لنأمل ألا تقلد طالبان سياسة أمريكا في العراق
من الصعب، عند متابعة ما يجري في أفغانستان، ألا يستعيد المرء الأحداث التي عاشها العراق في الأسابيع والشهور الأولى التي تلت الغزو الأمريكي – البريطاني في عام 2003.
تحضر المقارنة، بقوة، عن الفترة الأولى فقط، وليس سنوات الاحتلال كلها، بين الممارسات الأمريكية بالعراق وتاريخ السياسة الأمريكية بالعالم، وممارسات طالبان، الآن، وسياستها الحكومية السابقة. فالعالم كله يرصد بدقة ما ستفعله طالبان. أما المقارنة ما بين انعكاسات الغزو والاحتلال الأجنبي على حياة الشعب العراقي خلال 18 عاما، وهي المتوفرة للعيان والموثقة محليا ودوليا ( بضمنها وثائق دول الاحتلال) وبين ما سيحل بالشعب الأفغاني في الشهور والسنوات المقبلة، جراء سياسة طالبان أو التدخلات الأجنبية أو إستحداث منظمات إرهابية وفق الحاجة أو كلها معا، فهي متروكة للمستقبل، وليد الماضي والحاضر معا.
« نحن لا نأخذ بكلامهم فقط، ولكن من خلال أفعالهم» هكذا لخص الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 31 آب/ أغسطس، الموقف الأمريكي من نظام طالبان. وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد علق على تصريحات طالبان بشأن العفو عن الموظفين وإعطاء المرأة الحق في العمل، في 18 آب/ أغسطس قائلا « إن بريطانيا ستحكم على نظام طالبان بناء على أفعاله وليس على أقواله». الأفعال، إذن، وفق التصريحات الامريكية – البريطانية، هي المحك في التعامل مع طالبان. ويفترض هنا، لكي تؤخذ القوى العالمية جديا من قبل الشعوب، ولئلا تفقد الشعوب إيمانها بمصداقية « القيم « التي يتم تسويقها من قبل هذه الدول، وإذا كانت تريد أن تؤكد على سمو مبدأ سيادة القانون الدولي، أن تطبق هي نفسها ذات السياسة التي تريد للآخرين إتباعها.. فهل تحترم أمريكا وبريطانيا معيار القيم هذا، فعليا، أم انها تتوج حضورها الاستعماري بتكرار الأقوال والمصطلحات عن القيم، العراق نموذجا؟
أطلقت أمريكا وبريطانيا على غزو العراق إسم «عملية الحرية من أجل العراق» تأكيدا لما أعلنه الرئيس الامريكي السابق جورج بوش في يناير/كانون الثاني 2003، أن أمريكا « لا تريد غزو العراق وإنما تحرير الشعب العراقي». فكيف حررت أمريكا الشعب العراقي؟ في 20 آذار/ مارس، تم رش بغداد بالصواريخ والقنابل في حملة «الصدمة والترويع» مما أدى الى تدمير البنية التحتية التي قدّر بول بريمر، رئيس الإدارة الأمريكية في العراق، أن البلاد في حاجة لمليارات الدولارات لإعادة بنائها. بهذه الطريقة حصدت الشركات الأمريكية عقود بناء ما هدمه القصف الأمريكي بأموال عراقية. لاحظوا أن طالبان لم تقصف أفغانستان. في 28 آب / أغسطس، قال ويسلي كلارك، قائد قوات الناتو، إن السياسة الأمريكية خلقت الفوضى في العراق، وإن المشكلة الرئيسية هي أن الولايات المتحدة تميل إلى محاربة الدول للقضاء على «الإرهابيين» بدلا من محاربة «الإرهابيين» أنفسهم.
