كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية في العراق، اشتد أوار الصراع بين غرماء الطبقة السياسية، وتنوعت طرق وأساليب التنافس متدرجة من أوضح طرق النزاع القانونية وصولا إلى أقذر درجات التسقيط السياسي. وقد أصبح أمرا معتادا في العراق استخدام مختلف الطرق، النظيف منها والقذر، للنيل من الخصوم السياسيين، وأن ظاهرة الضرب تحت الحزام، عبر التزوير وتلطيخ السمعة والاتهامات المفبركة، باتت أسلوباً متعارفاً عليه في التدافع السياسي المصاحب لموسم الانتخابات العراقية.
ظاهرة «الجيوش الإلكترونية» واحدة من مظاهر الصراع والتنافس المنتشرة في المشهد العراقي، ويشير عدد من الباحثين إلى ريادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في إطلاق واستثمار هذه الظاهرة للنيل من خصومه في السنوات السابقة، الأمر الذي دفع منافسوه للنيل من خصومهم عبر استخدام الآلية نفسها، وربما بطرق أكثر قذارة، إذ تمت فبركة فيديوات وصور مسيئة لمرشحين، وأطلقت حملات تسقيط بحق منافسين، وأصبح التعاطي مع هذا الصراع القذر أمرا مألوفا في صراعات الانتخابات العراقية.
بناء على ذلك تم التعاطي مع أحدث صفحة من صفحات الصراع السياسي العراقي، والمقصود هنا فضيحة شبكة «سيدة الخضراء»، وهي قناة إخبارية تم إنشاؤها على تطبيق تليغرام في الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2020، تبنت نشر أخبار حصرية وتسريبات وفرقعات مجهولة المصدر، وقد أشار عدد من المراقبين إلى أن القناة نفسها تتميز بالتماهي مع حكومة مصطفى الكاظمي ومستشاريه، وتبني قرارت الكاظمي التي تنال من خصومه السياسيين وتهاجمهم وتفضح فسادهم، واللافت في سياسة هذه القناة التركيز على الجهات السياسية العراقية المقربة من إيران، وفي مقدمتها الفصائل المسلحة والميليشيات الولائية، إذ هاجمت»سيدة الخضراء» أعتى وأخطر الأسماء بشكل مباشر وصريح.

طرق وأساليب التنافس متدرجة في الانتخابات العراقية من أوضح طرق النزاع القانونية وصولا إلى أقذر درجات التسقيط السياسي

لم يكن معروفا بدقة الجهة، أو الأشخاص الذين يقفون وراء «سيدة الخضراء»، إلا إن توجهات وطروحات القناة أثارت موجة مضادة نفذتها الجهات الولائية، واتهمت جهات مقربة من رئيس الوزراء الكاظمي بالإشراف على القناة وتمويلها، كما تم توجيه الاتهام بشكل محدد لمستشار مصطفى الكاظمي السياسي مشرق عباس، واتهامه بأنه هو من يدير ويوجه قناة «سيدة الخضراء».
عندما تدخل إلى قناة «سيدة الخضراء» على تطبيق تليغرام سيواجهك شعار القناة الذي يحاول التعريف بها بالقول، «سيدة الخضراء، أخبارنا تختلف عن الآخرين/ من داخل المنطقة الخضراء وأسوارها، خفايا/ أسرار شخصيات وأحزاب/ معلومات سرية من مصادر خاصة»، ثم لا تلبث أن تكتشف أن هنالك متابعة إخبارية دقيقة وحثيثة لكل أعمال الفريق أحمد أبو رغيف، الذي يعرف بالذراع القوية للكاظمي في اجتثاث بؤر الفساد، كما تجد في أخبار القناة هجوما واضحا على كل من يعترض، أو يهاجم الكاظمي وحاشيته والمقربين منه. هذا الأمر دفع باتجاه اعتبار القناة تدار من أذرع الكاظمي الإعلامية، وربما كانت المعركة الأخيرة التي أطلقتها القناة هي القشة التي قصمت ظهر البعير.
إذ شنت «سيدة الخضراء» حملة على رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، واتهمته بعقد صفقات، وإصدار أحكام «غير عادلة» بحق بعض الأشخاص. هذا الأمر دفع خصوم الكاظمي لاتهام القائمين على قناة «سيدة الخضراء» بتهم خطيرة، وفتحت أبواب جهنم عليهم، إذ أشارت قناة العهد الفضائية التابعة للشيخ قيس الخزعلي، أحد أعتى صقور الولائيين، الذي ناله الكثير من الهجوم من «سيدة الخضراء» بقولها؛ «في تفاصيل جديدة عن خلية سيدة الخضراء المرتبطة بالمكتب السياسي لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وعلى رأسهم مستشاره السياسي مشرق عباس، فقد حاولت الخلية تسقيط رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان بعد زيارته الأخيرة إلى العاصمة الإيرانية طهران خشية من (تفاهمات) قد تبعد الكاظمي عن رئاسة الوزراء». وأضافت «وخوفاً من احتمالية ذهاب منصب رئيس الوزراء لصالح زيدان، خلال المرحلة المقبلة بعد فشل مصطفى الكاظمي بإدارة الوضع العام في البلاد، نظمت سيدة الخضراء، هجمة غير مسبوقة على رئيس مجلس القضاء الأعلى، لغرض تسقيطه سياسياً».
المفارقة تبلورت بعد إلقاء القبض على شخصين على خلفية ارتباطهم بقناة «سيدة الخضراء»، فالجهات الولائية أعلنت يوم 27 آب/أغسطس الماضي خبرا مفاده، «في صباح اليوم، أعلن مجلس القضاء الأعلى الإطاحة بشبكة ابتزازية تدير قناة على تطبيق التليغرام تدعى (سيدة الخضراء)، والمختصة بنشر الأخبار التسقيطية بحق بعض السياسيين، وأخبار أخرى تمجّد مستشارين ومسؤولين حكوميين». وبحسب بيان مجلس القضاء الأعلى، فإن «خلية الابتزاز الملقى القبض عليها، كان هدفها الأول الإعداد للتلاعب بنتائج الانتخابات المقبلة وتغيير نتائجها، فيما كان هدفها الثاني الفوضى السياسية». وتم تسريب اسم شخص ألقي القبض عليه هو أكد الدوسري الذي يعمل مع مستشار رئيس الوزراء مشرق عباس، وشخص آخر، تداولت أنباء عن كونه مقربا من السياسي السني خميس الخنجر الذي يقود أبرز التحالفات السنية وهو تحالف عزم.
كما أكد بيان مجلس القضاء الأعلى الصادر يوم الثلاثاء 31 أغسطس الماضي على أن، «التحقيقات نتج عنها اعتراف اثنين من أصل ثلاثة متهمين حالياً»، وأضاف أن «المتهمين موقوفين حالياً، بعد اعتراف مدعوم بالأدلة العلمية المستخلصة من المواقع الإلكترونية»، لكن بعض التسريبات تحدثت عن كون الدوسري كان يدير من أحد المنازل في بغداد مواقع إلكترونية متعددة تتولى هذه الأعمال المشبوهة، وتبين أثناء التحقيق إن المنزل المذكور تابع لرئيس البرلمان السابق سليم الجبوري والمرشح للانتخابات المقبلة ضمن تحالف عزم الذي يقوده خميس الخنجر. رد فعل الجهة المتهمة، التي تعرضت للضرب تحت الحزام، وأقصد هنا مجموعة الكاظمي، تمثل في إلقاء الموضوع برمته في حجر الخصوم السياسيين، وتحميلهم مسؤولية التهم التي وجهت لقناة «سيدة الخضراء»، إذ صرح مشرق عباس في لقاء تلفزيوني مع إحدى القنوات التلفزيونية يوم 9 أيلول/سبتمبر الجاري بقوله، «لا علاقة لمستشاري رئيس الحكومة بمجموعة سيدة الخضراء، رغم أن بعض الأطراف حاولت أن تلصق الاتهامات بمكتب الكاظمي وبي أنا شخصيا»، وأضاف أن» القضاء العراقي فضح الخلية بعد كشفها، وتبين أن سياسيين كبارا هم المسؤولون عليها، والمتورطون كانوا في فترة ما، أصحاب سلطة مؤثرة، ولكن لجأوا إلى مثل هذا النوع من الألاعيب»، وتابع «الخلية تنتمي لمجموعة سياسيين حاولوا الإيحاء بأنهم قريبون من مكتب الكاظمي، لكن ومن خلال الرصد الفني تبين أيضا انها قريبة من المنطقة الخضراء»، مشيراً إلى أنه «تم التوصل إلى أن هذه الخلية تبث من بيت سياسي كبير جداً وكان يشغل منصباً سيادياً، وكانوا ينوون استخدام هذه القضية للتسقيط خلال الانتخابات».
المعلومة الأخطر في كل هذه المعمعة تمثلت في التصريحات الرسمية التي بينت، إن «قناة سيدة الخضراء استعانت بمجموعة خبراء في مسعى لتزوير الانتخابات التشريعية المقبلة، والإساءة للمتنافسين، الأمر الذي يُعد جريمة كبرى من شأنها تقويض النظام السياسي وتعبير الفرد عن تمثيله السياسي».
مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بدوره نفى رسميا يوم 1 سبتمبر 2021 صلته بما سماه مجموعة تزوير الانتخابات، مشيرا إلى أنه «تم التوصل إلى شبكة متداخلة من المسؤولين عن القضية، سواء بالتمويل أو التشجيع أو المساعدة، بينهم شخصيات سياسية ونيابية حالية وسابقة، وبعض الموظفين في مفوضية الانتخابات». وهنا لابد من الوقوف والتركيز في مديات الحرب القذرة بين تيارات الطبقة السياسية، والاتهام الواضح والصريح في مسعاهم لتزوير الانتخابات واللعب بنتائجها بطرق احترافية، والاستعانة بخبراء تقنيين في ذلك، لتكون المحصلة: كيف يمكن أن يثق الناخب العراقي بنتائج الانتخابات بعد ذلك؟ ولابد من القول إن مسمار آخر دق في نعش الانتخابات البرلمانية المقبلة التي يبدو أنها ستولد ميتة.