عندما تختزل الديمقراطية فقط بصناديق الأقتراع
د.عامر صالح
النظام السياسي في العراق يثير جدلا حول مشروعيته كونه ممثلا لأرادة الشعب أم لا فمنذ انتخابات 2005 والى اليوم فأن المساهمة الشعبية في صياغة النظام وسلطاته الأساسية التشريعية والتنفيذية تسير نحو الأنحدار في المساهمة الشعبية, حيث التدهور في مصداقية النظام من حيث مشاركة الشعب لرسم ملامح تلك السلطات, واذا اردنا في التعبير عن ذلك احصائيا وبنسبة المشاركة فأن انتخابات 2005 بلغت نسبة المشاركة فيها بحدود الأقل من 70% الى آخرها في انتخابات 2018 وقد بلغت المشاركة فيها بحدود 20% أي أن سمعة النظام السياسي تسير نحو الهاوية والتدهور من حيث مصداقية شعبنا بتلك المنظومة السياسية الفاسدة والتي أختبرها شعبنا طوال السنوات الماضية ومنذ العام 2003.
الديمقراطية مذهب فلسفي يعيد أصل السلطة السياسية إلى إرادة العامة “إرادة الشعب” لأنه مصدر السلطات، وتعود على شكل النظام السياسي إذ نميز بين نظام سلطوي وآخر ديمقراطي، لكن مقصدنا هنا الحديث عن مضامين الديمقراطية كقيم ثقافية واجتماعية، فالقيمة الأولى هي أن الفرد بحد ذاته قيمة، وحريته نقطة الانطلاق فلا يجوز تقييده أو تكبيله باسم السلطة ومن قبلها في مجالات الحياة وفضاءات السلطة، فهي أي الديمقراطية تروج لفكرة الحرية، وحق تقرير المصير، والاختيار، والاستقلال الذاتي المعنوي ومسؤولية الفرد عن اختياره، وحماية مصالحه والخبرات التي يشارك بها الآخرون، ناهيك عن احترام كرامة الإنسان كانسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو جنسه واحترام حرية الرأي والاعتقاد، والتعبير بكافة الإشكال وبقية الحريات كما هي الحقوق من مدنية وسياسية. الحقوق التي ولدت معنا والتي اكتسبت من وجود التنظيم السياسي الذي تطور مع تطور المجتمعات البشرية.
وفي الممارسة العملية فالديمقراطية تعني بأختصار شديد: البرلمان والحكومة مسؤولان عن حماية و تطوير النظام الديمقراطي، و استقلالية السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية، و الفصل بين المهام الحزبية و التعليمات الحكومية، و السلطة السياسية و سلطة المجتمع المدني، و و توزيع وتقسيم السلطات على جميع المستويات الادارية في المناطق, ان البرلمان و الحكومة مسؤولان عن اقامة دولة القانون و احترام سيادة القانون الذين يتوجب تنفيذه على الجميع على نحو متساو، و اتباع المساءلة القانونية دون تمييز بين المناصب و الدرجات الوظيفية في الحكومة او التمييز بسبب الانتماء الحزبي او الاجتماعي, احترام و صيانة الحريات و الحقوق السياسية و المدنية و الحقوق والحريات الفردية، و حرية الاقامة و حرية الضمير و التعبير عن الراي و الفكر و حرية الاعتناق, تكريس ثقافة المعارضة المدنية و المعارضة السياسية و الثقافية و الانتقاد كحق يمثل الوجه الثاني للمسؤولية, وضع نظام انتخابي شفاف ومتحضر، نظام يتسم بكل المعايير القانونية الدولية و التقنية لمنع كل اشكال الخروق والتزوير في عمليات التصويت, تكريس ثقافة القبول بالاختلافات على المستويات السياسية و الاجتماعية و الثقافية، و القبول بالاخفاق الانتخابي و الصراع السلمي و تداول السلطة في جميع المستويات السياسية، و تداول المسؤولية على المستويات الادارية و الاجتماعية بين الاشخاص المناسبين و بين الجنسين و الاعمار المتباينة.
