ما وراء نزاهة وشفافية الانتخابات العراقية؟
كان هناك سخاء مذهل في الثناء على مجريات انتخابات العاشر من تشرين الاول/ أكتوبر، في العراق. إختلطت العبارات والشعارات السياسية بالدينية وحتى التخويفية. لجأ المرشحون وقادة الأحزاب والميليشيات ومبعوثو الأمم المتحدة وسفراء دول إلى استخدامها كسلاح للتأثير والأقناع الجماعي بضرورة المشاركة في الانتخابات. إنها انتخابات «مفصليةٌ مصيريةٌ وتأسيسية» و«واحدةٌ من أهم العمليات الانتخابية في تاريخ العراق الحديث» قال برهم صالح رئيس الجمهورية. « بها يتفادى خطر الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي» قالت المرجعية الدينية. إنه « طريق نأمل أن يؤدي إلى عراق أكثر ازدهارًا وأمناً وعدالة» قالت جينين هينيس- بلاسخارت مسؤولة بعثة الامم المتحدة بالعراق.
استمر المديح والثناء في يوم التصويت نفسه، وحتى الساعات القليلة التي تلته. تزكية، أسرعت منظمات دولية ودول وجامعة الدول العربية، بإرسال برقيات التهاني والتبريكات الى الحكومة والشعب. هنأت السفارة الإيرانية ووزارة الخارجية الروسية الحكومة والشعب بالنجاح، وأشادت بريطانيا «بالتسيير السلس» للانتخابات. إتفقت الرواية الرسمية في داخل العراق وخارجه أن عملية الاقتراع، سارت «بشكل انسيابي» وهي « مختلفة عما جرى عام 2018 «. ولم تبق صيغة تفضيل لم تستخدم لوصف الانتخابات «النزيهة الشفافة» أو « الكرنفال» الذي دعت اليه المرجعية الدينية العليا، كما صرح المتحدّث العسكري باسم كتائب حزب الله العراق، وردد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي «لقد أتممنا واجبنا بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة».
هذه اللغة الناعمة الرقيقة عن النزاهة، والشفافية، والمصداقية، وصوتك هو مستقبلك، سرعان ما بدأت بالتبخر، تدريجيا، بعد إغلاق صناديق الاقتراع، وإعلان مفوضية الانتخابات أنها ستعلن النتائج بعد ساعات. تبخرت آخر قطرة من التلاعب بلغة التحشيد السياسي. حل محلها خطاب سياسي يجمع ما بين الترهيب من العواقب والتشكيك بسيرورة الانتخابات التي تمت بحضور أكبر بعثة انتخابية للأمم المتحدة في جميع أنحاء العالم، وبعد إجراء أربع عمليات محاكاة انتخابية، وصرف مبالغ خيالية، وبعد توقيع كل الأحزاب المشاركة على «مدّونة قواعد السلــوك الانتخابي» التي تعهدت بموجبها « بنبذ التعصب والعنف وخطاب الكراهية». كل هذا تهاوى لغة وتنظيما وسلوكا، إنزاح السراب سريعا وباسرع مما توقع المراقبون «الأمميون» حال بدء المفوضية بإعلان النتائج «الأولية «، الدالة أولا: على أقل نسبة مشاركة منذ تأسيس « ديمقراطية العملية السياسية» إثر الغزو الأنكلو أمريكي للعراق عام 2003. مما يعني أن التكرار الآلي لنفس المفردات والعبارات، وإن تمت صياغتها بعناية، أصبح أقل فاعلية خاصة مع تنامي الوعي العام وعدم الثقة بالخطاب السياسي.
