خدعة الديمقراطية في البلاد العربية
تستفز الممارسات الانتخابية التي تجري بين الحين والآخر في بلداننا العربية عقل المراقب السياسي، فيحار على أي منضدة تشريح يضعها، كي يحلل هدفها وظروفها ومغزاها ونتائجها، وصولا إلى تقييم الممارسة وقياس نجاعتها أو جدواها، وفق مفهوم وقوانين العملية الديمقراطية الحقيقية، ولكي يكون الإنصاف في الحكم أول الدوافع، لا بد من التساؤل، هل تحققت دولة المواطنة في الوطن العربي؟ ما آليات الحكم القائم؟ وهل توجد مؤسسات دستورية مستقلة عن سطوة الداخل وإملاءات الخارج؟
أولا يجب القول وبشكل واضح، إن دولة المواطنة هي الثمن الكبير الذي يجب أن يُدفع من أجل تحقيق المواطنة، كنظام اجتماعي وسياسي، لأنها الحاضنة الرئيسية لحقوق المواطنة، فلا وجود لمواطنة في دولة غير وطنية، كما أن عدم وجود مؤسسات في الدولة قائمة على أساس العقد الاجتماعي، وعلى الأسس الدستورية، وعلى حاكمية القانون، وعلى أساس الحقوق المدنية والسياسية، يعني عدم وجود الدولة الوطنية.
ووفق هذا الإطار يصبح في حكم المنطقي أن الوطن العربي يكاد يكون خاليا من حقيقة الدولة الوطنية، وبالتالي فإن الممارسات الانتخابية التي تجري، هي مجرد خدعة ووسيلة تظليل للداخل والخارج، لكن السؤال الأهم هنا هو لماذا لم يصل العرب إلى تحقيق الدولة الوطنية؟ والجواب هو لأنهم ما زالوا حتى اليوم يعيشون في نظام الدولة التقليدية البعيدة كل البعد عن الحداثة السياسية. صحيح هنالك عملية انتخابية وبرلمانات وحكومات تتشكل، لكن السياسة لا تدار في هذه المؤسسات، كل شيء يدار في مؤسسات تقليدية أخرى، تشكل مركز إدارة الشأن السياسي. ولأن هذا النوع من الدول لا يستطيع تحصين حقوق المواطنة المدنية والسياسية، وغير قادرة على بث حالة من الشعور داخل المجتمع بأنها دولته، وأنها تستحق منه أن يدافع عنها، وأن فكرة القانون وأهميته كأساس لكل تركيبة اجتماعية غائبة عن مفهوم الإنسان العربي لعلاقته بدولته، فإنها لن تستطيع تحصين نفسها كذلك، وبذلك لا يمكن القول إن الانتخابات التي تقام هنا وهناك، إنها ناجحة، لأن النجاح مرتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق الدولة الوطنية على أرض الواقع. ما يجب التأكيد عليه هو أن الديمقراطية يجب الشروع بها من مقاعد الدراسة، كما أنها تأتي من خلال تطور النخب وتحديثها لنفسها، فمن الخطأ التصور بأن إسقاط الديكتاتوريات يعني حتمية بناء ديمقراطية حقيقية وازدهار مجتمعي. كما لا يوجد مثال واحد في التاريخ على انتقال مجتمع ما إلى الديمقراطية بالثورة، حتى إيران لم تتحول إلى دولة ديمقراطية عقب الثورة على الشاه، وقد مرّ عليها الآن أكثر من أربعة عقود، بل حتى سقوط حاجز الخوف من السلطات، لم يوصل الشعوب إلى الديمقراطية. وما يقال عن ديمقراطية عراقية، أو لبنانية مجرد هراء أو شبه تمثيلية، حيث يعلن الساسة أنهم يبنون الديمقراطية ويلتزمون بالأصول الديمقراطية، وأنهم بحاجة للسلطة من أجل الدفع بالديمقراطية قدما، بينما يتظاهر البعض الآخر بتصديق ذلك.. وأن تصديق الغرب وتصفيقه للانتخابات والديمقراطية العراقية، ناجم عن نموذج من العلاقات الدولية، فما يهم الغرب هو أن تتحول الديمقراطية إلى شكل من الدين ورمز للإيمان، وإذا لم يعلن المرء أنه يؤيد الديمقراطية، ولم يطرح الشعارات الديمقراطية فإنه يخرج من السياق العام. أما إذا تكلم عن الديمقراطية فيبقى ضمن المجرى العام للعلاقات الدولية، ويغدو شرعيا ومعترفا به، لذلك نجد المفارقة الكبرى بوجود دول يعود نظامها السياسي والاجتماعي إلى القرون الوسطى تتحدث عن الديمقراطية.
