ولكنها لعبت على التسميات ووصفت نفسها، في مناسبات مختلفة، بأنها جامعة أو أعطت انطباعًا بأنها جامعة، ويمكننا التحقق من ذلك بالنظر إلى الوثائق الصادرة عنها والتي ترد في بعض فقراتها كلمة جامعة. كما تم تغيير الصياغة مؤخرا من «مؤسسة جامعية» إلى «مؤسسة أكاديمية»، ولكن تمت إضافة بعض المتطلبات الجديد، إذ يتحدث موقع الأكاديمية عن تقديم «العديد من الدورات الجامعية» ويشير إلى الأكاديمية على أنها «جامعة عالمية رائدة»، وبنظرة متأنية يمكننا أن نكتشف أن العبارة الأخيرة تظهر في موقع المؤسسة أسفل عنوان يقول «الرؤية»، أي بعبارة أخرى، إنها تطلعات وليست حقيقة واقعة.
على أرض الواقع تعمل «أكاديمية البورك» في مبنى حديث كبير في منطقة ميناء فريدريكشافن، ولكنها تحتل جزءا صغيرا منه فقط، إذ يشير الدليل الدنماركي إلى وجود 175 شركة أو منظمة تعمل مكاتبها في هذا المبنى. اثنتان من هذه الشركات أو المكاتب هما «جمعية المؤرخين الدوليين للثقافة»، و»الاتحاد الدولي للأكاديميين العرب» يتشاركان على ما يبدو مكتبا مع «أكاديمية البورك للعلوم»، لأن الثلاثة لديهم رقم الهاتف الأرضي نفسه. وتظهر صورة على موقع الأكاديمية الإلكتروني اسمها وشعارها فوق المدخل الرئيسي للبناية، ما يعطي انطباعا بأنها تشغل المبنى بالكامل، لكن إذا دققنا في صور المدخل من مصادر أخرى سنكتشف أن لافتة اسم الاكاديمية غير موجودة وربما تكون قد أضيفت بالفوتوشوب. كما أن هنالك بعض المؤشرات الأخرى على أن هذه الأكاديمية ليست «الجامعة العالمية الرائدة» التي تطمح أن تكون، إذ يحتوي موقعها الالكتروني على صورتين بدون إشارات توضيحية، ولكن قد يُفترض من السياق أنهما من مكتبة الأكاديمية، ويُظهر البحث عن تلك الصور في غوغل أنها مجرد صور عامة مستخدمة في العديد من مواقع الويب الأخرى، ولاعلاقة لها بـ»أكاديمية البورك للعلوم». مثل هذه الحيل هي سمة شائعة في مواقع الجامعات المزيفة، وعلى عكس الجامعات الحقيقية، غالبا ما تقدم القليل من المعلومات، أو لا تقدم أي معلومات عن طاقمها الأكاديمي، ما يزيد من الشكوك على أنهم يعملون بشكل أساس في مجال بيع الشهادات الوهمية. وعلى الرغم من ذلك ، نجد أن «أكاديمية البورك» تحاول أن تقدم انطباعا عبر موقعها الالكتروني على أنها أكاديمية تشارك في نشاط أكاديمي مهم. لكن وفي هذا الصدد تبدو وكأنها «جامعة وهمية» أكثر من كونها «جامعة مزيفة»، إذ تفتخر بوجود 12 كلية منفصلة، بما في ذلك كلية الطب، وهناك بعض الملاحظات عن السيرة الذاتية لعميد كل كلية، إذ أن جميعهم تقريبا لديهم بعض الروابط مع الجامعات في العراق.
تدعي أكاديمية البورك أيضا أنها تشارك في الأبحاث وتنشر العديد منها في المجلات الأكاديمية، كما تشير إلى أن هذه المقالات تخضع للمراجعة والتحكيم الأكاديمي الصارم، إحدى مجلات «أكاديمية البورك» الإلكترونية هي مجلة العلوم الطبية، ومدير تحريرها، بحسب الموقع، هو الدكتور علاء بشير المعروف، فهو طبيب تجميل وفنان تشكيلي عراقي مشهور يعيش في بريطانيا، لكن الغريب في الأمر هو جواب الدكتور علاء على اتصال صحافيين استقصائيين يبحثون في موضوع «أكاديمية البورك» إذ نفى الأمر برمته، ونفى تورطه مع «أكاديمية البورك» أو مجلتها. ورد على التساؤل بقوله، «أنا لست عضوا في «أكاديمية البورك» في الدنمارك، ولست عضوا في هيئة تحرير مجلة العلوم الطبية، ربما يكون اسما مشابها، أنا أعيش في لندن». في غياب الاعتماد الرسمي، ليس لشهادات «أكاديمية البورك» قيمة خاصة، لذلك عقدت الأكاديمية عام 2018 اجتماعا مع وزير التعليم العالي العراقي بهدف الحصول على «الاعتراف الكامل» من الوزارة، وفقا لموقعها على الإنترنت.. كما عُقد اجتماعٌ آخر عام 2019 وقيل حينذاك إن الوزير وعد «بتوفير كل الإمكانات الممكنة لإعتماد الأكاديمية»، وانتهى الأمر على ذلك مع عدم ذكر أي تطورات أخرى. لكن الأكاديمية تدعي في موقعها الإلكتروني أن لديها «العديد من الشراكات واتفاقيات التعاون مع العديد من المؤسسات التعليمية حول العالم، مثل الجامعات والمستشفيات والمعاهد». وبشكل أكثر تحديدا، يتحدث الموقع عن تعاون مع ثلاث جامعات عراقية معروفة هي: جامعة بغداد، وجامعة بابل، والجامعة المستنصرية. فهل توقفت «أكاديمة البورك للعلوم» عند هذا الحد؟ لا أعتقد، فهي ما تزال تعمل وتصدر شهاداتها المشكوك بها، وما زال عدد ممن يحملون شهاداتها يشغلون مناصب مهمة في الدولة العراقية.