تشير قراءة مجريات الانتخابات وإعلان نتائجها وردود الأفعال عليها، على الرغم من تدني نسبة المشاركة فيها، إلى نجاحها الكبير كمسرحية مأساوية ـ كوميدية بعدة فصول
والدالة ثانيا: على فوز التيار الصدري على منافسيه من الأحزاب الإسلاموية المنتمية إلى ذات المذهب، ومن أهل ذات البيت. إذ دل التخطيط الأولي لمرحلة ما بعد إعلان النتائج أن التيار الصدري، برئاسة مقتدى الصدر، حل بالمركز الأول وتلاه ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
وبينما بقيت المفوضية مصممة، لفظيا، على أن الانتخابات «كانت مفخرة لنا، وسُررنا بالمؤسسات الداعمة التي أمّنتها» بات تاجيلها لإعلان النتائج النهائية واعادة الفرز جراء الطعونات المتزايدة، محط سخرية شعبية عامة، أثارت الشك بعملها وأزالت البقية الباقية من وهم مصداقية الانتخابات. حيث صارت مقاعد البرلمانيين تزداد لهذا الحزب وتنقص لذلك، كما لو كانت في مزاد علني للمقاعد. فما أن يقف ممثل حزب خاسر مهددا متوعدا بنشر «صور وفيديوهات» التزييف حتى يتم، خلال ساعات، إعلان فوزه بمقاعد إضافية. وفي خضم الشكوك والتهديدات والضغوط والابتزاز، وبكائية الخسارة، طفت على السطح مفردات وعبارات جديدة أبعد ما تكون عن عبارات المديح الأولية التي كانت تُرش على رؤوس المواطنين كما حلوى الأعراس. تراوحت المفردات والعبارات لتقييم النتائج بين «اللامنطقية» و« الحيف» و «التزوير». أما عمل المفوضية فهو «تلاعب» و«احتيال». وأعتبر المتحدث باسم كتائب حزب الله، أن «ما حصل في الانتخابات يمثل أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي في التاريخ الحديث». وصرح المتحدث بأسم تحالف فتح، بعد يومين من الانتخابات : « النتائج لن تبقى» و«أعلنا بشكل واضح اننا لن نقبل النتائج لأنه لدينا أدلة وأشرطة حول خلل في جميع المحطات» وقال مذكرا بضرورة ضمان حصته من المقاعد « نحن أمة الحشد الذي ضحى بحياته ودافع عن الديمقراطية». وكان لأقليم كردستان دوره في إغناء لغة التراشق بإتهامات التزوير. حيث صرح متحدث باسم الاتحاد الوطني الكردستاني بأن «أيادي خارجية تدخلت للتلاعب في النتائج». وأتسعت، في اليومين الأخيرين، أرضية التهديد بما لا تحمد عقباه، مستقبلا، إذا لم يحصل التوافق على المقاعد والمراكز بين الأحزاب المشاركة بالانتخابات، وهي نفسها المهيمنة على الوضع السياسي ومحاصصة الطائفية والفساد منذ غزو البلد. فحذّر مقتدى الصدر من «استفحال الإرهاب» وأن عدم القبول بالنتائج « يهدد السلم الأهلي».
تشير قراءة مجريات الانتخابات وإعلان نتائجها وردود الأفعال عليها، على الرغم من تدني نسبة المشاركة فيها، إلى نجاحها الكبير كمسرحية مأساوية – كوميدية بعدة فصول، باخراج دولي مشترك وتمثيل محلي. مسرحية تم التهيؤ لها إعدادا وتنسيقا ومحاكاة على مدى عام تقريبا، مع توفير التغطية الإعلامية المكثفة لكل خطوة. ويكمن نجاحها الحقيقي في أنها أعادت تدوير ذات الاحزاب بساستها ومليشياتها وفسادها. فمقتدى الصدر القائل في خطابه، منذ يومين «لا مكان للفساد والفاسدين بعد اليوم» تعامى عن حقيقة ان تياره كان في نفس البرلمان الذي يتهمه بالفساد الآن، كما أن تياره، كما البقية، كان فاعلا في ارتكاب المجازر الطائفية، بل وأمتاز بابداعاته الخارقة في التمثيل بالجثث واستخدام المثقاب في التعذيب. وهذه حقيقة لا يتطرق اليها فريق إعداد المسرحية و أجهزة الإعلام، كما لا تُذكر أوضاعه النفسية والعقلية المضطربة، فالكل منشغل بتقديمه كشخصية «غير موالية لإيران» مقابل « الموالين لإيران» والتخويف من إقتتال وسفك دماء بين أحزاب «البيت الشيعي». وهو ما لن يحدث. فقد حققت مسرحية الانتخابات المرجو منها، وهو تمديد عمر النظام الحالي، بأحزابه، على حساب دماء شهداء البلد، على مدى 18 عاما الأخيرة، ومن بينهم محتجو إنتفاضة تشرين، لقاء دية، وقدرها عشرة مقاعد من بين 329 مقعدا.