ثمانون عاماً على رحيل مي زيادة: رسالة حبّ مزقها جبران.
إنها ميّ عازفة البيانو المُولعةُ بابن الفارض وحافظةُ أشعار لامارتين ودي موسيه، التي أتقنت لغات عديدة وتأثرت بأناقة الرومانسية الفرنسية أدباً وروحاً، الأديبةُ الروائية والشاعرة، الثائرة لأجل القضية النسوية الشرقية، وحيدة أهلها، كوزموبوليتية النسب والعائلة لأُمٍّ سورية وأبٍ لبناني، ووطنها فلسطين حيثُ وُلِدتْ. في 19 تشرين الأول/أكتوبر الجاري تمضي ثمانون عاماً على رحيل ماري إلياس زيادة (1886 – 1941 ) أو مي زيادة كما سمت هي نفسها.
هي امرأةً مشحونةً بالجمال والطموح، على حساب حياتها الخاصة إلى حدود مدهشة، وبهموم الإبداع في مواقفها الأدبية التي أدخلت عشرات الباحثين في فانتازيا التفسير وجماليات التأويل لتلك المواقف.
كتبت في الصحف المصرية حيث كانت تذيل كتاباتها بأسماء مستعارة: خالد رأفت، إيزيس كوبيا، عائدة، كنار، السندبادة البحرية الأولى وغيرها، وهي خاصية دالة جداً على روحية انفتاحها الأدبي على الخاصة والعامة من قرّاء ومثقفين بسرورٍ مطلق ونفسٍ رضية. غير أن ذروة ممكنات ميّ البيانية بدَتْ في فنّ التّراسل الذي أُولعت به، فسخّرته من أجل بث مبادئها في مئات الرسائل التي تبادلتها مع الكثيرين من أصدقائها ومعارفها بشتى الموضوعات، من أدباء وكتّاب كبار ومنهم، صديقها العزيز يعقوب صروف الذي كانت تخاطبه: يا ذا التاج والصولجان» وعباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد وأمين الريحاني وغيرهم، خلال حياتها القصيرة، وهي موثّقة جميعها في أكثر من كتاب صدر للجمهور، وأهمها بالطبع مع جبران خليل جبران. كانت أولى رسائلها لجبران في 12 أيار/مايو 1912 حيث تناولت فيها أسلوب جبران الفني في «الأجنحة المتكسرة» وعبّرت عن احترامها له، وغاصت في نقد مشكلات الحب والزواج التي سردتها تلك الرواية، وأبدَتْ خالصَ الاحترام والتقدير لجبران، كمثالٍ راقٍ ومميّز في دنيا الأدب. توالت الرسائل بعد ذلك في الصداقة والألم والسعادة والنجاح والاجتهاد والحب، ففي 6 كانون الأول/ديسمبر 1920 كتبت رسالة إلى جبران تحدثه فيها عن رغبتها بمراسلته دائماً، وترددها قبل الكتابة له مجدداً، مُبديةً خجلاً وأنوثة كبيرَين، ككل امرأةٍ شرقية، مع العلم أنها لم تكن قد صارحته بعد لا حبّاً ولا إعجاباً، فكانت هذه الرسالة تفسيراً من ميّ بأنها صديقة فقط لجبران، وليس أي شيء آخر، وتوضيحاً له بأنها وحيدة أبويها ولا يمكن الابتعاد عنهما أبداً لأيّ سبب. كانت الرسالة قلقة، لا اطمئنان فيها بين السطور من قبل ميّ.
