خاطرة
الروائي/عبد الجبار الحمدي
لا عليك فالعالم الذي تعيشين موؤد مثل وطنك، هكذا وفي كل وقت يردد عليها الجوع.. كلاب تعوي، إمرأة وصبية يبحثون عن لقمة في مكب نفايات بين تزاحم قطط، الذباب هو الآخر يغتصب وبدناءة شرهة، الجميع يصارع مثل مصارين بطن خاطرة التي لم تذق الطعام منذ يومين.. ها هي تحمل بغبطة كيس صغير شفاف الذي تحاول أن تواريه عن الجميع، إنه من صاحب الخربة الطينية المنزوية كدكان بقالة… العشوائيات حيث ركنت نفسها تستجدي رحمته، جاد عليها بما تحمل بيضتين مكسورتين عفا الوقت عليها وقد التصقت في بطن طبقة البيض، القشور عائمة تتخبط بزلالها، مرت وقد رست بعينيها على مكب النفايات خوفا من تابع رصد ما بيدها، على أخيها الصغير ذو الثلاث سنوات يقف خارج باب بيتهم الطيني ينتظرها كعادته، ما ان رأها حتى راح يصيح عليها محاولا السير نحوها سبقته هي كي لا يقع ويتأذى، تلقفته وهي تقول سنأكل بيضا هذه الليلة علاوي وهي تحرك الكيس امامه كبندول كسرت أسنان تراقصه وهي تحمله، أزاحت قطعة القماش التي اختفت ألوانها وبهتت من من كثر مسح مخاط وأيدي مليئة بأوساخ.. فصار مآلها الإصابة بتقيح وإصابها الغنغري، بترت أوصال منها فباتت عالة على أهلها مثلها مثل أي قطعة مركونة في تلك الغرفة الطينية التي رتق سقفها بمختلف الأشياء، بقايا خشب، صفيح، وبعض قطع من النايلون وبعض من الطابوق الذي يمسك بكل قوة نفسه عن السقوط… لا يوجد شباك فالباب يغني عن ذلك غير أن قطعة القماش التي تمثل الباب كانت أكثر فقرا من السقف والحوائط الأربعة… صاحت خاطرة أبي لقد جئت ببيض لكنه تكسر بعد أن جريت من الكلاب التي لا حقتني، بالتأكيد سوف أخرج القشور عنه وسنأكله… أليس كذلك يا علاوي، علي يهز برأسه ويصفق بعد ان حك خصيتيه ثم مسح أنفه الذي كان قد ذب مخاطا غير الذي تيبس على يده.. رمت به حيث والدها الكسيح فقد ركد كمياه آسنة لا يريد لنفسه الحياة، فاحت رائحة جسمة نتانة من عدم الاغتسال رغم أن خاطرة سعت جاهدة الى توفير المياه كي يغتسل لكنه ومنذ خمسة او ستة أشهر لم يغتسل فهو بالكاد يقوم على قضاء حاجته وتشطيف نفسه… كثيرا ما ردد على خاطرة لولاكم لقتلت نفسي منذ زمن بعيد في نفس اليوم الذي ماتت فيها والدتك.. كان ذلك منذ أربعة سنين بعد ان أخذ حادث مفزع زوجته وسبعة من الركاب وهم عائدين من زيارة آلمراقد المقدسة… هو يعمل أجيرا عند أحد الحدادين بأجرة يومية لكنه اليوم وقد بترت ساقيه وأحدى يديه، نسيه الصحب كما الوطن مثل الكثيرين الذي رموا كأي فضلات زائدة… حتى صاروا عالة على خاطرة والوطن وأرضه، فالقادمين الجدد لم يكن لهم ولاء الى الوطن بل كانوا موالين لضمائر ميتة غرسوا بعد ان تمكنوا بحجة الإسلام السياسي والتضرع بإسم آل البيت، تمسكنوا حتى تمكنوا كقوادين عتاة وحاشية من الخنازير يعتاشون فضلات بطونهم، يأتمرون بإشارة ضائعة في أي وقت كان ليل أم نهار… نسوه الأهل مثلما نسوها أهلها زوجته، لا تتذكر إلا حين خرجوا من بيتهم بعد أن دخلت داعش وقتلت من تمكنت منهم وحرقوا بيوت من شعروا انهم رافضة.. يا للعار كانت بين ملة غير ملتها تعيش بسلام، وما ان هُجرت حتى عاشت بين بني جلدتها بذل، هكذا كانت تردد على مسامع زوجها في أحاين كثيرة… هو يرى إبنته تحاول ان تفعل قدر استطاعتها، شعرها الذي لم يتذوق الماء منذ فترة، ثوبها الذي تذكر أنها رتقته بعد أن وهن القماش وتمزق دون إرادتها أما ما يستر عورتها فظن أنها تلبس ما كان لأمها… أما علي الصغير فكان غالبا ما يعبث بلعبة لا معالم لها فكل تفكيره أنها مسدس فتراه يطلق النار على كل ما يحبه حتى والده الذي تمنى ان يكون مسدسا حقيقيا ليخلصه من حياته… لكن ليس على يد علي فما ذنبه أن يدخل السجن بجريمة والده تمناها لنفسه… تارة يسمعه حتى يقول: تا.. تاه… كأنه يطلق الرصاص… الذي أثار استغراب ابيه!!! ترى كيف له ان يعرف صوت إطلاق الرصاص فهم لا يمتلكون أي وسيلة لتلفاز او حتى راديو، ظل منشغلا بحركة علي حتى أنتهت خاطرة من طهي البيض بزيت محروق وصحن طهي اسود… اخرجت من خزانة الملابس إن صح القول بذلك خبز ملفوف بعد أن أشار لها أبيها لها بذلك، يبدو ان مر عليه اكثر من يومين كان قد نسته لولا أن ابيها ذكرها به وإلا ما جاعت… فلامته على تركها جائعة لتلك المدة، كسرة خبز تمضغها بصعوبة حتى لا تسمع جيرانها أنها تأكل خبزا يابسا كأنهم أحسن حال منها، اكلوا البيض غير ان والدها كان يُصور لها انه يأكل فالبيض لا يكفي.. فراح يقضم الخبز متظاهرا بلف البيض فيها.. كان النصيب الاكبر لعلي.. رغم انه يصرخ على خاطرة ان تبعد القشور التي كانت مع خليط البيض.. نام الجميع جنبا الى جنب فالليل لا يسمح لمثلهم بالسهر، فإن بقوا مستيقظين سيجوعون ولا يوجد ما يأكلونه… ليل خاطرة مليء بأحلام فأثناء تجوالها لجمع علب الصفيح وقناني البلاستك تشاهد لفتيات بمثل عمرها وهن يذهبن الى المدرسة… لكن حلمها سرعان ما يهرب حين تشاهد نفسها بين نفايات تنبشها للحصول على قوتها… تكره مكبات النفايات، تلعن كل رائحة نتنة وتلعن القدر الذي اجبرها على بيع طفولتها بإستجداء وانتظار من يرحمها.. فالإستجداء صار مهنة عند الكثيرين، فالوطن وساسته جعلوا من الناس إما سراق وإما مستجدين وإما عاهرين وعاهرات… أو كما الضفة الأخرى تَديُن ومحابس ثم مسبحة تجعلك ممن يأكلون الحرام كأنه بقلاوة… بقلاوة ترى كيف هو طعمها؟ تذكرت ذلك حين رأت جمهرة من الناس تتقاتل على ثواب جيء به ليوزع ثوان كانت الصينية فارغة حتى أنها لم تستطع ان تلحس بقاياها فقد سبقها من كان أقوى منها المهم عرفت إسمها.. في الثالثة عشر من عمرها ولا زالت تعيش على الفايات، اي وطن وأي حكومة تفعل بأبنائها كل ذلك الحرمان، الفقر، العوز، الجهل، الموت، القتل، كثيرة هي عيوب من يحكم الوطن.. نسوا بل تناسوا كل شيء إلا الصلاة وكيفية السرقة… فهم من اصحاب إسرق وأنهب ثم صلي وحج.. تُغفر لك الذنوب ما دمت تتوضأ ببول الشيطان وتتمضمض به، عادت بعد أن باعت ما لملمته فسارعت الى شراء أرغفة خبز وباقات من الخضرة وبيض غير مكسور، تُمني نفسها أن علي و والدها سيفرحان بذلك بعد ان مدت يدها مثل غيرها يائسة فحصلت على كيس يحوي علبة فاح منها رائحة الرز وقد رأت ان المرق قد فاض في باطن الكيس… فرحة تسير هاهي الشمس تضرب راسها بهراوة الحرارة لكنها لم تأبه فالغداء قد ضمنته والعشاء ايضا.. فلا تخرج اليوم من البيت.. تبسمت وقد تذكرت أمها تقول: كل شيء يمكن ان يحدث لك في العراق تتشرد تقتل، تُباع وتشرى، يسلب حقك كإنسان، تُفجر بحجة الطائفية، يُسرق حقك من الحكومة، يُفعل بك ما يُفعل، لكن ابدا لن تجوع في وطن يقطن معك فيه الإمام علي والحسين والعباس وآل البيت… كل ما عليك هو ان تصطف وتتراشق مع الآخرين كي تنال ثوابا لأجلهم… دخلت البيت فكان علي نائما على جوعه اما والدها فقد وجدته قد اغتسل بدا كما تحب ان تراه.. قَبلته قبل ان تسلم عليه.. حضنها بشدة على غير عادته.. فقالت: لقد حصلت على ثواب رز وقيمة كما قيل لي… وضعته امام والدها ثم ايقظت علي وهي تهمس انهض علاوي سنأكل رز وقيمة اليوم.. لم يعلم ماذا قالت؟ لكنه انتصب بعد ان بال على نفسه دون إرادته وتناثر بوله في المكان… فسارعت لأخذه الى الخارج ليقضي حاجته… إغتلست له و وجه ويديها ثم عادت وقبل ان تأكل تذكرت أنها قد اشترت لعلي علبة من البسكويت من صاحب الدكان فنستها هناك مع البيض والخضرة فقد شغلها ما حصلت عليه من ثواب.. فقالت لوالدها: سأذهب لجلب ما اشتريته للعشاء لقد نسيته عند صاحب الدكان.. امسك علي بها فحملته وانطلقت به مسرعة وهي تقول أبي سأعود كل ما شئت واترك لنا ما تشاء من الرز والقيمة…
الرز والقيمة بالكاد قد انتقص منهما شيئا، كانا مغمسين بالدم، والدها مسجى وهو معطي ظهره نحو الباب.. صرخت ما ان وطئت رجليها بركة من الدم وعلى صياحها صرخ علي وراح يبكي وقد رمى من يده اللعبة التي تشبه المسدس… تجمهر الجيران كان والدها قد قطع شرايين رسغة بأسنانه ليموت، تاركا خاطرة ضائعة مع علي في عالم و وطن تسكنه الوحوش والضياع.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي