الأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان: السلطة ذكورية ولا كتابة حقيقية دون جرأة
في أعمال الناقد والمفكر العراقي عبد الحسين شعبان تتداخل الأصوات والصور في هارموني يتوحد ويتعدد في آن. فما العلاقة بين الكاتب وما يكتب؟ أي بين الكاتب ونصه، فهل النص هو وجه آخر من وجوه الكاتب؟ أم أن النص سيرة كتابية للكاتب، خصوصاً في سردياته؟ وكمحاولة للإجابة على هذه الأسئلة يدور الحوار..
□ ماذا تعني لك الكتابة؟
■ الكتابة ينبوع حياتي ولا أريد لهذا الينبوع أن يجف أو يردم، ودائماً أحاول أن أملأه بالقراءة والتأمل والمراجعة.
□كيف تؤلف بين الكتابة والمنفى؟
■ إنهما رديفان لا يفترقان، فالمنفى هو الوطن الشاسع وفيه الأفق بلا حدود، ومع هذا الأفق أتماهى بالكتابة والحرية اللتين هما تعبير عن إحساسي بالوجود، مع ملاحظة أن كل عمل أنجزه يشعرني بالمزيد من القلق والمسؤولية، والمراجعة التساؤلية العقلانية النقدية، بتخليص أدواتي من التبشيرية الإيمانية المطلقة.
□أثمة صدمات واجهتك؟
■ نعم وكل صدمة أو نهاية مهما كانت مأساوية، فهي مفتوحة عندي على الحلم، الذي ينبغي له أن لا يتوقف أو يتبخر، فالأحلام لديّ متوالدة.
□وهل تنشغل بالحقيقة أم بالحدث؟
■ يعنيني الحدث مثلما تعنيني الحقيقة. والأخيرة ليست مشاطرة أو مغالبة، وإنما هي شكل أعلى للمعاناة الإنسانية.
□ أين إذن أنت من التفاصيل؟
ـ بقدر ما تكون التفاصيل مهمة وينبغي عدم الاستهانة بها أو إهمالها، إلا أنها ينبغي أن لا تؤثر في رؤيتي للمشهد العام، وهذا الأخير ليس بوسعه تجاوز التفاصيل، ففيها يكمن الشيطان أحياناً.
*أضرورة من جرأة للكتابة؟
■ لا كتابة دون جرأة، ولا جرأة دون نقد، وأي كتابة دون خلخلة ما هو سائد ليست بكتابة.
□ كيف تصنف نفسك.. مفكراً، أكاديمياً، ناشطاً سياسياً، مناضلاً؟
■ لا أحكم على نفسي، والحكم للقراء أساساً، وكل هذه الصفات متعلقة بالكتابة، ولذلك كم كنا نتمنى وجود نقاد بمستوى المسؤولية حسب الجواهري الكبير، لكانوا أغنونا هذا العناء. ولعل ميزة الكاتب الجيد أن كتبه تثير نقاشاً وجدلاً، وذلك في إطار نظرة موضوعية ليس هدفها تجاوز المألوف بقصدية وإغراض وإثارةٍ، وإنما الهدف هو طرح أسئلةٍ لنقدِ ما هو سائد باتجاه التنوير والتغيير واستشراف المستقبل.
□ تميل إلى التنظير؟
■ نعم وبين السرد والتنظير ثلاثية لا انفصام بينهما وهي: الكاتب والنص والقارئ.
□ لكنك تكتب سرديات تبدو كمشاريع روائية، لا تخلو من حبكة درامية.. هل تنوي كتابة رواية؟
■ سردياتي فيها شحنات شعورية وصراعات بين الجسد والروح والعقل، وبالطبع فالقلب حاضر دائماً. وسردياتي روايات لم تكتمل، وتظل تشغلني باستمرار وأتلقى سيلاً من الرسائل والمناشدات أحياناً لاستكمالها، أو لإعطاء تفسير لبعضها. وأنا شخصياً أترك القارئ يقرأ السردية على طريقته، ووفقاً لتقديراته وتفسيراته وتأويلاته، فربما الكاتب آخر من يعلم بنتيجة ما يكتب أحياناً.
□ ولمن تتوجه بكتاباتك؟
■ أربعة أنواع من الكتابة أزاوج بينها وأتنقل من واحدة إلى أخرى، وأحياناً أجمعها: وهي الكتابة الأكاديمية والجامعية (الأبحاث والدراسات والمؤلفات النظرية) والمقالة البحثية التي تجمع الصحافة بالبحث العلمي (معلومات، أرقام ودقة في الاقتباس) والكتابة الثقافية، وهي خلاصات نقدية وقراءات لأعمال ونتاجات وتقييمات لشعراء وروائيين وأدباء ومفكرين وباحثين، والكتابة السردية التي هي تجارب حياتية جامعة ومراجعات نقدية.
□ إذن أنت لا تميل إلى التخصص؟
■ التخصص ضروري، لكن ينبغي عدم الانغلاق عليه، ولا بد للمتخصص في حقل ما أن يكون ملماً بحقول أخرى يلاقح فيها اختصاصاته الأولى، فما بالك حين تصبح أحياناً متداخلة ومتعاشقة، فالقانون يحيلك إلى السياسة وهذه تأخذك إلى الاقتصاد، والاجتماع يدفعك إلى التاريخ، وكل شيء يجذبك إلى الفلسفة، مثلما يحتاج الأمر إلى قراءة الإبداع والنتاج الثقافي. وكل ذلك يمثل رافداً من روافد المثقف، وكلما اتسعت ثقافته ازداد موسوعية، وصقلت لغته وتمكن من أدواته، وحسب النفري «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».
□ في كتابك الجديد «دين العقل وفقه الواقع» أجريت مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي بشأن الإيمان، فمن هو المؤمن ومن هو غير المؤمن؟
■ الإيمان بالعقل ودون العقل يتحول الإيمان إلى صنمية وتقليد أعمى. أما الإيمان دون الضمير فيقود إلى تسلطية واستبداد وعنف وإرهاب، وكلاهما يقومان على التعصب ووليده التطرف، فإيمان العارف هو ليس مثل إيمان غير العارف فـ»هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ» (سورة الزمر). وحسب ابن عربي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
□ هل قلقك بشأن الإيمان معرفي أم شخصي؟
■ ينبغي عدم الانشغال بالإيمان واللاإيمان بما يصرفنا عن المهمات التي تواجهنا وهي تحقيق العدل والمساواة بين البشر وتمكينهم من مواجهة تحديات الطبيعة واستغلال الإنسان للإنسان، لصالح رفاههم وسعادتهم، وهي تخص المؤمن وغير المؤمن، فالكون يقوم على قوانين تم خلقها، وعلينا البحث عن تلك القوانين والأمر يتعلق بالوعي والمشترك الإنساني اقتفاءً بأثر ديكارت. الدين منجزٌ بشريٌ كبير وهو محاولة لطمأنة الإنسان بتفسير القوانين الكونية في إطار حدود العقل البشري، وهذا الأخير في تطور دائم ومستمر. وقبل الدين كانت الأساطير. وإذا كان ثمة نقد لبعض سلوكيات من نطلق عليهم «رجال الدين» فإن هذا النقد ينبغي أن لا يوجه إلى القيم الدينية والمُثل الإنسانية، وهم مثلهم مثل زعماء الأيديولوجيات الشمولية، يتصرفون بأتباعهم بما يشوه الجوهر الإنساني، سواءً كان الأمر باسم الجهل أو باسم التقدم، فكلاهما يحجبان حق التفكير والتعبير ويصادران العقل.
□ لماذا تفكك اليسار العربي إلى درجة التلاشي أحياناً؟
■ ثمة أسباب داخلية وأخرى خارجية لأزمة اليسار العربي، بل اليسار العالمي، وهي أزمةٌ مركبة وعضوية، فكرية بالدرجة الأساسية، ناهيك من تطبيقات وممارساتٍ مشوهة وقاصرة وبعضها لا إنساني. لعل حواري مع نفسي وفي خلواتي مثلما هو حواري مع التاريخ ومراجعةٌ لمنولوج داخلي نقدي، ووقفة تأملية لفحص الأخطاء الكبرى والصغرى في إطار الأزمة التي مرت علينا وعشنا بعضاً منها، وكان قلقي يكبر إلى درجة أنني قلت في إحدى مطارحاتي، كثيراً ما أجد نفسي خارج المؤسسة أو أغني بإيقاع مختلف عنها، حتى لو كنت في داخلها، لكنني لا أريد أحياناً أن أحسب نفسي عليها، لشعوري أنها تُفقد الإنسان خصوصيته الفكرية، وتحدد حريته في النقد، حتى لكأن المرء يشعر بأنه داخل سور أو كيان مغلق على نحوٍ محكم ويسود فيه جوٌ من النفاق العالي والقدر الكبير من التزلف.
□ هل يمكن أن تفسر أكثر؟
■ القصور والكسل الفكري قاد إلى تعويلية للمركز الأممي، ناهيك من محاولة اقتباس أو تقليد أعمى لتجارب تخص مجتمعات أخرى، وهو ما قاد إلى انفصام عن الواقع. فمن في داخل السور يصف من هم في خارجه بأنهم أشرارٌ أو فاسدون أو مخطئون على أقل تقدير. وهذه النظرة تمثل التوجهات الشمولية الماركسية أو القومية أو الدينية، وهناك جوانب مهمة لم تعالجها الماركسية، التي أولت اهتماماً بالجانب الاقتصادي، لكنها لم تولِ الجانب النفسي الاهتمام الذي يستحقه، مثلما جرى استخفافٌ بالدين، علماً بأنه رسم حياة البشر منذ الخليقة، وهناك جوانب تم إغفالها وهي حقول إنسانية مثل الميثولوجيا والانثروبولوجيا والنقد الأدبي والجماليات، وهي إن جرت عودةٌ إليها لكنها غير كافية، تحتاج إلى تلاقح مع مدارس فكرية أخرى. اليسار العربي بحاجة إلى إعادة قراءة واقع مجتمعاته وتطلعاته وتاريخه وتراثه، وتمثلها كتواصلٍ حضاري وهويةٍ تقوم أساساً على الثقافة واللغة والتاريخ المشترك.
□ هل لأن اليسار غير ديمقراطي؟
ـ شيئان لا يوجد أكثر منهما غموضاً والتباساً في الفكر اليساري وهما (الديمقراطية) و(الدولة) والسبب فقرٌ معرفي ووجهةٌ خاطئة، فاليسار عموماً فكر بالثورة على الدولة التي هي منجزٌ بشري هائل. وكانت المركزية عند اليسار تسبق الديمقراطية حتى في التطبيق، طبقاً للتأويلات السوفييتية لكتاب لينين «ما العمل؟» حتى أصبح أقرب إلى ديانة وإن كانت غير سماوية. صحيح أنه جرى اهتمام في الخطاب اليساري في العقود الثلاثة الماضية، إلا أنه ظل محدوداً، لأن ما هو غالب منذ الخمسينيات في التثقيف الماركسي هو أن سمة عصرنا «الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية» وكان اليسار عموماً يرفض فكرة التعددية، خصوصاً التي تمثل الطبقة العاملة، التي لا بد أن يكون لها برنامج واحد وحزب واحد، وخائنٌ من يجرب اجتهاداتٍ أخرى.. وهذا ديدن الفكر الشمولي بجميع مدارسه.
□ في حوار سابق تحدثت عن حب ما بعد السبعين.. أين أنت منه الآن؟
■ لا توجد سعادة أكثر من الحب، والحب حياة وبوح وحوار وصداقة وحلم وأمل. وهو جزء من ثلاثية سبق لي أن تكلمت عنها، وتتمثل في المرأة والحب والجنس، وتلك تشكل ألغازاً لجوهر الصراعات والعقد النفسية معلنة أو مضمرة. وكنت قد تحدثت عن حب ماركس لجيني. ويبقى الحب والجنس والعشق والزواج مسائل شخصية في العلاقات الإنسانية. وينبغي أن تكون لها حرمة مثل حرمة المنازل والمراسلات والبريد والهاتف والإيميل، ويقتضي الأمر مراعاة حُرمة القلوب والمشاعر والعواطف الإنسانية، لما لها من خصوصية. هناك عشقٌ عابر وهناك مقيم وللعشق أحكامٌ وبقدر ما يكون العشق يقيناً فهو حيرة وهو هدىً، وحسب ابن عربي، الهدى بالحيرة والحيرة حركة والحركة حياة. والعاشق كمن يريد أن يمسك الضوء، ولذلك يظل حالماً كلما اقترب منه طلب المزيد.
□ قلت إنك عاشق.. ماذا يعني ذلك؟
■ إذا كانت السلطة حسب كيسنجر عنصر تهييج للشبق بمعنى أنها شبقية متجسدة في ذكورية تعويضية، فإنها استبدال للحب وابتعاد عن واقع العشق. شخصياً أرى في العشق ولهٌ وصبابةٌ وتدفق في الحب، وهو تعويض عن جميع الحرمانات ومكافأة على جميع العذابات، مثلما هو البديل عن السلطة والتسلط التي يسعى إليهما من لا يعرفون جوهر الحب، وكان غابريل غارسيا ماركيز يقول: السلطة هي التعويض عن الحب، وكم استعرت مثل هذا القول الواقعي بامتياز.
□ وما موقع المرأة في حياتك؟
■ المرأة نصفي الذي لا توجد حياة بغيرها. ولا يمكنني العيش دونها، ففيها تتأنسن روحي وتكتمل إنسانيتي وتتعقلن خطوتي.
□ وكيف تنظر إلى الجنس؟
■ الجنس روحانية ما بعدها روحانية، إنه تعبدٌ وخشوع وإيمان وطقوس زكية وهو عطر الروح.
□ هل تستطيع أن تتحدث عن أخطائك؟
■ بكل ارتياح وشفافية، فهناك نوعان من الخطأ: الخطأ الأول (الصميمي) وهو الذي يعبر عن اجتهادات أو مواقف أو تقديرات لم تتحقق، أو لم يثبت الواقع إمكانية تحققها، أو أنها كانت بعيدة عن الواقع. وأقول لك إن الإنسان يقع بمثل هذه الأخطاء كل يوم. والمثقف والكاتب بشكل خاص أكثر عرضة لذلك، حسب معطياته ومعلوماته التي يمكن أن تتغير بمعلومات ومعطيات جديدة، الأمر الذي يعني تجاوز المواقف أو التقديرات الأولى. وعليك أن لا تدافع عنها، بل أن تعترف بخطئك موضوعياً وذاتياً. وهذه الأخطاء حتى إن كانت صميمية، محسوبة على المثقف والكاتب أكثر من غيره، لأنها معروفة، في حين يخطأ الناس أكثر منها بعشرات المرات، لكن لا أحد يحاسبهم عليها، لأنها محدودة أو غير معروفة، في حين إن ما نكتبه معرض للنقد والمراجعة والتدقيق، ولذلك على الكاتب أن يكون أكثر دقة وحذراً لاعتبارات تتعلق بالصدقية أولاً ومراعاة لموقعه ثانياً، وخدمة للحقيقة ثالثاً. والنقد الذاتي على الكاتب واجب، وعليه أن يمارسه وأن يجري مراجعة لنفسه باستمرار وتلك فضيلة نطمح إلى الوصول إليها، كيما تصبح فريضة واجبة الإداء. الخطأ الثاني (المقصود) وهو تواطؤٌ ضد الحقيقة، أي سلوك طريق خاطئ، والإنسان يعرف ذلك، لكنه يتذاكى على نفسه، أو يبرر لها أو يجد الأعذار أو يتهم الآخرين، حتى دون اعتذار أو إقرار بالخطأ. فتأييد احتلال بلدك ليس خطأ صميمياً والسكوت عن دستور طائفي أو مهادنة الإمبريالية بقبول معاهدتها المذلة هو خطأ من النوع الثاني.
□ وفي الأخير .. هل ما زلت حالماً؟
■ هناك من وضع أحلامه في سلة واحدة فجاء من خطفها، وهناك من نسي حلمه فأضاع الطريق، وهناك من أصبحت أحلامه كوابيس مفزعة. حلمي يتجدد ويتراكب ويتخالق، ودون الحلم فالحياة تتحول إلى شيء كئيب ويابس وراكد، لذلك فإنني أعيش مع الحلم، حتى إن لم يتحقق. والمهم أن يبقى الإنسان حالماً وبالحلم والأمل يعيش على نحو أفضل. وهو ما يعطيك طاقةً إيجابية، أي بالتفاعل الإنجازي.