بين العقل وفقه الواقع
مهدي السعيد*
هذا عنوان كتاب مثير للمثقف البارز د. عبد الحسين شعبان، وأهميته تكمن أيضاً من إسم كاتبه، إضافةً إلآ موضوعه الذي حاور فيه وهو مفكّر علماني فقيهاً إسلامياً،وفي الكتاب الكثير من جوانب الإتفاق وفيه نقاط إختلاف عديدة تدفع القاريء للتفكير والبحث عن الحقيقة. إنّه إنجاز جديد يضاف إلى سجلّ الفكر والثقافة الذي إمتاز به شعبان على مدى خمسة عقود، لمع ككاتب متميّز ومجتهد وباحث عن الحقيقة، خاصة في مواضيع شائكة وحسّاسة بعضها بعيد عن التناول أومسكوتٌ عنها وبعضها الآخر يتحاشى كثيرون تسليط الضوء عليها، لكنه بجرأته المعهودة لامسها بقوة عبر تساؤلات وأسئلة بشأن مستقبلها، خصوصاً ما له علاقة بالقضايا الدينية العويصة.
وإذا ما أراد الباحث أن يكون بحثه متكاملاً وموسوعيّاً فعليه أن يجد من يواجهه من أصحاب الشأن أو الظاهرة المطلوب تشريحها، لكي يكون النقاش والجدل أكثر حيوية ومصداقية وهو ما يحتاجه الناس لكي يعرفوا الحقيقة.
في تاريخ الفلاسفة الكبار في نهاية العصر الوسيط، إندلعت تجربة اجتاحت أوروبا في وقتها، وهي تجربة النقاش الجدلي بين أصحاب المعتقدات الفلسفية، وهذا الجدل كان يتم إما بواسطة الدراسات المكتوبة أو من خلال الإخباريات القصيرة والطويلة أو عبر المواجهات المباشرة، فالماديون ربما سمحت لهم الكثير من الفرص لمناقشة المثاليين وأصحاب المدارس الفكرية الليبرالية، كانوا يطرحون آراءهم أمام الرأي العام أو في المجالس الثقافية أو الإجتماعات الشعبية.
ولم يترك أصحاب المدارس الفلسفية المختلفة أي جانب، حتى وإن كان ضئيلاً دون مناقشة أو جدل وسجال يتحوّل في أحيان كثيرة إلى صراع حامي الوطيس بين المفكرين، من أصحاب الإجتهادات المختلفة ومن خلال تلاقح الفلسفات المادية والمثالية والليبرالية والفوضوية ، ظهرت دراسات ومعطيات ومعلومات جديدة وعميقة التأثير في حياة المجتمعات وتطورها.
اليوم أجد الدكتور عبد الحسين شعبان الكاتب والباحث المعروف، استطاع من خلال توجهاته الفكرية التنويرية أن يعيد هذه التجربة إلى الوجود. فمن خلال متابعتي لكتاباته وعلى مدى سنوات طويلة، أحسست أنه من النوع غير المبالي بتأثير الإيديولوجيات على حجم الواقع الفكري عموماً، فلو عادت المسلمات الفقهية لبعض الرموز الدينية في تاريخنا العربي الإسلامي، فكان من المستحيل مناقشة قضايا هامة وحساسة تتعلّق بالمفاهيم الدينية العقائدية في ظرف يطالب فيه البعض من المتدينين من الباحث أن يعصب عينه عن قراءة وتحليل الكثير من العقد الإجتماعية.
لكن المفكّر شعبان بجرأةٍ نادرة اخترق جدران مدينته الموصدة منذ زمن بعيد محاوراً رموز الفكر الديني في قلب مدينة العلم والمعرفة (النجف الأشرف) من خلال سجالات مع خيرة علمائها من المتنورين الذين رفعوا شعار التجديد حتى في المفاهيم الإجتماعية الدينية المتأصلة، لأن الأخطاء كما النجاحات القديمة والحديثة، إما أن تكون جديدة على الواقع الإجتماعي أو متأصلة فيه.
لذلك ذهب الدكتور شعبان إلى واحد من أكثر العلماء وضوحاً ومعرفة بأمور الدين والدنيا وفتح معه حواراً معرفياً حادّاً، وقام بتأطيره وتسجيله ضمن منهجه النقدي في دراسة شيّقة ومهمّة وضعها في إطار كتاب موسوعي لا تقتصر فائدته على القارئ الفرد وإنما لابدّ أن تستفيد منها معاهد البحوث العربية والعالمية وجامعات الدول المختلفة والمكتبات العربية المنتشرة في بلدان العالم العربي.
