كوابيس السَّجينة في «يوميات روز» لريم الكمالي
منذ لقائنا الأول، رأيت في ريم الكمالي كاتبة ستفتح نوراً جديداً في جسد الرواية الخليجية والعربية. كان ذلك في ندوة/ ورشة البوكر التي أشرفت عليها، في قصر السراب في أقاصي صحراء أبو ظبي، وكانت في بداياتها الأولى. لاحظت أنها كانت مأخوذة بالأساطير القديمة، والتاريخ الدفين للمنطقة، وتريد أن تكتب شيئاً يوسع من الهوية، ويعيدنا نحو زمن غابر لم يكن عادياً. افترقنا بعد عشرة أيام من العمل في الورشة، وأنا على يقين أن «ملكة دلما» كما أسميتها يومها، أنها ستكتب يوماً نصاً مميزاً. يكفي أنها في وقت قصير كتبت روايتين فازتا بجائزتين مرموقتين اعترافاً لها بجديدها؛ لتحتل مكانها بامتياز ضمن الروائيات الخليجيات: ليلى العثمان، ورجاء عالم، وجوخة الحارثي، وزينب حفني، وبثينة العيسى، ورجاء الصانع، وليلى الجهني، وغيرهن.
آخر أعمالها «يوميات روز» وهو نص أقرب إلى «نوفيلا « منه إلى الرواية، كما برع فيه الإيطاليون قبل غيرهم، وهيكلوه منذ النهضة مع جيوفاني بوكاتشيو صاحب «الديكاميرون» (1353) من خلال القصص المائة التي سماها نوفيلا (سبع نساء وثلاثة رجال، متخفون هرباً من الطاعون الأسود). ينطبق تعريف «نوفيلا» كما قدمه وارين كاريو Warren Cariou ، النوفيلا عموماً ليست تجريبية مثل القصة الطويلة والرواية. تنقصها عموماً الحبكة الفرعية وجهات النظر المتعددة التي تمتاز بها الرواية. كثيراً ما تبنى النوفيلا على أحاسيس وانفعالات الشخصية الأحادية، بدل السياق المجتمعي بمعناه العام، على نص ريم الكمالي، إذ يمر الصوت الاجتماعي المتعدد من خلال روزه.
شيء ما تغير في كتابة ريم، فقد استعارت سجلاً جديداً قريباً من زماننا، على الرغم من أني وأنا أقرأ «يوميات روز» وهي تواجه بياض كراستها، وراء نافذة، رأيت الجبال الأسطورية، والأماكن نفسها التي تتبطن القصص القديمة كجبل جيس الضخم برؤوسه الرمادية القاحلة، وحضارة جلّفار، وحمم البراكين، وجزيرة قيس، وغيرها، لدرجة أن ظننت أن الرواية ستستمر في البحث في الماضي البعيد الذي صنع المنطقة. شيئاً فشيئاً اتضح السياق، لأجدني أمام روزه السجينة داخل «قلعة الزوج» التسعيني، ترفض الموت وتبحث عن مخرج نحو النور، وإن كان اليأس قد توغل في أعماقها ودفع بها إلى تمزيق ما كانت تكتبه: «دعتني الرهبة إلى إتلاف يومياتي من أجل النجاة بنفسي خشية اتهامي بالمس لما احتوته تلك اليوميات من تفاصيل ملتوية عن كل ما رأيت». (ص7)
اختارت الروائية اليوميات كمؤشر إجناسي لنصها. فكرة اليوميات تهيئ القارئ منذ اللحظة لاستقبال أشياء حقيقية (داخل اللعبة الافتراضية) بتجسيد أهم اللحظات النابضة بالحياة وبالمأساة. وكثيراً ما تكون اليوميات لحظة انفصال عما يحيط بنا مجتمعياً، ولحظة ارتباط بكتابة ما يصنع وجداننا العميق حتى في لحظات غليانه. وليس غريباً أن تبدأ ريم الكمالي نصها بالحياة الزوجية لروزه، حيث لا شيء يجمع بينهما إلا الحيطان الهرمة، هي امرأة متقدة بالحياة، وهو رجل على حافة الموت. منذ تلك اللحظة، يمكننا أن نفترض ما سيأتي من صراعات يحكمها الخوف والاختلاف وربما الموت البطيء.
تبدو روزه في الـ «نوفيلا» سجينة طقوس عائلية ومجتمع. لا لفظة تستطيع أن تكون بديلة لما أصبحت تعيشه منذ وفاة والديها: عبد الله، وغاية. تضطر، بحسب ما تمليه التقاليد الرثة، إلى العودة نحو من يغطي نقص الأبوة دموياً، العمّ. وبحسب الأعراف والتقاليد البطريركية، لا يجوز لابنة طبقة «التجار» أن تصبح مضغة بين الألسن. لهذا توقف عملها، وتعود إلى بيت عمها في قلعة تموت فيها الأنثى الحية، بهدوء وسكينة داخل بلاغة قبلية يمحى فيها كل شيء يميزها. وكان عليها أن تنسى عملها وحريتها أيضاً التي تمتعت بها مع والدها التاجر المرموق، وأن تقبل بشرطية الحجر، وانتظار الزوج أو القبر. حتى هوية المرأة تموت بالتخلي الكلي عما يصنع أنوثتها وحياتها. وتجبرها الأعراف التي صنعتها ذهنيات ميتة، أن تغير من هندامها كلياً، وأن تكف عن كل ما يحيل إلى غرب فاسد الأخلاق. حتى شعرها يجب أن يخضع لمقاييس عدم الإثارة. وعلى كلامها أن يراعي المقام. لا مكان للخروج والأسفار والصديقات. القلعة وحدها من يحدد ما يجب القيام به وما لا يجب.
داخل هذا المناخ الكئيب، تنشأ الكتابة كوسيلة لتخطي تراجيديا الذات قبل انهيارها. اللعب في حارة الموت بالمواربة واللغة. تدوّن تلك البراكين في كراساتها السرية، فاضحة الأعراف القاتلة التي فرضت عليها الصمت والقبول بموت سلطان القبيلة. لا معنى لحياتها، فهي ليست لها ولكن لذكورة القرابة والدم التي فرضت عليها الصمت المميت والقبول بزواج لم تكن تريده من رجل تسعيني؟ يسرق إنسانيتها أولاً، ثم أنوثتها كامرأة، ثم اسمها الضائع وسط سلسلة الألقاب: ابنة التاجر، اسم الزوج، ثم أم فلان. تدخل مؤسسة الزواج وهي غير راغبة فيها، بعد أن سرق الموت حبيبها. وكأن الشيخ الحي-الميت الذي اختير لها ليس لتقاسم العيش، ولكن لتغطية الفضائح المحتملة. في لا وعي العائلة البطريركية تظل المرأة، واليتيمة تحديداً، قنبلة موقوتة يجب تفكيكها بكل الوسائل قبل انفجارها. لهذا، ستعيش روزه حياة المنفى الجسدي مع زوجها، داخل فراش هو لحظة تعذيب، لا منقذ لها إلا القصص التي تؤلفها في رأسها، وتفصلها نهائياً عن جسد الآخر الذي يسحبها نحو موت كانت ترفضه بكل قواها، بل وتكرهه. وكثيراً ما قادتها حالة اليأس إلى حالة الخرس التي ترفضها داخلياً لأنها تريد أن تصرخ لإخراج براكين الظلم «لا أمل إلا للبقاء على الخرس كحرز لي». (ص 31)
هذه الـ «نوفيلا» لا تبقى عند هذه الحدود الذاتية، ولكنها تذهب نحو التاريخ العربي الحديث في علاقته بمنطقة الخليج، والإمارات تحديداً، بعيداً عن التاريخ الأسطوري الغني الذي عودتنا عليه، بل وشكل موضوعتها الأثيرة التي بدأت تشكل تخصصاً في كتاباتها. تاريخ الحركات القومية في الإمارات، في الستينيات، الذي ترك أثراً كبيراً، قبل نشوء الاتحاد. باحثة عن هوية مكانية في زمن تهدمت فيه كل القيم والعلامات العمرانية التي تحيل إلى ذلك التاريخ. وتشكل «إمبراطورية اللغة» جزءاً من هذه الهوية. حتى المجانين حملة ذاكرة المكان بطرقهم الخاصة، فقدوا أمكنتهم في الحارات والأسواق. المجنون ليس بوصفه شخصاً بلا عقل، لكن بوصفه شخصية حية وحرة بشكل مطلق، فوق الأعراف والقوانين.
ثم تأتي نهاية الرواية. تتوقف لعبة الحكي عند روزه، وتعود إلى حقيقة الحاضر. ويمر أمامنا كل ما مضى كما في التصوير البطيء. كل معاناة روزه التي عايشناها معها وتعاطفنا مع مأساتها لم تكن إلا حلماً/كابوساً. توقظها أمها. هي ماتزال بالخان، بمنزل أمها وأخوالها. حقيبتها جاهزة استعداداً للسفر في البعثة. مما فجّر الشحنة التي نمتها الروائية بقوة وجعلت القارئ يندفع نحو تفاصيل الظلم المجتمعي، العائلي، الذكورية المهيمنة. ما بدا شجاعة وتحدّ من روزه لم يكن حقيقة. الحياة طيبة، وكل شيء بألف خير. أعتقد أن الفصل الأخير، 88 (كل فصول نوفيلا صغيرة) لم يخدم النهاية أو لحظة الخروج La chute التي تشكل عنصراً حاسماً في فعل الكتابة القصصية، لأنها آخر ما يتبقى في ذهنية القارئ. أليست الكتابة جرأة وتجاوزاً للذات وانتصاراً على الخوف؟