بغداد: حين يُعلن السرّاق أنهم يحمون بيت المال؟
ضمن الخريطة التي رسمتها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لمستقبل العراق بعد عام 2003، والتي تضمنت أن يقوم الجاني والمذنب بدور القاضي والجلاد، والمتسلط أن يصون الحريات، والفاسد يُكلف بالإصلاح، والعميل يكون زعيما شرعيا يشار له بالبنان، جاء دور اللصوص ليُكلّفوا بحماية بيت المال.
هذه هي شبكة الحماية الاجتماعية والأمنية، التي وفرها الغزاة لشعب العراق، ولكي يبرز دور السُراق في صيانة أموال هذا البلد، ولكي يكون رافعة انتخابية لهم قبل أيام قليلة من الانتخابات المبكرة، المزمع إجراؤها في الشهر المقبل، عُقد في بغداد في 15 سبتمبر/ أيلول الجاري مؤتمر، قيل إنه يسعى لإعادة الأموال المنهوبة. وقد شارك عدد من وزراء العدل ورؤساء مجالس القضاء وأجهزة رقابية، وعدد من ممثلي جمعيات ومنظمات وشخصيات قانونية، إلى جانب أمين الجامعه العربية أحمد أبو الغيط. وما بين أرقام مُختلف عليها تراوحت بين 350 مليار دولار إلى 650 مليار دولار وصولا إلى 1000 مليار دولار، تشكل حجم الأموال التي تشارك الاحتلال والسلطة السياسية القائمة في نهبها، يُعلن المؤتمرون أن هدفهم وضع آلية تُمكّن العراق من استرداد هذه الأموال، فهل يمكن لمؤتمر ينظمه لصوص العملية السياسية أن يحقق أهدافه؟
حسنا أن رئيس الوزراء العراقي هو من افتتح المؤتمر، وبادرة إيجابية قوله «يجب ألا يكون هنالك أي ملاذ آمن للأموال المنهوبة والسرقات، ويجب ألا يشعر الفاسدون والسراق بأن هنالك مآوى للمال المسروق من أي بلد». فهو بهذا القول وضع أسلاك التعثر بين قدميه، وأعطى للعراقيين حقائق تتشكل كقضايا ضده. فالرجل هو ابن المنظومة السياسية القائمة منذ عام 2003 وحتى اليوم. وهو من كان ومازال رئيسا لجهاز المخابرات، المرتبط بعلاقات استخباراتية مع أجهزة غربية عديدة ومنها، سي آي أيه، التي تقدم له المعلومة عن كل شاردة وواردة. فهل يُعقل أن الرجل لا يعرف من هم السُرّاق وأين المال؟ وقبل هذا وذاك ألا يعرف كم سرق بريمر رئيس سلطة الاحتلال، وهو المحسوب عليهم، كما يقول شركاؤه في العملية السياسية؟ بل هل يمتلك الشجاعة السياسية التي يتحلى بها رجال الدولة، ويضع كل رؤساء الوزارات السابقين، ورؤساء الكتل السياسية، وزعماء الأحزاب رهن سلطة القانون ووفق مبدأ من أين لك هذا، للتحقيق في الثراء الفاحش الذي تحقق لهم؟ وفي أضعف الإيمان هل هو قادر على التصريح بأسمائهم أو مجرد التلميح إليهم؟ ألم يسمع الحديث عن ثراء قادة الميليشيات، الذين سرقوا كل شيء حتى مصفى النفط في بيجي، وتم بيعه، خلال العمليات الحربية ضد تنظيم الدولة في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، وباتوا اليوم يملكون حسابات في بنوك دول الجوار؟ فما الذي فعله أزاء ذلك؟
التجمعات الرسمية بعناوين كبيرة ولافتات برّاقة، لا يمكن التعويل عليها بتحقيق نتائج إيجابية، في غياب إرادة سياسية فاعلة
إن التجمعات الرسمية بعناوين كبيرة ولافتات برّاقة، لا يمكن التعويل عليها بتحقيق نتائج إيجابية، حينما لا تكون هنالك إرادة سياسية فاعلة. كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتمكن مؤتمر ما، من وضع استراتيجية لمكافحة الفساد في بلد تتولى السلطة فيه منظومة سياسية نشأت نتيجة حرب غير شرعية، وتشكلت سلطاته على أساس تقاسم الكعكة حسب المحاصصة، لأن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها هذه الطبقة الفاسدة البقاء في صدارة المشهد، هو تشريع النهب عبر تحالفات داخلية وخارجية، وبذلك لن يترك هذا المؤتمر أو غيره أي أثر على الموضوع الذي عُقد من أجله. صحيح أن ظاهرة الفساد ونهب الاموال معروفة في العالم، وحلولها متوفرة وممكنة، لكن المشكلة هي في التطبيق على أرض الواقع. والواقع العراقي يقول إن تعقب هذه الأموال يحتاج إلى إرادة سياسية هي غير متوفرة إطلاقا. وعندما يزعم رئيس الوزراء بأنه شكّل لجنة معنية بمكافحة الفساد، تمكنت من كشف ملفات، وتمت استعادة أموال منهوبة من الخارج، هو تجنب القول إن هذه الملفات جرى اتفاق سياسي على فتحها، لأسباب لا تتعلق بالنية الخالصة لمعالجة هذا الملف، بل كانت وراءها خلافات سياسية، وإخلال بمعادلة التغطية، والتغطية المقابلة التي تعتمدها الكتل السياسية في التعامل مع بعضها بعضاً. في حين بقيت ملفات الفساد الأكبر والنهب المالي الأعظم بعيدة عن تحقيقات لجنته، لعدم وجود توافق سياسي عليها، لأنها تمس رؤوسا كبيرة ومركزية في العملية السياسية. وهل يستطيع الإشارة إلى سرقات حلفائه الأمريكيين؟ إن مشكلة المال العراقي المنهوب مشكلة سياسية، وليست تقنية يحلها مؤتمر بحثي، أو لقاءات مختصين لعلاجها عبر بنود الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد، ومقررات مجلس وزراء العدل العرب المُمثّل في المؤتمر، أو بتضامن الجامعة العربية التي تعاني من موت سريري، كل هذه الفعاليات والعناصر لا تمنح العراقيين أي أمل بحل قريب. فالمشكلة الكبرى هي أن اللصوص يشكلون الهيكل السياسي للسلطة وعقلها وأوردتها ونسغها الصاعد والنازل. ثراؤهم جاء من خلال الفساد ونهب المال العام، وتمويل الأنشطة الحزبية والميليشياوية جاء بهذه الوسيلة، وشراء الأنصار والأصوات، وكسب المؤيدين والأتباع والأعوان، وإنشاء امبراطوريات إعلامية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، كلها كانت بتمويل من المال العام المنهوبن وبذلك فإن الحل الوحيد هو التعاطي مع هذه المعضلة سياسيا، من خلال تشكيل إرادة سياسية مشتركة على الفعل والتصدي وهذا من المستحيلات، لأن الطبقة السياسية التي تسيّر الأمور والأوضاع هي مجموعة لصوص متغطين بحواضن دولية وإقليمية.
إن رئيس الوزراء الحالي بات يركز على قدرته على التضليل وافتقاره للآليات الحقيقية في إدارة الدولة، التي يبدو أن الجمهور رصدها ورفضها، فاصبح مُغرما بالمؤتمرات العربية والدولية، والزيارات الخارجية، التي يظن أنها تعطيه بُعدا سياسيا ودعما عربيا ودوليا وتركيزا على شخصيته لغايات وأهداف مرحلية. كما أنه يحاول التغطية على ضعف القيادة بتشكيل لجان وكلام دون أفعال، في حين يتربع على عرش سلطة فاسدة، أوصلت العراق إلى احتلال المرتبة 21 في العالم في سلم الفساد، حسب تقارير المنظمة الدولية للشفافية غير الحكومية. كما تنتثر ممارسات الرشوة والتهرب الضريبي في كل قطاعات الدولة العراقية. وهذا يعطي انطباعا واضحا، بأن الفعل السياسي لم يعد ينصرف للبحث عن موارد حقيقية تقدم برامج رؤيوية حقيقية للمجتمع، بل بات جميع من في السلطة همهم الوحيد صنع انتصارات سياسية هذه الأيام معتمدين رسائل بسيطة مخادعة، وهي علامة تجارية شخصية وسياسية للطبقة السياسية الحاكمة، عرفها الناس منذ أكثر من عقد ونصف العقد. لكنهم ينسون أن الساسة بدون شعارات فعالة ومختبرات حقيقية للأفعال، فإن كل التودد الذي يتصنعونه يسقط بلحظة واحدة، ويعطي نتائج عكسية، يضطرون بعدها إلى سحب الكلمات وعض الألسن.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية