فلسطينيو «الزمن المستحيل» يحاكون هوليوود ويخترقون بـ«الأنفاق» سجون الاحتلال .
في زمن اليأس والخذلان والتطبيع العربي مع الاحتلال الصهيوني وفي زمن الوهم والوهن وأسطورة قوة العدو و»القبة الحديدية»، تمكّن فجر الإثنين الماضي ستة فلسطينيين من هز منظومة الأمن الإسرائيلية وهربوا من سجن جلبوع – سيىء الصيت- شديد الحراسة في شمال إسرائيل. وذلك من خلال نفق حفروه أسفل مغسلة، بينما لا تزال سلطات الاحتلال تشن حملة أمنية واسعة بحثاً عنهم. تقول قناة «بي بي سي» عربي إن الأسرى الستة كانوا معتقلين في الزنزانة ذاتها.
وقد أظهر مقطع فيديو من داخل زنزانة الأسرى أنهم حفروا نفقاً أسفل المرحاض على مدى عدة أشهر وخرجوا عبره.
وقام الأسرى بخلع ملابسهم وتمزيقها وإلقائها عقب خروجهم قرب بحيرة طبريا ومدينة جنين الحدودية، شمال الضفة الغربية.
وأفاد جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) بأن الأسرى حصلوا على مساعدة خارجية، حيث نسقوا مع آخرين من خارج السجن باستخدام هاتف محمول مهرّب. كما علّق الجيش الإسرائيلي في بيان هزيل أن قواته «تساعد في ملاحقة السجناء الأمنيين الذين فروا من سجن جلبوع»، وأنه خصص طائرات للقيام بمهام المراقبة. وأكدت مصلحة السجون أنها تعمل على نقل نحو 400 معتقل «أمني» من السجن تحسباً لوجود أنفاق أخرى أسفله.
ووصفت عملية الهروب بأنها «فشل أمني واستخباري كبير».
حيّرت هذه العملية البطولية في دقتها ونجاحها صحافة الاحتلال. فقد ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأن: «الدراما بدأت في السجن الأمني، الذي تأسس في أعقاب الانتفاضة (الثانية) ويعتبر من أفضل السجون تحصيناً في البلاد، حوالي الساعة 4:00 صباحاً. لكن التحقيقات الأولية تُظهر أن الهروب حدث في الساعة 01:30». وأضافت في معرض تبريرها للعملية: «من المعروف أن هناك فجوات عديدة في خط السياج الفاصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية في منطقة جلبوع، يعبر من خلالها العديد من الأشخاص بدون تصاريح. أما موقع «واللا» الإخباري الإسرائيلي فقد أكد أن كافة المعتقلين الفارين يقضون عقوبة بالسجن المؤبد.
عربياً، غطت القنوات الإخبارية هذا العمل البطولي بطريقة تعكس توجهات كل قناة وموقف مموليها من القضية الفلسطينية.
وفي العموم، كان هناك ترحيب كبير بالعملية. لكن لا تفوتنا أيضاً الإشارة إلى أن تغطية بعض وسائل الإعلام كانت مخزية في معالجتها لهذه الحادثة. فبدلاً من التزام الحياد، أو أقله شيء من الموضوعية، تحدثت قنوات إخبارية عن العملية في سياق حسابات فصائلية ضيقة، على مبدأ أن الأبطال الستة 5 منهم ينتمون إلى حركة «الجهاد الإسلامي» وآخر إلى «حركة فتح».
وتناست هذه القنوات أن هؤلاء الستة ليسوا إلا فلسطينيين مهما كان انتماؤهم الفصائلي والحزبي، أو لربما استكثرت قنوات «التطبيع العربي» على «شعب الجبارين» صناعة «الزمن المستحيل».
ذلك الزمن الذي يحفر فيه الفلسطينيون أقدارهم كما يحفرون أنفاقهم.
سجن جلبوع الحصين!
يعتبر سجن جلبوع واحداً من خمسة سجون تابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية التي يتم منحها أعلى مستوى من الأمن. أما السجناء فيه فعلى مستوى عالٍ من «الخطر»، كما تقول الصحافة العبرية.
هناك حصّن الاحتلال غرف سجن جلبوع بباطون مسلح أكثر من بقية السجون. وكانت السلطات الإسرائيلية تتفاخر بأن سجن جلبوع أكثر تحصيناً من خزينة بنك إسرائيل المركزي.
وصرحت به أيضاً عند افتتاح السجن في عام 2004: «لقد استخلصنا العبر من محاولات الهرب عبر الأنفاق من سجنيّ مجدو وشطّة. لن يهرب أحد من جلبوع». هذا ما أثار سخرية صفحة «متراس» الفلسطينية على إنستغرام التي نشرت تعليقاً جاء فيه: «لن يهرب أحد هذا صحيح، لكن ستة مسموح!».
خفة الدم الفلسطينية
وكما ذكرنا، جاءت ردود الفعل الفلسطينية والعربية مرحّبة بعملية «الهروب الكبير» وسارعوا إلى تسمية النفق بـ «نفق الحرية». وامتزجت أيضاً التعليقات على الـ»سوشال ميديا» بخفة ظل وتلاعب ذكي في المفردات يعكس تعطش الشارع العربي إلى مثل هذه العمليات النوعية.
هنا جانب منها: «ما أضيق العيش لولا فتحة النفق»، «فقط في فلسطين من حفر حفرة لأخيه وقع ابن عمه فيها»، «الأرض أرضهم والتراب ترابهم، والأرض لا تخون صاحبها أبدأ»، و»تهدينا الحياة أضواء في آخر النفق»، «خازوق مرتب»، «علمنا عليهم»، «حتموت من الرعب.. نطلع زي الجن»، «الله يبعد عنهم عيون السلطة الفلسطينية»، «يا خيي إشي ببرد القلب»، «جنين أم المفاجآت»، «التطبيق العملي لفيلم كسر السجون»، «مايكل سكوفيلد في نسخته الفلسطينية»، «يسعد دينهم»، «سيبقى نفق الحرية شوكة في حلق بينيت وعصابته قتلة الأطفال»، «النفق وسيلة وليس غاية».
أما التعليق الأكثر رمزية فقد جاء في وصف أحد الناشطين لحظة تأمل ضابط المخابرات الإسرائيلي للنفق بـ»صفنة القرن»، في إشارة إلى صفقة القرن التي أسقطها الصمود الفلسطيني وتظاهرات الشارع العربي الرافضة للمساس بمقدسات الشعب الفلسطيني.
عن هذه العملية البطولية النادرة، نشر الشاعر الفلسطيني غسان زقطان على صفحته في فيسبوك قصيدة بعنوان:
«وسابعهم سراج الليل»:
هل دقُّوا علَيك الباب
هل نادوك
أم مرّوا على أَطرافِ نيَّتهم
وأَلقوا زهرةً لفنائِكَ المُبتلّ!
هل حملوا أغاني الناس
فوق سروجهم ومضوا.
هل أعطوكَ رزقَ عيالِهم
ومَحبّة الزَّوجاتِ
والرّيفَ المنظَّم في ثِيابِ الأَهل.
كانوا خَمسةً وفَتى
وسابِعهُم سِراج اللَّيل.
وقد كتب الصحافي اللبناني رامي الأمين في فيسبوك:
محمود عارضة، أحد الأسرى الستة الذين نجحوا في الهرب من السجن الإسرائيلي، كان يقبع خلف القضبان منذ العام 1996، أي منذ 25 عاماً. له اليوم من العمر 46 عاماً. كان عمره حين اعتقلوه 21 عاماً. أفكر في حياتي منذ العام 1996 إلى اليوم، المليئة بالأحداث والإنجازات والإخفاقات والسفر والعلاقات والحب والانكسارات والزواج والإنجاب والعمل والتجارب، لكنني لا أزال أشعر أنني سجين الوقت العبثي الذي يمرّ سريعاً. هنا في العراء، فوق التراب، خارج القضبان.
بماذا شعر محمود حينما أخرج رأسه من الحفرة؟
حقاً، لقد كسر أبطالنا في فلسطين هيبة سجون العدو المنيعة. وأسقطوا سطوة الاحتلال، فسلام عليهم يوم حفروا النفق، وسلام عليهم يوم خرجوا منه، وسلام عليهم وقد أزاحوا عن أرواحنا اليأس المديد الذي كرسته ثقافة القمع والاستبداد في عالمنا العربي الذي تغص سجونه بآلاف الأحرار من معتقلي الرأي.
كاتبة لبنانيّة
التعليقات