الأسلام السياسي في العراق كما في غيره من البلدان العربية والأسلامية ومنذ عام 2003 استخدم الديمقراطية كوسيلة للأستحواذ على الحكم والهيمنة السياسية على المشهد السياسي والاجتماعي والأقتصادي, سياسيا استخدم الاسلام السياسي صناديق الاقتراع كوسيلة فقط للأستيلاء على السلطة بمختلف الوسائل, من تزوير وأفساد لأرادة الناخبين واشاعة ثقافة اللاجدوى من الديمقراطية بأعتبارها بدعة غربية ” وكل بدعة حرام ” وان التحايل على صناديق الأقتراع فيه من الجواز الشرعي بعقول المتأسلمين, واجتماعيا اشاعة منظومة الخرافة والدجل وثقافة المسخ بما يحول الحياة الى تراجيديا مأساوية يحول الحياة الاجتماعية الى جحيم مشرعن, واقتصاديا شرعنة الفساد الأداري والمالي في سرقة المال العام وزرع ثقافة الأنحطاط وانعدام الوازع الاخلاقي والقيمي في تحريم الحلال وتحليل الحرام, حتى اصبح تحويل الدولة وممتلكاتها الى غنائم بين احزاب الاسلام السياسي والأثني.
منذ 2003 وما بعد سقوط الدكتاتورية بات مشروع الأسلام السياسي هو ليست الفوز بالأنتخابات ديمقراطيا والأستسلام لأرادة الديمقراطية في التدوال السلمي للسلطة بل هو مشروع للأستحواذ على الحكومة والدولة وتفريغ محتوى الأثنين من كونهما دعامة لحماية المواطن وتأمين الخدمات الأنسانية له وكذك ليست لزرع مفهوم دولة المواطنة والتعايش السلمي لكل التنوعات الأثنية والثقافية والعرقية الجامعة للعراق بكل مكوناته, بل فرض نموذج كسيح للدولة الطائفية والأثنية.
يمارس الأسلام السياسي في العراق منذ 2003 سلوكيات الأنقلاب على الدستور والعملية السياسية وعلى صناديق الأقتراع بممارسة التحايل بكل اشكاله لأفراغ العملية السياسية من كل محتواها والمتمثل اصلا في التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الأقتراع. الأسلام السياسي لا يؤمن بهذا كله استنادا الى مسوغاته الشرعية والدينية في معاداة الديمقراطية الغربية وباعتبارها مخالفة للأحكام الشرعية للأسلام السياسي. ومما يثير الدهشة هو قدرة الاسلام السياسي في قدرته على التلون والتكيف كالحرباء, فهو يدعي الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة اكثر مما يدعيه اصحاب الحق والأيمان في الديمقراطية, ولكن حينما يؤمن الأغلبية الانتخابية سواء بالتزوير أم الأكراه اوبالعنف المسلح سوف يبدأ بمشروعه المعادي لبناء دولة المواطنة وتحويل الحياة الى جحيم على أسس من التخلف ومعاداة الحداثة والديمقراطية.
الأحباط المزمن لشعبنا منذ 2003 ولحد اليوم يؤكد أن حالة الفقر والفاقة والجوع لاتعالجها دعاة أن “الأسلام السياسي هو الحل”, بل أن الأسلام السياسي هو جزء من المشكل وهو يدخل طرفا مستميتا بخطابه او بقوة السلاح لفرض اجندة الفقر والتشرذم, والأسوء من ذلك فرض رؤى وردية لتنظيف ماضيه القريب وسفالته في محاولته للعودة الى المشهد السياسي بأي ثمن ولأعادة نوبات الفساد وسرقة المال العام.
الأسلام السياسي لا يعي اهمية الديمقراطية بفعل غبائه المستحكم او بفعل قناعاته الماورائية المضادة فالديمقراطية أهمية كبيرة على الفرد والمجتمع والدولة بشكل عام ومنها ما يلي: تعمل على تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. عدم وجود الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية في ظل الديمقراطية . تقليل نسبة الفساد السياسي والإداري في الدولة. تؤثر بشكل كبير في تقليل مستويات الفقر والجوع في العالم. تعمل على النهوض بالدول، لذلك نلاحظ أن الدول الديمقراطية هي الدول الأكثر تقدماً في العالم. تعمل على تحسين الاقتصاد الوطني ونموّه بشكل ملحوظ. تحقق المساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع. تحمي حقوق الإنسان وحرياته العامة.
خلال ما يقترب من عقدين من الزمن على التجربة العراقية ” الديمقراطية ” والتي يفترض ان تسير بمسارات ايجابية اكثر مما هو عليه في مجالات تعزيز قيم وتقاليد الديمقراطية السياسية, بل بالعكس يتصارع اليوم الأسلام السياسي بأقطابه المعروفة من الشيعة والسنة الى جانب القوى الأثنية, ويقرر سلفا بطموحاته المريضة دون احترام للناخب للأستحواذ على المقاعد النيابية ويفترض حصوله على مقاعد برلملنية خيالية تشكل في مقدماتها صراع شرس قادم بين المكونات الطائفية السياسية الواحدة, وهو أمر قد ينذر بمزيد من الفوضى في الشارع العراقي على خلفية التحريض بين جزئيات المكون الواحد.
ما هي جدوى الدعاوى والحماس المفتعل للمشاركة في الانتخابات القادمة في 10ـ10ـ2021 في ظل مراوحات في المكان, وماهو الجديد لكي تكون الانتخابات افضل من سابقاتها, حيث يستعد الأسلام السياسي بكل صلافة في العودة لتصدر المشهد السياسي وهو يستعد لأعادة تدوير نفاياه بواجهات مختلفة, تارة بأنشقاقات وتشظيات مؤقتة لحين الفوز بالأنتخابات, او النشاط من خلال منظمات المجتمع المدني الصفراء.
الدعاوى من قبل الحكومة العراقية للمساهمة في الانتخابات القادمة لتغير واقع موازين القوى السياسية في البرلمان العراقي القادم هي دعاوى مشروعة ولكن عندما تقترن بأجراءات ميدانية تعكس قدرات السلطة التنفيذية لتوفير افضل الأجواء الأمنية لخوض الأنتخابات, فالأمنيات وحدها لا تحقق انتخابات ديمقراطية عادلة وخاصة ان التجارب البرلمانية السابقة فيها من المرارة ما يكفي لعدم الثقة بالحكومات وبالأحزاب المتنفذة في المشهد السياسي.
أن مطالب شعبنا في خوض انتخابات عادلة نسبيا يكمن في ما تقدمه الحكومة من خطوات جريئة, وفي ابرزها الكشف ومحاسبة عن قتلة المتظاهرين، منع السلاح المنفلت والميليشيات الاجرامية، منع ترشيح الاحزاب ذات الاجنحة المسلحة وتطبيق قانون الاحزاب الذي يمنع ذوي الأجنحة المسلحة لخوض الانتخابات، الأعلان الواضح عن رفض المحاصصة الطائفية والاثنية كنموذج قادم للحكم، خطوات جريئة في مكافحة الفساد والكشف عن رموزه وعدم الأكتفاء بالمطالبة الدولية بمكافحته , فالحكومة يجب ان تقدم للشعب ادلة ملموسة تؤكد مقدرتها في مكافحة الفساد بعيدا عن المراوغات الاعلامية والضحك على الذقون.
النظام ” الديمقراطي ” في العراق هو ولادة عسرة لتداعيات الاحتلال الامريكي له, حيث لم تكتمل عوامل النضج الذاتي والموضوعي لأختمار تجربة ديمقراطية تعبر عن تفاعلات القوى الداخلية في المجتمع العراقي, وبالتالي مما فسح المجال لقوى نشأت على خلفية انفعالية وليست سياسية, وكان ابرز سلوكياتها هو الثأر وعدم الاكتراث في بناء مستقبل أفضل !!.