الزئبق الأحمر: بين السلاح النووي وطعام الجن… أسطورة تتجدد
عندما تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، تصاعد تخوف الغرب وتجلى في نقطة محورية هي سيطرة المافيا الروسية على ترسانات الأسلحة السوفييتية، وإمكانية تسريب ما تحويه إلى الأسواق السوداء التي نشطت في مختلف بؤر الصراع في العالم، ومن بين أكبر التهديدات الحقيقية أو المتخيلة، التي وضعها صناع القرار في الغرب نصب أعينهم كانت، احتمال تسرب مكونات أسلحة دمار شامل إلى شبكات الإرهاب التي ظهرت وبقوة على الساحة العالمية في تلك الحقبة.
في هذه الظروف تحديدا، تم تسريب معلومة مفادها أن السوفييت استطاعوا تطوير قنبلة نيوترونية صغيرة الحجم، إذ وصفت بأنها بحجم كرة البيسبول، وأن بإمكانها القضاء على سكان مدينة كبيرة بحجم لندن، من دون أن تدمر المكونات المادية فيها كالبنايات والطرق والجسور والسيارات، بل تقتل الكائنات الحية فقط. وأن لب هذه القنبلة هو مادة «الزئبق الأحمر» ولم يعرف حينذاك، هل كان الأمر مجرد تسريبات ليس لها أساس علمي؟ أم أن هذا الاسم المرعب هو عبارة عن ستارة، أو اسم كودي لمركب يمكن أن يكون موجود فعليا؟
طبعا من المعروف أن الزئبق هو المعدن الوحيد الموجود في الطبيعة بحالة سائلة ذات كثافة عالية، وأن لونه فضي، وله استخدامات صناعية عديدة، ومع أنه يعتبر مادة سامة خطيرة على صحة الإنسان، إلا أنه لا يدخل في الصناعات الحربية. لكن ما هو الزئبق الأحمر الذي نسجت حوله الأساطير؟ هل هو عنصر موجود في الطبيعة؟ أم إنه أحد مركبات الزئبق مثل كبريتيد الزئبق، وهو مادة حمراء ولها وجود تاريخي قديم، إذ عُرف باسم «الزنجفر» واستخدم في تزيين الفخار، ويمكن أن يكون ضارا بصحة الإنسان، لأنه أحد مركبات الزئبق، إلا أن المختصين أكدوا أنه ليس مادة شديدة الانفجار وليس له قدرات «سحرية».
كل المعلومات أعلاه لم تمنع الظهور المتكرر لأسطورة «الزئبق الأحمر» في مختلف بقاع العالم، إذ يمكن أن تجد بعض من يروج له على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى مختلف مواقع شبكة الإنترنت، طبعا يمكننا ملاحظة أن سعر بضعة غرامات من هذه المادة قد يصل سعرها إلى آلاف الدولارات، كما يحتوي العديد من الإعلانات على صورة ضبابية لكريات من السائل الأحمر موضوعة على طبق يدعي المعلنون أنه «الزئبق الأحمر».
في تحقيق نشرته (BBC) وصفت ليزا وين رئيسة قسم الأنثروبولوجيا في جامعة ماكواري في سيدني، أسطورة «الزئبق الأحمر» بأنها: «لعبة محتالين، وأن الخطر يتمثل في تعرض الناس للخداع، أو تعرضهم للسرقة أو النصب، أو أنهم سيضيعون وقتهم في أقل تقدير». وقد صادفت ليزا وين هذه الظاهرة لأول مرة عندما كانت تعمل في أهرامات الجيزة في مصر، وتتقاسم مكتبا مع الآثاري المعروف الدكتور زاهي حواس. إذ تقول؛ «ذات يوم تلقى الدكتور حواس زيارة من مواطن عربي كانت والدته في غيبوبة. وكان هذا الرجل ينفق كل طاقاته وأمواله في محاولة للعثور على شيء من شأنه أن ينقذ والدته، لذلك لجأ إلى معالج روحاني في دولته، فأخبره أن هناك مادة سحرية هي (الزئبق الأحمر) تم العثور عليها مدفونة في حناجر المومياوات في مصر القديمة، وإذا ذهبت إلى مصر وسألت عالم الآثار زاهي حواس عنها، فسيكون قادراً على تزويدك بها». وقد قام عالم الآثار المصري زاهي حواس بإفهامه الأمر على حقيقته، وقال له أن لا وجود لمثل هذه المادة، ولا علاقة لها نهائيا بعلم التحنيط المصري القديم. لكن الكثير من المشعوذين والمحتالين يصرون على أن هذه المادة موجودة، وأنها بعد التعزيم عليها برقى سحرية ستصبح جاهزة لان تكون طعاما للجن الذين سيكونون بعد إطعامهم في خدمة صاحب المادة الخارقة، وسيلبون له كل طلباته، كما يحدث في أسطورة مارد مصباح علاء الدين السحري، أو خادم خاتم سليمان الأسطوري. وربما عزا بعض الباحثين أصول هذا الاعتقاد إلى بعض الإشارات غير المؤكدة في أعمال الكيميائي والفيلسوف العربي جابر بن حيان، الذي يشير البعض إلى أنه كتب؛ «تم إخفاء أثمن إكسير تم مزجه على وجه الأرض في الأهرامات».
كما ظهر وجه آخر للأسطورة، إذ أصبح بعض الباحثين عن «الزئبق الأحمر» يعتقدون أن بالإمكان العثور عليه في «أعشاش الخفافيش» دع منك جانباً الحقيقة الصادمة المتمثلة في أن الخفافيش لا تبني أعشاشا في الواقع، لكن هذه الحقيقة لم تمنع المحتالين من صائدي الثروة من إزعاج المتتبع للبحث عنها. وقد سار البعض في نظرية الخفافيش خطوة أخرى إلى الأمام، وادعى أن «الزئبق الأحمر» يأتي من نوع خاص من الخفافيش، التي تعرف بالخفافيش مصاصة الدماء. وهكذا، كما يقول المنطق، فإن المادة سيكون لها خصائص مصاصي الدماء نفسها في أفلام الرعب.
عندما تفكك الاتحاد السوفييتي تصاعد تخوف في الغرب من سيطرة المافيا الروسية على ترسانات الأسلحة وتسربها للسوق السوداء
أما تمظهر أسطورة «الزئبق الاحمر» في الجغرافيا السياسية، فيمكننا تتبعها منذ أواخر الثمانينيات، مع تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي، إذ كان هناك عدم يقين بشأن ما كان يحدث لمخزوناته من المواد النووية. في ذلك الوقت، كان مارك هيبس صحافيا يحقق في شائعات مقلقة بأن مادة نووية غير معروفة سابقا، تم تصنيعها في المختبرات السوفييتية، معروضة للبيع من قبل أفراد مشبوهين، هذه المادة عرفت باسم «الزئبق الأحمر 22». في جنوب افريقيا اندلع نزاع مخابراتي بين مختلف أجهزة مخابرات العالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وقتل العشرات من التجار والوسطاء الساعين إلى التوسط في صفقات تسويق «الزئبق الأحمر» لدول شرق أوسطية، وقد وجهت السلطات الحكومية في جنوب افريقيا أصابع الاتهام إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) وصرحت مصادر رسمية بأن رجال الاستخبارات الإسرائيليين وعملاءهم، قاموا باغتيال عدد من المهندسين وتجار السلاح في العاصمة جوهانسبرغ على خلفية صفقات «الزئبق الأحمر». يقول مارك هيبس، وهو الآن زميل أقدم في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، وهي مؤسسة أبحاث للسياسة الخارجية بالولايات المتحدة، أن جو عدم اليقين في التسعينيات ساهم في استفحال هذه الهمسات، وكما هو معلوم أن «الاتحاد السوفييتي كان مكانا تراكمت فيه مخزونات نووية سرا على مدى عدة عقود عبر منطقة شاسعة، ولم يكن واضحا لنا في ذلك الوقت، أن كل هذه المواد عندما بدأ الاتحاد السوفييتي بالتفكك، ستبقى في أماكن مقفلة وآمنة.» ومع ذلك يقول هيبس، عندما حققت الحكومات الغربية في الأمر، خلصت إلى أن المركب الذي بات يعرف باسم «الزئبق الأحمر» لم يكن موجودا بشكل مؤكد، وهنا لابد من إطلاق السؤال: إذن كيف بدأت الشائعات؟ يقول هيبس «إن العلماء الروس أخبروه أن (الزئبق الأحمر22) كان في الواقع اسما كوديا لنظير نووي معروف» لكن عندما سأل الحكومتين الروسية والأمريكية عن هذه المادة، لم تؤكدا أو تنفيا ما إذا كانت هذه القصة صحيحة. كما ظهرت نظرية منافسة مفادها، أن حكومة الولايات المتحدة، نشرت خلسة شائعات عن «الزئبق الأحمر» كوسيلة لإيقاع الإرهابيين في الشرك، لكن مرة أخرى، لم يكن هناك دليل قاطع أو تأكيد رسمي على ذلك. منذ ذلك الحين، ظهرت الشائعات في العديد من قضايا الإرهاب، ففي بريطانيا عام 2004، ألقي القبض على ثلاثة رجال متهمين بارتكاب جرائم إرهابية، بعد مزاعم عن محاولتهم شراء «الزئبق الأحمر» وقال ممثلو الادعاء إن الرجال الثلاثة كانوا يبحثون عن مكونات «قنبلة قذرة» كان من الممكن أن تدمر لندن. لكن المتهمين أنكروا ذلك، وبُرئ الثلاثة من جميع التهم. وفي عام 2015 ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنه تم القبض على أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في تركيا عند محاولتهم شراء «الزئبق الأحمر». وكانت حصة العراق من هذه الأسطورة كبيرة أيضا، إذ انتشرت إشاعات وتصريحات شبه رسمية غزت منصات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، مفادها أن «الزئبق الاحمر» موجود في جنوب العراق وبكميات كبيرة، بل ادعى البعض وجود بئر في مدينة العمارة في منطقة الأهوار جنوب العراق، هذا البئر يمثل معينا لمادة «الزئبق الأحمر» غالية الثمن، لذلك سعت القوات الامريكية ومنذ الساعات الأولى لغزو العراق للسيطرة على مكان هذا البئر وقامت بنهب المادة الخطيرة بطرق عالية السرية. واليوم نقلت مقاطع الفيديو على اليوتيوب والإعلانات على شبكة الإنترنت أسطورة «الزئبق الأحمر» إلى الأجيال الجديدة، التي لم تعش ولادة الأسطورة قبل حوالي أربعة عقود، لنجد العديد من الأشخاص يبحثون في شبكة الإنترنت لشراء «الزئبق الأحمر» للحصول على معجزة، طعام للجن، أو ربما لصناعة «قنبلة قذرة»… إنها الأسطورة المتكررة الولادة.