لم ينفذ الجرائم الوحشية المهينة، في العراق، أمريكيون مختلون عقليا أو مجرد « تفاحات فاسدة» كما تدعي الإدارة الامريكية، بل كانت من صلب السياسة الخارجية
في 9 نيسان/ أبريل ساد النهب والتخريب في بغداد وغيرها من المدن. تعرضت المتاحف وأهمها متحف بغداد الذي يضم كنوزا أثرية، من أولى الحضارات التي عرفها العالم، الى سرقة الآثار. بعد ثلاثة أيام بدأ تخريب المكتبات ومنها المكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف الاسلامية وحرق ما فيها من كتب قديمة نادرة ومخطوطات ثمينة من الحقبتين العثمانية والعباسية، في فعل لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة محو ثقافي متعمد. تم ذلك كله تحت أنظار القوات الامريكية التي لم تتدخل لحماية المتحف أو أي موقع آخر باستثناء وزارة النفط، خلافا لمسؤوليتها القانونية كقوة إحتلال. يومها، قال ريتشارد لانيير، مستشار بوش للشؤون الثقافية « إن الولايات المتحدة تعرف ثمن النفط ولكنها لا تعرف قيمة الآثار التاريخية». برر مسؤولون أمريكيون عدم التدخل بأنهم « فوجئوا» بمدى ما حصل من أعمال سلب ونهب. فهل أصبح أستخدام مفردة « المفاجأة» مبررا شرعيا للافلات من العقاب سواء في العراق أو أفغانستان؟ من يقرأ تصريحات وزير الخارجية دونالد رامسفيلد، سيجد أنه كان مدركا تمام الإدراك لما يجري وتبريره أن «هذه أشياء تحدث» و« أن الناس أحرار في ارتكاب الأخطاء وارتكاب الجرائم والقيام بأشياء سيئة.. وأن النهب ليس غريبا في البلدان التي تعاني من اضطرابات اجتماعية كبيرة». لاحظوا أن أيا من هذا لم يحدث في كابول الآن والتخريب الوحيد كان في المطار الذي يديره الأمريكيون. ولكن، هل يحق لطالبان اليوم إستخدام تبرير رامسفيلد ذاته اذا ما ساد النهب والتخريب بوجودهم؟ ماذا عن الدولة ومؤسساتها؟
في 16 مايو، صرح بول بريمر أن التحالف مصمم على محو مراكز القوى القديمة من الوجود. فقام بحل الجيش العراقي واصدار أكثر من 100 أمر وقرار تشريعي تفصيلي للتحكم بكل مجريات تسيير الحياة. كان من جرائها تفكيك الدولة وجعل نحو أربعمائة ألف شخص عاطلين عن العمل. ومن ثم تطبيق سياسة « إجتثاث البعث» التي شجعت على القتل خارج القانون، ومنح المخبر السري دورا كبيرا في الاتهامات الكيدية، بالاضافة الى حملة الاغتيالات التي طالت العلماء والأكاديميين والطيارين والفنانين. وكان لأمريكا، بمساعدة مترجمين عراقيين وعرب، الفضل الكبير في إبداع أساليب تعذيب في أبو غريب، أدت إلى مساواة المرأة بالرجل تعذيبا.
لم ينفذ الجرائم الوحشية المهينة، في العراق، أمريكيون مختلون عقليا أو مجرد « تفاحات فاسدة» كما تدعي الإدارة الامريكية، بل كانت من صلب السياسة الخارجية، حين صاغت إدارة بوش عمليات محاربة الإرهاب في العالم. ومعظمها يخرق قوانين الحرب والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ تشمل تقنيات طالما تدينها أمريكا عندما تمارسها أطراف أخرى.
وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الحكم مستقبلا على سياسة أية دولة أو حركة إلا من خلال قراءة الماضي، فلنأمل أن تتفادى حركة طالبان، بعد تحريرها أفغانستان من قوات الاحتلال، ما قامت به أمريكا في العراق، وأن تتعامل مع خروقات حقوق الإنسان كجرائم وليست «خيارات سياسية» أو عقابا جماعيا، تفاديا لدورات الانتقام.