رواية خلف الطواحين للروائي عامر حسين
ـ مظهر كرموش
.
[حينما يدرك الانسان وحدته في هذا الكون الشاسع.ربما سيحين الوقت ،يوما ما ان ينتج الفرد الاعزل ،المنفرد والقانع بوحدته ، اقول ان ينتج قصائده ، لوحاته ، الحانه وحكاياته .آنذاك يمكن ان نحكي ببساطة عن الانسان المتسامي، وليس عن الانسان المرتبط بالشر .]
رواية [خلف الطواحين ] هي بحق أصدق تعبير عن تجربة الانصار في الجبل .انها نوع من استكشاف جزء من بقعة مجهولة
من البيئة الاجتماعية العراقية لم يتطرق اليها سوى عامر حسين . صدرت الرواية عن دار ابن رشد طبعة 2017 في 31 فصلا ،فيه يسرد الروائي بلغة ساحرة المكان والزمان والشخوص في كل فصل بحيث يشعر القارئ انه في خضم احداث تشّد القارئ كشريط سينمائي بالاسود والأبيض .ما فاجئني ان صدور الرواية جرى التعتيم عليه فلم اعثر سوى على كاتب واحد فقط ممن تناولوا تقريض الرواية والاشادة بها ، في حين تزخر الصحافة الأدبية بعشرات المقالات عن روائيين في تجاربهم الأولى. انها بحث سوسيولجي فيه يلتقي مجموعة غير متجانسة من البشر في بيئة جبلية قاسية حيث الثلج والعواصف الجبلية والبرد والزمهرير نعيشه على صفحات الرواية. ولأنني شخصيا عاصرت تلك التجربة على مدى عشر سنوات من عام 1979 ولغاية خروجنا مع الألوف من النازحين الاكراد والعرب الى تركيا في عمليات الانفال سيئة الصيت ،كلفتني تلك السنوات بتر احدى أصابع القدم اليمنى على اثر كمين نصبه الجندرمة الاتراك قرب الحدود العراقية التركية في عملية لجلب الارزاق من احدى القرى ،إضافة الى الكوابيس التي لا زالت تلاحقني رغم مرور اكثر من أربعة عقود من السنين عليها ، قررت ان اكتب عنها .
يكتب “عامر حسين” في مقدمته عن الرواية
[إن أغلب هذا النوع من الشباب المتحمس يصبح خطراً في حال إفتتانه بفكرة إنسانية. لأنه مستعد أن يفني العالم كله من أجل فكرته الإنسانية، فما بالك لو أن هذا النوع إكتشف أنه مجرد مُغفل يركض وراء سراب وأن هناك من يحيا على إندفاعه ‘ وانه رخيص وأفكاره أرخص وكلاهما قابلان للمقايضة ….إنه في تلك الحالة يتحول إما الى غول يلتهم من سخر منه واستخدمه او ان يرضى بنصيبه فيتقوقع على ذاته صامتاً مُتألما من ضياع تلك الفترة المهمة الجميلة من حياته ،في سبيل أُكذوبة صدقَها ،ثم يبصق على كل شيء حوله حتى المُثُل التي خدع نفسه بها يوماً .]
شخصيات الرواية
استخدم الكاتب التورية للاشادة الى بعض الشخصيات التي لعبت ومنها التي لا زالت تلعب دورا في حياة العراق السياسية ولكن الجميع يستطيع وبسهولة معرفة شخصية العم “جمال ” [ جلال الطالباني ] ومن هو المقصود ” محمود البرهاني ” [ مسعود البارزاني ] ومن هم ” العجائز “[ أعضاء المكتب السياسي ولجنته المركزية في الحزب الشيوعي العراقي ] ولكنه افرد فصلا كاملا للعم “كاجيل ” [ البطل خضر كاكيل ] ولا اعتقد ان احدأ يجهل هذا الاسم ممن كان في تلك المنطقة من صوران .فهو فلاح ولدّه الفقر وانشأه التعب ،بسيط كالماء ،وشجاع كالأسد .اضافة الى المعلم عمر ، وسعود ، وهوبي ، وآذار ،وآدم الذي يموت اثناء عملية الاقتحام ويضطر رفاقه الى حمله على ظهر البغل الا انهم يضطرون الى ترك جثته في ساحة المعركة، وكاكه شين وقاسم وشيرين واختها الفتاة التي قتلتها اخوها وعشيرتها لانهم جهلة ويخضعون لتقاليد العشيرة لمفهوم الشرف رغم انها بريئة، وشيرين الفتاة الرقيقة التي احبها [ رحمن ] وسامان خريج جامعة بغداد الذي اقترن بشيرين وأبو جقارة وغيرهم .
تدور احداث الرواية في بشتاشان والقرى القريبة منها وكوستا القريبة من جبل “حصاروست ” اعلى جبل في كردستان العراق .اما بطل الرواية الذي يروي الحكاية فهو ” رحمن ” الشاب الذي تعرض لاسوأ أنواع التعذيب على ايدي رجال الامن قبل ان يلتحق بالجبل .
في حبكة بارعة وحوار بين شخصيات الرواية يرسم لنا المؤلف صورة تكاد تكون حقيقية كيف كان المقاتلون يتصرفون إزاء مختلف المواقف وما يدور في دواخلهم قبل المعركة وهي لحظات قلمّا يشعر بها غيرهم واثناء المعركة وبعدها .فهم يفكرون قبل المعركة بحبيباتهم وعوائلهم التي تركوها يقول سعود “كم اشتقت الى أن أحتسي الشاي مع العائلة ” ،اما ” رحمن ” فهو يشعر انها ليلته الأخيرة فهو المغامر الذي لا يبالي ، فالربيئة [هذا المكان نموذجاً للارهاب في الجبل فمنه يُرصد المارة وينثر عليهم رذاذ الموت ومنه تنطلق القذائف وصفيرها يسبق نارها منذرة بالهلاك لمن لا يدفن وجهه بالتراب ومنه ُ تُؤمن الامدادات العسكرية وتُسند المدرعات .ان هذا المكان هو الوجه العربي القبيح الذي يرى لا الاكراد سواه ] صفحة50 .اما اثناء المعركة فهم يأملوا فلربما “وجدوا ظرفاُ مناسباً يمكنهم من احتلال الربيئة دون إراقة دماء ] .[استسلموا لا نود بكم سوءاً] ويقول ” إبراهيم ” [ لن يقتلكم أحد أبداً. أنتم إخواننا ، أحلف لكم بكل ما نقدس اننا لا نود بكم سوءاً] صفحة 56 .
ان ” رحمن ” بطل الرواية لا ينفك عن الحوار الداخلي متناولا الشرف ومفهومه والكرامة وماذا تعني ،[ ففي مجتمعاتنا شرف المرأة في بكارتها …يعني مشاعرها اذن عليها أن تستأصل تلك المشاعر التي تتصل بهذا العضو جسدها لتحافظ على شرفها من التدنيس لكني اعرف ان شرف الشعوب المتحضرة في تعاملها لا في جسدها. هكذا يقول الواقع ، اذن اية مهزلة نعيشها .نحن.ثم ان الشرف نُسب عندنا للمرأة قبل ان يُنسب الى الرجل ]صفحة 56 . يبدأ السرد الروائي بايقاع بطئ ملما بكافة التفاصيل الداخلية وخاصة المونولوج الداخلي ل [ رحمن ] وهو في لحظات الاشتباك في داخل حصن الربيئة ، حيث تبرز مهارة الكاتب في تتبع تلك اللحظات الحرجة وهو يتذكر لحظات التعذيب التي عايشها لدى الاستخبارات الأمنية مما يحوله الى نوع فقد خصائصه الإنسانية وحوله الى وحش [ حتى تعيش عليك ان تقتل ايأً كان ، ان الانسان على هذه البقعة من الأرض لا يملك إلا ان يكون شرساً ، قاتلاً لكي يحيا.. انها ثقافة الموت التي تشيعها مؤسسة الرعب والدم ، فتحول كل كائن هنا الى ضحية وجلاد ] صفحة 96 .حيث تقوم السلطة بإعدام كافة الضباط العسكريين في الربايا المجاورة في مشهد علني لإرهاب سكان المنطقة فضلا عن التمثيل بجثمان آدم وسحله بالحبال ليكون عبرة لمن يلتحق بالعصاة من سكان المنطقة .
ثم تستمر الرواية في تشريح المجتمع الكردي عند السفر الى المنتجع الطبي في الفروشكاه الواقعة داخل الأراضي الإيرانية هناك تعج بكافة أصناف البشر من بينهم تجار الأفكار [ اما تجار الأفكار فهم ألعن الجميع . أوهموا العالم بان لهم قضية وجندوا في خدمتها أصحاب القضية أنفسهم وأغلبهم من المراهقين المندفعين الذين هم أشبه برقيق يطمح الى الحرية، فسقطوا في شِباك عناكب السياسة ، هؤلاء الذين امتصوا آخر قطرة في دمهم ، دون ان يطيلوا شيئاً مما يطمحون اليه ] صفحة
ثم يمضي الكاتب في مناقشة فكرة الخير والشر والضمير عند الانسان فهو يستشهد بفكرة دوستويفسكي عن الله والضمير ويستشهد بعبارة ايفان كارامازوف “لا وجود للفضيلة ما دام لا وجود للخلود ”
وكان الاجدر اقتباس جملة دوستويفسكي في روايته [ الاخوة كارامازوف ] ” اذا كان الله غير موجوداً ، فكل شيء مباح ” “لان نار جهنم ومعها نار الأرض كلها لا تستطيع ان تردع فرداً واحداً من اقتراف دناءاته اذا كان لا يملك ضميراً.ان شعر هذا البلد اللعين سيجعلني اشعر بالخجل من نفسي ، ان ارحل عنه الى الابد ، انه بلد متخلف .عجلة الزمن في تدور الى الوراء .كل شعوب العالم حيث تتطور وهذا الشعب سعيد بجهله ، متفاخر به .ان قذارة جهلهم تلطخهم جميعاً ولن يسلم منها مثقفو صفوة المجتمع ومفكريه.”
في الفصل الثالث عشر من الرواية تحكي الرواية عن عقلية [ أبو شامل ] من مجموعة العجائز “صحيح ان الناس يقولون ان تخبط العجائز وعدم قدرتهم على استيعاب الاحداث منذ امتهانهم السياسة حتى الان كان سبب البلاء الذي أحاق بالبلاد على مدى عقود” صفحة 205
سامان و شيرين
هذا اللقاء بين رحمن وسامان هو في رأيي المتواضع هو الأجمل في الرواية .حيث يدور الحوار بين الانسان المؤدلج وبين الانسان السوي .فالرواية تكشف لنا ان والد سامان يسلمه الى مستشفى المجانين لان ابنه تحدث بسوء عن السلطة علناُ وهو في المقهى .والأب يدعي ان ابنه مصاب بلوثة عقلية ولكي يثبت ذلك للسلطة يقوم بتسليمه بنفسه الى مستشفى للمجانين في بغداد “ان هذا البلد خير مثال على تزاوج الماسوشية بالسادية، احدهم يتلذذ بالعذاب والأخر يتلذذ به “صفحة 264
.وينجح سامان بالهروب من المستشفى ليصل الى الجبل ويبرهن انه إنسان يعي تصرفاته . ويعقد قرانه على شيرين ، حلم بطل الرواية[ رحمن]
يقول سامان وهو يحاور رحمن
” المدن لا تختلف عن القرى المنعزلة سوى في المباني والاعمار ، اما عقول الناس فلا تختلف بشئ عن عقول الناس هنا “
يمضي [ سامان ] في نقاشه مع رحمن فيقول ” انني غير مقتنع بما تقومون به ، فلا طائل مما تفعلون مع تقديري له .يجيب
[ رحمن ]
ـ اننا نعيش في عالم اسود من خلال من خلال نقاط بيضاء نصنعها من اجل الأجيال .”
هنا يشرح سامان كيف يتم غسل دماغ الانسان ، فتفكير هؤلاء القوم متشابه كل التشابه كيف ” لمثل هذا الاب ان يتبرأمن مسؤوليته فيعمل لصالح الناس واولاد الناس وهو أصلاً ترك أولاده للعذاب والتشرد؟ أتريدني أن اصدّق ان مثل هذا الأب به خير على الناس بعد ان آذى بيته وأولاده ؟ويحكي سامان عن معاناته داخل السجن في بغداد عن الشيوعيين الذين رفضوا التوقيع على صك البراءة من الحزب الشيوعي .ويروي عن زوج شاب وزوجته وطفلهما الرضيع رفضا التوقيع على ورقة البراءة
“لقد امسك جلادان بساقي الطفل وقسماه الى نصفين ” الصفحة صفحة 318
” النضال هو كيف نحمي أولادنا لا كيف نضحي بهم . أنا على يقين ان هناك كثيراً من هؤلاء يتفاخرون كيف ضحّوا باولادهم من اجل….. تفو على هكذا نضال وهكذا وطن ” صفحة319
“انا اريد ان أحاكم الضحية قبل الجلاد ، أحاكم الثائر قبل السلطة. ان هذا البلد مصنع يحول الانسان الى قاتل او مقتول ” صفحة 322
“فما ينتظرنا أسوأ وسيأتي اليوم الذي نتمنى فيه هذه الحياة رغم بؤسها ، هذا ليس تشاؤما ، انما ملامح حياتنا تفصح مستقبلنا
ـ لأننا أناس فاشلون ونعيش على ارض تعوم فوق بحر من البترول الذي يحتاجه العالم .
أضاف سامان “هذا يعني اننا سنبقى نتحارب الى أبد الدهر وسنموت بمختلف الطرق ، جسديا وفكريا وسيبقى هؤلاء الذين تتبعونهم يجتمعون ويتحاورون ويتعانقون ويتصالحون بعد ان مات من اتباعهم عشرات الألوف ثم يعودون انفسهم ، بعد حين يتنازعون من جديد ويتصالحون من جديد أيضا .فما انتم إلا بيادق على رقعة شطرنج يتسلى بها اللاعبون المتنفذون الذين يسمح بوجودهم الحكام الفعليين .. وهؤلاء الحكام هم أيضاً تابعون لمن هم اكثر قوة ونفوذاً منهم وفي نهاية اللعبة سيقرر أصحاب المصالح الكبرى مَن سيفوز من اللاعبين .ذلك ان الفائز هو من يضمن مصالح الكبار وفقاً للخطط المرسومة .”صفحة 351
“ـ وماذا عن ثورة الشعوب ؟”
“ـ يا عزيزي زمن الثورات الشعبية التي كانت تهّز العروش قد انتهى … ضغطة زر واحدة يستطيعون القضاء على الملايين… سيبقى وضع الشعب على ما هو عليه.هذه حقيقة ضعّها نصب عينيك ويجب ان لا تغيب عن بالك لتتيقن اذا ما تقوم به الان يجدي نفعا ام لا” صفحة .”ان هذا الصراع طبيعي منذ نشأة الكائنات حتى الآن .فاعلم اذن ان لا مستقبل لمن تخلف في التطور.”صفحة 352
العجائز
مصطلح [ العجائز] كوصف يليق بهم لانهم عاجزون فعلا عن فعل شيء امام الاحداث . لقد شاءت الظروف ان تضعهم في هذا المركز وصفق لهم الشعب كله وساروا خلفهم .
بعد حدوث المجزرة في بشتاشان الأولى والثانية ، اسقط بيد العجائز وانتشرت البلبلة بين صفوف المقاتلين ، يقول [رحمن]
“اما العجائز ففاشلون ولا بد ان يُستبدلوا بمن هم أنفع .لاننا نذهب ضحايا عجزهم .انظر الى ما آل اليه حالنا .أيعقل ان نموت هكذا بلا فائدة .وبطريقة رخيصة جداً….. انهم يعتبروننا حاشية لهم .رجالهم .يريدوننا ان نمتثل لهم ونطيعهم كما يمتثل أبناء العشيرة لرئيسها .انظر الى ذلك العجوز الذي أسره العم [ جمال ].لقد أخذه بالاحضان واهداه مسدساً وعقد معه اتفاقاً، في اللحظة التي قتل منّا سبعين فرداً في يوم واحد وجلّهم عزّل لا يجيدون القتال .ناهيك عن تعذيب اسرانا واهانتهم ” صفحة 455
“لقد سمعت ان احد العجائز هدد بإعدام بعضاً من المتذمرين المتسببين الذين يثيرون البلبلة .الفصل الصفحة456
“صارالعجائز او قاربوا ان يصيروا في فترة من الخمسينيات عمّاً لهذا الشعب .على ما ذا اذن يقودنا العجائز ان لم يوصلونا الى السلطة ؟
يبدو انهم مخصيين حقاً .صفحة 456
يا للهول يعني ما نحن الا بيادق نحلم ونعاني ونموت بلا طائل ، نخدع أنفسنا فقط .456
صار قاتلا ومقتولاً في آن واحد انه ضحية للسلطة والعجائز في آن واحد .
“شيئا ما تعطّل فيّ لا أعرف ما كنهه .هناك صوت في راسي يكاد يدمرني .صوت لا ينقطع مثل المراجل ومثل الشلالات الهادرة على الصخور .صوت هو انفجارات مستمرة لا تكف عن الفرقعة لحظة واحدة وعليّ ان أعيش وأتأقلم مع هذا الصخب حتى وأنا نائم فيه ، أي عذاب انا فيه الان . صفحة 465″.
انتحر [ رحمن وقد كتب يقول ” لقد مات الانسان فيّ فعلى الوحش أن يموت “