ظلّتْ قضايا الرسائل بين ميّ وجبران حتى عام 1924 أي بعد حوالي اثني عشر عاماً على أول رسالة (1912) تستَكْتِبُ في طياتها حواراتٍ عامّة وآراء منوعة في العلاقات الإنسانية والأدب بأشكاله وفنونه، فضلاً عن مواقفها من بعض مؤلفات جبران، التي حملت احتراماً وتقديراً منها لشخصه كأستاذ وصديق عظيم. لكنّ ميّ اعترفت أخيراً، وبروح المتهم، في رسالتها الممهورة بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني 1924 بحبها لجبران في جملتها الشهيرة: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، لكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب». كانت مؤرَّقَةَ الكلمات، بين الارتباك والحيرة، بل الخوف، تخاطب جبران على استحياء، وترى في ذلك أمراً صعباً وموسوساً في صدرها بما هو تقليب لأحاسيسها على وجوهٍ جديدة من الحب الذي لم تعرفه من قبل: «الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنتَ حاضراً بالجسد لهربتُ خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى»! كانت تؤمن زيادة بشخصية جبران ولو عن بُعد، وتنتظر منه دائما كلاما جميلا مفرحا أقلّهُ للحافظ على التواصل بينهما. في رسالتها له في 11 آذار/مارس 1925 تلومه ميّ على عدم تسلمها أي رسالة منه لشهور عديدة، لكنها تعذُرُهُ إذا كان مشغولاً بأمر ما وتتمنى له التوفيق. كانت زيادة تجد في التراسل مع جبران حاجةً روحية، إذ تبثُّ فيها أيّ شيء تراه حاملا للاهتمام المشترك مع جبران، ومهما كان عادياً كأَنْ تكتبَ له: «لقد قصصت شعري» في 9 يناير 1925.
فشلت زيادة مع جبران، لكنها دون شك نجحت في تكوين صورة مكتملة عن قصة حب عاصفة اتخذت أهميتها وحيزها الكبير في تاريخ الأدب العربي الحديث بلا لقاء ولا صوت ولا صورة، وإنما على ورقة وقلم.
استمرت تلك الرسائل تباعاً حتى وفاة جبران عام 1931. تدللّ جبران بصيغة دونجوانية على ميّ زيادة حتى أقصى ما أتاحَ له رَغَدُ الدلال، وبذكوريةٍ شرقية لم تُبدلها مفاعيل تمدُّنه المُفترض والطويل على أرض الغرب الأمريكي، مسروراً جداً بحبيبته الجديدة، تماماً كما يُسرُّ كل رجلٍ عندما تحبه امرأة عادية، فكيف إذا كانت مي زيادة، بما هي امرأة جميلة، ومنارة أدبية بامتياز. بهذا الاتجاه يكتب إلى ميّ: «مي، لماذا تخافين الحب يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟» ويهدهد أنوثتها البريئة بكلمة «صغيرتي» وهو الذي كان مجايلاً لِمَيّ في السّن (1883) والثقافة والتّعقل، ربما لم يكن ناضجاً كفاية في مخاطبته لها، إذا ما قسناه تحديداً بنصوصه النثرية أو الشعرية الشهيرة، التي قاربت الفلسفة من لدن شخصية جدية مثله، وُصِفَتْ دائماً بالإلهام والعمق. عشرات الرسائل ولم يعترف جبران صراحة بحبه لميّ، بل عدّها صديقة جيدة له تمده بعلاقة ذهنية خيالية تؤمّن له اكتفاء خاصاً وذاتياً، مع البعد الشاسع بينهما، لاسيّما وأنّ جدول ارتباطاته مع أُخَر قد امتلأ. التقى جبران بأكثر من امرأة ممّن وقَعْنَ في قلبه فأحبهن، وهنّ كثيرات بين لبنان وأمريكا عُرِفَت منهن: سلطانة تابت في بيروت، التي كتبت له سبع عشرة رسالة، وكانت أكبر منه سناّ، وإنْ لم تصارحه بحبها. ماري خوري وهي لبنانية متزوجة في نيويورك، أحبها أيضاً جبران حتى العظم، وكانت تساعده في معارضِهِ هناك، وقد راسلها بمئات رسائل الحب والاشتياق. أما أميلي ميشال المعروفة بميشلين الفتاة الفرنسية في مدرسة «ماري هاسكل» فلم تكن أقل حظاً في الحب والتعشق من مثيلاتها وقد أحبته أيضاً. واللبنانية هيلانة غسطين التي رافقها مدة من الزمن في نيويورك في مناسبات عديدة، وتبادلا رسائل عاطفية كثيرة في فترة الحرب العالمية الأولى. ثم ماري هاسكل الأمريكية الشهيرة في حياة جبران للقاصي والداني وصاحبة مدرسة «هاسكل للبنات» في بوسطن، فقد حضنته وحنت عليه وظلت بجانبه طيلة حياته مادياً ومعنوياً، وقال في حبها ما لم يقله مالك في الخمرة، حتى أُحصِيَ لها وحدها منه 325 رسالة بين 1908 و1931! توجّتها جملته المعروفة لها في إحداها عام 1926: «سأحبك حتى الأبدية».
تراسل جبران إذن مع أغلب عشيقاته من النساء معظمهن متزوجات أو أكبر منه سنّاً، وبمئات الرسائل المُغمّسةِ بالحب والأمنيات والأحلام، وبشاعرية فذّة واستثنائية، لكن الغريب العجيب أنّ مراسلاته تلك بمعظمها تزامنتْ توّاً في التاريخ مع رسائله إلى ميّ زيادة، التي لم تكن مشاعرها كافية لتكون حبيبته الحقيقية، ما يضعه – وبشكلٍ بدَهي – في معضلة أخلاقية أمام امرأة مسكينة لم تكن بالطبع على علمٍ بكل علاقاته الأخرى، قياساً بالمسافات البعيدة جداً بينهما، وانعدام التقنيات الحديثة في التواصل، التي قد تكشف لميّ في حينها وقائع كل تلك الغراميات الجبرانية، لو توافرت. على الرغم من كل ذلك كان جبران الرجل، العضوي، المادي جسداً وحضوراً، بعيداً جداً ما وراء البحار، لكنه كان أيضاً مريحاً جداً لميّ، يُحررها كامرأة أحلام من معاناة الطاعة لحبيبها العتيد، وأحوال الهوى واللقاءات والمداراة والحرص والمعاناة، من تقديم أقصى ما يجب تقديمه من حبيبة كَميّ لحبيبٍ كجبران.
فشلت زيادة مع جبران، لكنها دون شك نجحت في تكوين صورة مكتملة عن قصة حب عاصفة اتخذت أهميتها وحيزها الكبير في تاريخ الأدب العربي الحديث بلا لقاء ولا صوت ولا صورة، وإنما على ورقة وقلم. بهذا المعنى كان جبران بالتأكيد متنفساً عَطِراً نقيّاً لخواطر ومشاعر ميّ بأبعاد فلسفية وغنائية فياضة بالرؤى الشاعرية، إذ تجدُ فيها فضاءً مفتوحاً لبثّ آرائها، وتوكيد ذاتها المثقفة المنفردة، التي تنحاز دائماً إلى منطق الاعترافات في مخاطبته، حتى أخبرته أنها المرأة التي «تحتمي في الوحشة في اسم واحد: جبران». إنها ميّ التي لم تعرف حباً منيعاً ينتصر لها، بل كان تخليصاً للنفس المأزومة، مؤقتاً في فترات متفاوتة، لا ديمومة فيه ولا اطمئنان، حتى وجدته في تلك الرسائل الوجدانية التي تركت وراء كلٍّ واحدةٍ منها شيئاً جميلاً نعتنقه دهشةً وإعجاباً، والتي أرادتها مي زيادة جندياً مجهولاً تُقَدَّمُ له الأكاليل في كلّ مناسبة، ونصباً تذكارياً يُخلّد امرأة شكل موتها هروباً أبدياً يستحق الذّكر والذكرى لعاشقةٍ ما التقت حبيبها يوماً، بعد ما عزّ اللقاء، ليبقى السؤال الثائرُ دائماً: لماذا خذلَ جبران ميّ ؟