إسماعيل فهد إسماعيل… صانِع المستحيل
شيء ما يعيدنا دوماً إلى نقطة البدء التي صنعت جزءاً حياً من ذاكرتنا، محملين بسؤال ثقيل: كيف يموت الذين نحبهم؟ نصنع لهم دوماً، من فرط حبنا لهم، كرسياً جميلاً من غيم وضباب، في بيت الخلود، قبل أن يفاجئنا الموت بصفعة حادة ومدمية، أو بضربة كف: لا قوة توقف سلطان الموت. فنعود إلى منطق الفناء، نكز على أسناننا ونمضي منكسي الرؤوس أمامه. «هو الموت يا صاحبي، يأتي متى يشاء، ويأخذ من يشاء، ويمضي أنّى يشاء» لا أدري إذا كنت أنا قائلها، أم صديقي الروائي إسماعيل فهد إسماعيل؟ وأنا في بيته الفخم، أتأمل مقتنياته من اللوحات لفنانين خرجوا من هذه الدنيا تاركين وراءهم ذاكرة مثقلة بالألوان. وهل تموت الألوان والكلمات؟
في مثل هذه الأيام، قبل سنتين ونصف، غادرنا الروائي الكويتي العربي الكبير، إسماعيل فهد إسماعيل (1940- 25 سبتمبر 2018). لم يكن روائياً عادياً، لكنه لم يأخذ حقه الذي يستحقه. لكن ما هو حق الروائي في عالم عربي كل شيء فيه مرتبك ويتحلل باستمرار؟ الجوائز؟ جاءته ولم يطلبها. التكريمات؟ كان أكبر منها. الاعترافات؟ لا أعتقد أنها كانت تعنيه. رجل ترك ميراثاً كويتياً وعربياً كبيراً، لا يمكنه أن يوفَّى حقه. عندما نتأمل مدونته ينتابنا الإحساس الغريب بأننا لم نخسر روائياً فقط، ولكن إرادة جبارة لم تحصر العالم في حدودها، ولكنها تخطته نحو الأجيال الروائية التي أسهم في تكوينها، من مجايليه ومن الشباب. هذا الزخم الذي أنتجه كان يمكن، لو استمر أكثر في الحياة، أن يجعله بلزاكاً عربياً جسد الكوميديا العربية المرّة، والانهيارات الكبرى بدءاً من روايته الأولى: كانت السماء زرقاء (1970) التي قال فيها يومها الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، الذي قدم لها: «أدهشتني الرواية ذاتها ببنائها الفني المعاصر المحكم، وبمقدار اللوعة والحب والعنف والقسوة والفكر المتغلغل كله في ثناياها» ثم تتابعت النصوص بشكل مكثف، المستنقعات الضوئية (1971) الحبل (1972) الضفاف الأخرى (1973) ملف الحادثة 67 (1975) الشياح (1975) الطيور والأصدقاء (1979) خطوة في الحلم (1980) النيل يجري شمالاً (1983، 1984) النيل، الطعم والرائحة (1989) سباعية إحداثية زمن العزلة (1996) الشمس في برج الحوت (1996) الحياة وجه آخر (1996) قيد الأشياء (1996) دوائر الاستحالة (1996) ذاكرة الحضور (1996) الأبابيليون (1996) العصف 1996، بعيداً.. هنا (1997) الكائن الظل (1999) سماء نائية (2000) طيور التاجي (2014) في حضرة العنقاء والخل الوفي (2014) الظهور الثاني لابن عيون (2015) السبيليات (2015) وانتهاء بروايته: صندوق أسود آخر (2018). وكلها نصوص تجسد تلك الكوميديا السوداء التي تنام في الأعماق العربية.
ما يربطني بإسماعيل شيء حميمي، مضى عليه اليوم قرابة النصف قرن من صداقة لم تتوقف قط، بصحبته أو بصحبة كتبه.