لا يكفي عقد الانتخابات لإنتاج الديمقراطية، بل يجب أن تقوم على أرضية من المفاهيم التي تنسجم مع فلسفة الحكم الديمقراطي
لقد حرصت الدول العظمى على أن يبقى النظام الرسمي العربي والمجتمعات العربية على حالهما، كانوا يُنظّرون إلى خديعة كبرى تقول إن الحالة الطبيعية للوطن العربي هي اللاستقرار، وأن أمامه خيارين لا ثالث لهما: إما الاستقرار أو الحرية، أي يتوفر الاستقرار وتغيب الحريات، أو تتوفر الحريات مع غياب الاستقرار، لذلك شاع قول لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وهو «أعط لبنان حرية وهو يقتل نفسه» وربما يقول البعض اليوم إن هذا القول فيه شيء من الصحة، بعد أن قال الرئيس اللبناني إن لبنان ذاهب إلى جهنم، في جوابه على سؤال من قبل أحد الصحافيين، لكن هذا التنظير ليس واقعيا ويستهدف الإبقاء على الحالة الراهنة من أجل الحفاظ على المصالح، فقد أصبح نصف العالم يعيش في ظل أنظمة ديمقراطية إلا العرب، لم يلحقوا بهذه الموجه، لأن الغرب أقنعهم شعوبا وسلطات، بأن الاستقرار في الاستمرار على الحال. وهنا تكمن تناقضات الغرب بين القول بأن النظام الديمقراطي الغربي أصبح نظاما عالميا ينتشر في كل أنحاء المعمورة، في حين يقولون لا داعي للديمقراطية في المنطقة العربية، لأن الأهم هو الاستقرار فيها بأي ثمن. وعندما أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق بوش عن ضرورة دمقرطة الشرق الأوسط في عام 2003، لم يكن الهدف حقيقيا، بل كان مجرد شعار لإسقاط أنظمة معادية، لكن هل الديمقراطية هي العلاج لكل داء؟ كلا.. ففي سنغافورة لا توجد ديمقراطية.. كانت فيها مشاكل داخلية بسبب التنوع الإثني والديني، لكن النظام السياسي اللاديمقراطي فيها نجح في وضعها في موقع عالمي ريادي. على الجانب الآخر لم تستطع الديمقراطيات في أوروبا أن تصمد أمام الغزو النازي، بل إن بعض الديمقراطيات فتح لذلك الغزو الأبواب، من خلال الانتخابات، حدث ذلك في النمسا، وبعضها تهاوى قبل الغزو مثل بولندا وتشكوسلوفاكيا. في المقابل ليست كل الأنظمة الديكتاتورية عاجزة عن الدفاع عن الوطن واستقلاله، مثال الشعوب السوفييتية والصين وكوبا وفيتنام.
إن آليات الحكم الديمقراطي تتمثل في الانتخابات، ورقابة الدولة ومحاسبة المسؤولين، ووجود برلمان وسلطات، واحترام حقوق الأقليات والحريات العامة، وهذه كلها يمكن أن تتحقق في أي مكان أو دولة شرط وجود بوادر اقتصادية واجتماعية وتوفر الاستقرار، الذي يمكن أن يشكل قاعدة جيدة يمكن البناء عليها. ولا يكفي عقد الانتخابات لإنتاج الديمقراطية، بل يجب أن تقوم على أرضية من المفاهيم التي تنسجم مع فلسفة الحكم الديمقراطي، أي حاكمية الشعب وسيادته المطلقة، وهذه لن تتحقق من دون مشاركة شعبية، لكن المشاركة لا يمكن ضمانها من دون إجماع من المجتمع والدولة على شرعية النظام السياسي، وأهلية الدولة لتمثيل مصالح المجتمع والتعبير عن قيمه وتطلعاته، فالتحول الديمقراطي ليس قرارا سياسيا، بل عملية تدريجية طويلة الأمد، يتوقف استمرارها وحيويتها على إقناع الجمهور بفائدتها كنظام للحياة السياسية وممارسة السلطة. كما إن الوصول إلى النظام الديمقراطي يتطلب أن تكون الديمقراطية خيارا أخيرا وقطعيا، وأن تتوفر أدوات حقيقية تساعد على تخليص النظام السياسي من الميول السلطوية والتمييزية بين المواطنين، وكذلك تلك التي تبرر القهر السياسي والاجتماعي.
لقد حوت صناديق الانتخابات العراقية، التي جرت في العاشر من الشهر الجاري أصواتا، كان الدافع لها صوتا مرجعيا دينيا، وعرفا عشائريا، ومالا سياسيا، وإرهابا ميليشياويا، وأجندات خارجية. فأين حرية الاختيار؟ وهل هذه هي الديمقراطية؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية