بكائيات الرئيس على عراق ضيّعهُ بيديه
في 23 سبتمبر/ أيلول الجاري وقف الرئيس العراقي برهم صالح على منصة الأمم المتحدة، وألقى كلمة أمام الجمعية العامة في الاجتماع السنوي، ليس فيها سوى الشكوى من حال العراق، طالبا المساعدة، كما قال، في “إعادة العراق لدوره المحوري في المنطقة، وهذا يستدعي دعما إقليميا ودوليا، وإنهاء تنافسات وصراعات الآخرين على أرضنا”. كما أكد أن “تحقيق السلام في المنطقة لن يتم من دون عراق آمن ومستقر بسيادة كاملة”. في حين طالب بـ”تشكيل تحالف دولي لمحاربة الفساد، واسترجاع الأموال المنهوبة”، لأن “الفساد والإرهاب مترابطان ومتلازمان ومتخادمان، ويدعم أحدهما الآخر” حسب قوله. فمن هو المتكلم؟ وما صفته السياسية والوظيفية؟
لقد دأب قادة العراق الجُدد على الوقوف أمام الرأي العام العراقي والدولي في كل مناسبة، نائحين نادبين حال العراق، ومعددين ما يعانيه من فقدان للدور والسيادة والفساد والإرهاب، حتى يخال السامع أن المتحدثين يصفون حالة دولة أخرى لا علاقة لهم بها. لكن هذه هي الحقيقة الفعلية.. فلم يكن رئيس الجمهورية قبل عام 2003 يعترف بالعراق أرضا وشعبا ووجودا. كان الرجل قياديا في حزب قومي، يعتبر العراق دولة مصطنعة ويسعى للانفصال عنها. ومن أجل هذا الهدف خاض الحزب صراعا مسلحا ضد السلطات فيه، منذ تأسيس الدولة العراقية حتى ساعة الغزو والاحتلال. ولأن العامل الخارجي هو الذي أوصل رئيس الجمهورية إلى المنصب الذي يتبؤه حاليا، فقد بات لابد من أن يلف الرئيس نفسه ببدلة عراقية.
لكن الذي يجب أن يعرفه الرجل وشركاؤه في العملية السياسية هو، أن التاريخ لا يمكن عكسه بالاتجاه الآخر، أي أن من قضى عمره لا يؤمن بالعراق الموحد، أرضا وشعبا ومياها وسماء، وكان يعمل ضده طوال سنوات، لا يمكن أن ينزل عليه وحي الإيمان بهذا الكيان فجأة، ولذلك فشلوا جميعا في إدارة الدولة العراقية خلال أكثر من 17 عاما، لأنها شيء ثانوي في عقلهم السياسي. وقد كانت قوى الاحتلال واعية تماما هذه المسألة، وتعرف أن من مسكوا الأرض باسمها، وتسلموا السلطة وكالة عنها، لا يعنيهم إن أصبح العراق دولة فاشلة أو منكوبة، لأن التسوية السياسية على أساس وطني غير مهمة بالنسبة لها بقدر اهتمامها بتحقيق مصالحها الاستراتيجية فيه. ولأن الحكام الجدد يعتبرون الارتباط بالخارج أهم من السلم الأهلي، لأن به دعم مالي وسياسي، فإن القوى الخارجية ضمنت وجود ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات في ما بينها، بعيدا عن التماس المباشر الذي قد يقود إلى حروب مدمرة لا يريدونها.
بات العراق في ظل رئيس الجمهورية الحالي ومن سبقه وبقية الشركاء، نموذجا فوضويا لمسلماته الجغرافية وتجربته التاريخية وتكوينه المجتمعي
إن الدعوات التي أطلقها الرئيس أمام محفل دولي مهم، طالبا المساعدة من الآخرين في تحقيق السيادة العراقية والاستقرار والأمن، والتي كررها في مناسبات عديدة أخرى، تشير وبوضح تام، إلى افتقاره والطبقة السياسية كافة، إلى برامج حقيقية فاعلة للنهوض بالواقع العراقي. كما تعطي مؤشراً قوياً إلى أن المناصب قد أفرغوها من مضامينها، وجعلوها مصدراً للجاه والوجاهة والثراء، بعد أن اختزلوا العمل السياسي بالحصول على منصب. فما يحدد نجاح أو فشل الرئيس هو كيفية مقاربته عمله الرئاسي، والرئيس الفعلي عليه مهمة كبرى لدفع الأمور والأحداث، أي يجب أن لا يسمح للأمور أن تتجاوزه، فيعلن إفلاسه ويذهب للتوسل بالآخرين. كما أن الدول المنكوبة كالعراق ليس أمام طبقتها السياسية سوى طريق واحد، هو نبذ السلوك السياسي الخاطئ والابتعاد عن الأفكار المعطوبة، فالمطلوب من رجل الدولة الذي يدير دولة أن يقوم بتغيير سياساته لمنع المزيد من الضرر، وأن يقوم بالتحقق من قيمه، كي لا يترك الجمهور يهز أكتافه استهجانا كلما ظهر عليهم، لانه لا يترك أي أثر بعد أن يغادر. وأن لا يدع ظهوره غالبا ما يثير هذا التساؤل: لماذا هو رئيس الجمهورية؟ وربما تكون الفائدة الوحيدة في ظهوره أنه يسلط الضوء على عبثية وجوده في المنصب.