كل شيء بدأ بصدفة عجيبة؛ عندما عبرت عتبة مكتبة البدر في شتاء 1973، في أهم شارع في مدينة وهران، صبّحت على مسيّرها، عمي العاصمي، وسألته عن الجديد. قال بلا تردد: كنت أفكر فيك وأنا أقرأ كاتباً اسمه إسماعيل فهد، أعجبني كثيراً وأقنعني. ثم أطلعني على كنوزه في عمق المكتبة. لم أكن أعرف شيئاً عن إسماعيل فهد إسماعيل. ورغم إمكاناتي المادية المتواضعة، فقد أخذتها كلها بلا تردد: البقعة الداكنة 1965، كانت السماء زرقاء 1970، المستنقعات الضوئية 1971، الحبل 1972، الضفاف الأخرى 1973. لفتت انتباهي روايته الأولى «كانت السماء زرقاء» بشكل خاص لا أدري لماذا؟ ربما لأن بدايتها كانت ممتعة، لغتها مدهشة. من هذه الناحية كان إسماعيل مايسترو، للأسف تخلى عن هذه اللغة لاحقاً، وحتى عن طريقته الأولى في الكتابة، ربما لأنه شعر بصعوبتها على القارئ. شيء ما في رواية «كانت السماء زرقاء» أسرني كلياً. تكونت لدي قناعة أني أخيراً عثرت على كاتبي المفضل. كل ما وصفه في «كانت السماء زرقاء» في الرحلة القاسية عبر البراري الخالية والوديان، والمياه الراكدة، في لحظة الهروب، كان قوياً. قضيت الليلة كلها سهرانَ مع الرواية، أعتقد حتى الخامسة فجراً. ما السر؟ أول نص أقرأه لإسماعيل. على الرغم من أن الرواية مبنية على إيقاع واحد، الجري في لحظة هروب، فلا ملل أبداً. تكاد تكون قصة قصيرة، مكثفة في أسلوبها وأحداثها، لكن الذي منحها اتساعاً أكبر هو كونها مبنية على رحلتين يخوضهما البطل مرغماً بحثاً عن الحياة. يشكل الهروب ثيمة حقيقية تنبني عليها سرعة اللغة وحركتها، وعدم ميلها للتفاصيل الشارحة التي تثقل النص عادة. وفي الهروب، تصل المعاناة إلى سقفها لدرجة تنتابنا الرغبة في إيقاف الروائي عن تعذيب أبطاله وتعذيبنا معهم. نركض مع شخصياته وكأن أي توقف سيجعلنا طُعماً للكلاب المتربصة. تظهر بوضوح، قدرة إسماعيل على اللعب بالفلاش باك. نعيش باستمرار لحظة الهروب وقسوتها بالارتحال ليلاً، ونتوغل في اللحظة نفسها داخل أعماق البطل الهارب من موت أكيد باتجاه مبهم نفترض النجاة فيه.
وعلى الرغم من أني قرأت إسماعيل في كليته الروائية، فقد ظلت رواية «كانت السماء زرقاء» هي طريقي الدائم نحو إسماعيل. جعلني سلطانها ألغي بحث تخرجي في الليسانس عن جورجي زيدان، وأعوضه بآليات السرد في رواية «كانت السماء زرقاء» لهذا قلت لإسماعيل يوم التقيت به للمرة الأولى في الكويت، في منتداه الأسبوعي: حبيبي إسماعيل، لك يد بيضاء في شهادة الليسانس التي تحصلت عليها بفضل بحث قمت به عن روايتك: كانت السماء زرقاء. فأجاب محنياً رأسه: أخجلتني يا رجل. واستمرت هذه الرواية زمناً طويلاً في ذاكرتي الروائية أيضاً. عندما كتبت روايتي في نهايات السبعينيات: وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر، كانت رواية إسماعيل ماثلة في داخلي كتمثال من رخام. لم أدرك ذلك إلا لاحقاً. فقد اخترت تيمة الهروب. هروب محكومين من السجن المركزي في المدينة. من خلال لحظة الهرب التي استوعبت حوالي الأربعمائة صفحة، كانت علامات إسماعيل الأدبية حاضرة، ومعها فيلم اسمه «الهروب الكبير» كنت قد شاهدته وقتها. لا يمكن للكاتب أن يتنصل من الأشياء الجميلة التي فيه. نقضي العمر الكتابي كله في محو ما ترسب فينا من حب الكتاب الآخرين الذين شكلوا لنا ذاكرة كتابية، لكن حضورهم يظل فينا (التناص وفق جيرار جنيت) لكننا في الوقت نفسه ننشئ ما يشبهنا ويعبر عنا كتابياً. وكلما كررت على مسمعه أثره عليّ في بداياتي الروائية، شد على يدي وأحنى رأسه خجلاً وهو يردد بصوت بالكاد يسمع «يكفي تواضعاً يا واسيني. أنت تخجلني» مع أني لم أقل إلا حقيقتي تجاهه، كما قالها قبلي وبعدي آخرون شكّل لهم إسماعيل تجربة متمايزة ومدهشة. وأقولها اليوم وقد أصبح روحاً حية في أعماقي. لقد ولد إسماعيل، صانع المستحيل الأعظم، كبيراً بـ «كانت السماء زرقاء» وعاد نحو اللامنتهى متسائلاً عن مآلات عالم مليء بالألغاز والأسرار والسواد، في روايته الأخيرة: صندوق أسود آخر. هذه المسافة الروائية والتأملية بين المنتهى واللامنتهى تحتاج إلى من يتأملها اليوم عن قرب وبتبصر نقدي نفتقده كثيراً.