كل هذه المؤسسات الفكرية والثقافية هي في أمسّ الحاجة إلى معرفة الرأي والرأي الآخر، ومعرفة مستوى تفكير رجال الدين وعلمائه وعلاقة ذلك بالعلمانية ومفاهيمها المدنية غير المعادية للدين.
وبهذه الدراسة يكون الدكتور شعبان قد ضرب عصفورين في حجر واحد، فهو قد سجّل لنفسه ريادة فكرية واضحة المعالم في مناقشته أمور دينية كثيرة من وجهة نظر ناقد ماركسي لأحوال مجتمعه، ومن ناحية ثانية عرض على الرأي العام المحلّي والخارجي فكراً جديداً متألّقاً من قلب مدينة النجف التي تعتبر العاصمة الدينية في العراق، والممثلة بعرض أفكار السيّد أحمد الحسني البغدادي.
فهذا الرجل “البغدادي” أصبح واحداً من أشهر علماء الدين في العراق ويحظى بإحترام وتقدير المراجع الدينية المختلفة لا في النجف الأشرف فقط وإنما في عموم العراق ومنطقة الشرق الأوسط، لمواقفه الفكرية الثاقبة ولوطنيته العالية ولحبّه لبلده العراق ولشعبه العراقي ولمواقفه المعروفة للجميع، إختلفنا أو إتفقنا معه، إلّا أن صدقيته هي الأساس.
مساهمة مهمة
لقد جاء كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان والموسوم ” دين العقل وفقه الواقع” مساهمة هامّة وفعّالة لدعم المناظرة الواقعية مابين الكاتب والسيّد، العلماني والفقيه، فقد تناول الكتاب مواضيع كثيرة من الصعوبة بمكان تناولها جميعاً في عرض سريع ومحدّد.
فكل موضوع من هذه المواضيع تحته طائفة من القضايا والمفاهيم تحتاج إلى كتابٍ كامل، فالنقاش جدّي وحيوي ويتناول قضايا في غاية الحساسية. فقد ناقش الكتاب مسألة الوعي بالتاريخ والإجتهاد بالإسلام و الإسلام والحداثة.
وبإعتقادي، فإن واحدة من أهم القضايا التي ناقشها الدكتور شعبان مع المفكّر الإسلامي السيّد أحمد حسني البغدادي هي مسألة الإصلاح والتجديد، من أين يبدأ هذا الإصلاح،ودخل معه في نقاش مفتوح حول قضية الإيمان واللّاإيمان، وانتقل إلى ثاني أهم قضية في الكتاب هي مسألة الدين والإرهاب والدين والعنف والدين بين المُقدّس والمُدنّس ومسائل التقليد والعصمة والمعصوم وعلم الغيب ودور الفتوى وموضوع المرأة. ولأول مرّة في الواقع الثقافي العراقي، وربما الإسلامي عموماً يطرح موضوع ” النقد والنقد الذاتي لرجال الدين” . وهي مواضيع حساسة هناك من يتجنب حتى الإقتراب منها.
هذه جميعها مؤشرات تنويرية هائلة ربما لم نسمع بها منذ عقود طويلة تكاد تصل إلى أكثر من مئة عام. إنها تطرح لأول مرّة وبلغة بسيطة وواضحة وعلى لسان أحد رموز الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وأحد المثقفين الذين عاشوا بيئتها وتربوا في كنفها.
وبعبارة مختصرة إن قراءة هذا الكتاب القيّم، ربما تجعل القارئ مطلعاً وبشكل ملحوظ على الإختلافات الفكرية حتى بين علماء الدين، لأن مثل هذا الإختلاف يسهّل وبشكل جدّي على القارئ أن يميّز بين الآراء العتيقة والآراء الجديدة والحديثة التي تجاوزت الماضي.
ولكل واحد من هذه الآراء حصّتها من التراث المعرفي، ولكن الشيء المهم أن بإستطاعة الإنسان المطّلع أن يختار واحداً من التيارات العلمية المتقدمة وأن يفرز جوانب الإفتراق فيما بينها.
أدعو الجميع إلى قراءة هذا الكتاب المتميّز بعنايةٍ فائقة.
* ك