لقد بات العراق في ظل رئيس الجمهورية الحالي ومن سبقه وبقية الشركاء، نموذجا فوضويا لمسلماته الجغرافية وتجربته التاريخية وثقافته وتكوينه المجتمعي، حيث عجزوا جميعا عن إنتاج معادلة يؤمّنون عبرها الاستقرار والأمان والدور، بل تحول إلى ساحة صراعات وتصفية حسابات تحت شعارات أثبتت فشلها. إنه اليوم بلد خدمات يقدمها للآخرين كي يتصارعوا على ساحته تارة، أو يتحاوروا تارة أخرى، كما أصبح ملحقا قسرا للبعض، وخيارا وطوعا للبعض الآخر، وبات حقه في مهب الريح في ظل عدم وجود قوة تحمي حقوقه. إنه اليوم يقدم خدمات جيوسياسية من دون مقابل، ووسيلة لاستراتيجيات إقليمية لا دخل له فيها، وليس لديه فكر استراتيجي على مستوى القيادات. ولم يعد أمام جهابذة السياسية، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية، إلا أن يشرحوا لشعبهم ما هي خياراتهم؟ وما الثمن المطلوب؟ وما الدور المستقبلي؟ وعليهم أن يدركوا أن الوجود من دون دور فاعل يُشكّل نفقا يقود العراق إلى المجهول؟
السؤال الكبير هو، هل حلم الرئيس العراقي حين تولى المنصب أن يكون بسمارك العراق؟ فيسير على خطى بسمارك الذي وحّد ألمانيا وطوّر جيشها وقاد ثورة إدارية فيها، واستطاع في 17 عاما تحقيق حلم توحيد ألمانيا، الذي داعب مخيلة الشعوب الألمانية لمدة 14 قرنا من الزمان؟ أم هل تمنى أن يستعير دور لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة؟ الذي قاد انفصالها عن ماليزيا وهي بلا موارد طبيعية ومن دون ماء للشرب، ولا وسائل دفاع، لكنه في عام 1983 أصدر قانون محاربة الفساد وقال “في عالم متغير يجب أن نجد مكانا لنا نقدم فيه دورا للعالم من خلال تجديد المواهب والشرفاء الذي يعملون في القطاع العام”. وها هي سنغافورة اليوم بعمر 55 سنة فقط، لكنها نقطة بارزة على الخريطة الدولية بدخل قومي مقداره 372 مليار دولار؟ أم أن الرئيس العراقي أراد أن يكون حلمه في سياق أضعف الإيمان، فحلُم أن يقوم بدور الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلاديش، التي حققت لشعبها منذ عام 2009 إنجازات كبرى في الصناعة والزراعة، وبات الدخل القومي لبلادها 275 مليار دولار، لكن راتبها الشهري 1350 دولاراً فقط، وتسكن في بيت مؤجر لها، ومخصصاتها اليومية 36 دولارا فقط، أي أن الدولة غنية وليس الحكام على عكس ساسة العراق الذين أفقروا البلاد والعباد، لكنهم أصبحوا من أثرياء العالم.
لقد سعى الرئيس العراقي في اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة، إلى أن يطلب تشكيل تحالف دولي لمحاربة الفساد في العراق، واسترجاع الأموال المنهوبة من خزائنه، لكن يبدو أن الرئيس يرى الفساد ونهب الأموال فقط من خلال العقود التجارية التي أبرمها المسؤولون الفاسدون، والرشاوى التي يتقاضاها الموظفون في دوائر الدولة. وماذا عن رواتبكم أيها الرئيس؟ هل راتبك الشهري كراتب الشيخة حسينة؟ وهل تسكن أنت وعائلتك في بيت مؤجر أيضا؟ وماذا عن مخصصات مكتبك للضيافة والهدايا والإكراميات؟ وكم تكلف خزينة الدولة الخاوية رواتب الفوج الرئاسي الذي يرافقك ويحميك؟
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية