أفلام عصابات المافيا… و مشاعر المشاهد العادي
لا تتشابه أذواق الشعوب بالنسبة إلى الأفلام السينمائية تماما حيث قد يكون أحد أنواع الأفلام أكثر شعبية في منطقة ما من العالم مما هو عليه في منطقة أخرى، فمثلا لا تتمتع أفلام الخيال العلمي في العالم العربي بالشعبية التي نجدها في أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية. و لكن أحد الأستثناءات قد يكون أفلام العصابات، أذ أنها تتمتع بنفس الشعبية الكبيرة في جميع أنحاء العالم. و لذلك، فأن هذا النوع من الأفلام كان بداية انطلاق العديد من الممثلين و الممثلات ليصبحوا من المشاهير في عالم السينما مثل «جيمس كاغني» و «أدوارد جي روبنسن» و «روبرت دي نيرو» و «فَي دَنَوَي» و آخرين. و لم تقتصر قصص العصابات على الأفلام السينمائية حيث تناولت بعض أشهر المسلسلات التلفزيونية قصص العصابات مثل «السوبرانو» The Sopranos و «ممر الأمبراطورية» Broadwalk Empire. و لذلك فأن أفلاما مثل «العراب» كانت من أكثر الأفلام نجاحا من الناحيتين التجارية، و كذلك الفنية، بالنسبة للنقاد، حتى انها أعتبرت ظاهرة فنية على الرغم من عدم مراعاتها الدقة التاريخية. و الجدير بالذكر أن الفيلم الذي يحصل على أعجاب المشاهد يعطي مؤشرات عن أمنيات و طريقة تفكير ذلك المشاهد، أي أن هنالك بعض أو الكثير من الأشياء المشتركة بين فكرة الفيلم و شخصياته و بين تفكير المشاهد و شخصيته.
كانت بداية أفلام العصابات كظاهرة سينمائية في أوائل الثلاثينات عندما أنتجت أفلام «القيصر الصغير» Little Caeser (1931) و «عدو الشعب» The Public Enemy (1931) و «الوجه ذو الندبة» Scarface (1932) بنجاح كبير جاعلة أبطال هذه الأفلام نجوما سينمائيين من الصف الأول و هم «جيمس كاجني« و «أدوارد جي روبنسن» و «بول موني». و لم يكن ظهور هذه الظاهرة مفاجأة فقد كان نتيجة عدة تطورات تقنية و اقتصادية و اجتماعية حيث ظهرت الأفلام الناطقة التي استعملت الصوت لتسهيل التعبير عن أحداث الفيلم و زيادة التأثير الدرامي على المشاهد مما يزيد من فعالية ألأحداث العنيفة في الفيلم. و من الناحية الأجتماعية كان ظهور العصابات الأجرامية قد أصبح واضحا للعيان و تحول بعض زعمائها إلى شخصيات معروفة لدى عامة الناس لاسيما «آل كابون» في شيكاغو و «دتش شولتز» في نيويورك بسبب طريقة حياتهم الباذخة و ذكر الصحف لهم. و كان أحد أهم أسباب بروز العصابات سيطرتها على تجارة الكحول غير القانونية أثناء فترة منع بيعه رسميا التي بدأت عام 1920، و كانت المصادفة أن تكون أشهر العصابات في تلك الفترة متكونة من ذوي الأصول الأيطالية، و لذلك فأن أفلام العصابات الأولى كانت ذات قصص مقتبسة من تلك العصابات و زعمائها لاسيما «آل كابون». و بالأضافة إلى ذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعاني آنذاك من مشاكل أقتصادية كبيرة سببت أنتشار الفقر و البطالة.
أفلام الجريمة
و جعلت هذه الظروف الكثيرين يجدون ضالتهم في أبطال أفلام العصابات، فهؤلاء ألأبطال أناس من أصول فقيرة، مثل أغلب المشاهدين، و لم يتمتعون بأي تعليم أو مهارة مفيدة، و لكنهم قساة و جريئين و خبراء في أخافة من حولهم. و لذلك، فأنهم يرتقون سريعا في المنظمات الأجرامية حاصلين على الأموال و النساء و أحترام الجميع دون الحاجة لأية دراسة أو عمل متعب و مستقيم، و كان كل هذا أمنية الكثيرين من المشاهدين. و بالتالي فأنه على الرغم من نهاية المجرم في الفيلم على يد منافس ما أو رجال الشرطة و بطريقة عنيفة، يتحول ألى بطل يتمنى المشاهد أن يكون مثله. و قد لاحظ القائمون على صناعة السينما مبكرا هذا التأثير على المشاهد، و لذلك سرعان ما فرضت صناعة السينما قيودا كثيرة على الأفلام السينمائية عام 1934 ، و منها تجنب الكلمات الجارحة و المخدرات و الجنس و أن يُعاقَب المجرم في الفيلم مما سبب تقييد صناعة السينما و حدد أفلام العصابات من حيث عددها و قصصها. و كانت بعض القيود أكثر تحديدا أحيانا، فمثلا مُنِعَت شركات السينما من عرض أي فيلم قد يمجد «جون دلنجر»، أشهر المختصين بسلب المصارف آنذاك، حتى قُتِلَ علي يد رجال الأمن عام 1934.
كان «العراب» بداية لنوع جديد من الأفلام السينمائية حيث يبين الفيلم العنف الشديد لعصابات المافيا ألأيطالية و مدى تشعب نفوذها داخل المجتمع الأمريكي و نشاطاتها ألأجرامية المتنوعة، و لكنه أختلق نوعا جديدا من زعيم المافيا الذي كان أقرب ألى المفهوم الخيالي لشيخ القبيلة منه ألى زعيم عصابة أجرامية كبيرة، فهو دائم الأهتمام بأولاده و بعائلته و اصدقائه، و لا يرد طلبا من أحد مهما كان مما يجعل المشاهد يعجب بهذا الرجل الطيب الرقيق.
لم تتوقف أفلام الجريمة بسبب هذه القيود، و لكنها قَلّت و تغيرت حيث أخذت تتناول قصص مجرمين منفردين أو عصابات صغيرة، و نال بعضها شهرة كبيرة مثل «النوم الكبير» The Big Sleep (1946) و «أدغال الأسفلت» (1950). و لكن الملايين من الناس وجدوا متعة جديدة عام 1950 حيث بدأ مجلس الشيوخ الأمريكي بالتحقيق مع زعماء عصابات المافيا، أي العصابات المتكونة من أفراد تعود أصولهم ألى جزيرة صقلية الأيطالية. و عرضت جلسات الأستجواب على شاشة التلفزيون، و كانت عمليا مسلسلا تلفزيونيا عن المافيا نجومه قادتها و رجال السياسة. و كانت تلك المرة الأولى التي يطلع فيها المواطن العادي على العصابات الكبيرة و تركيبتها الداخلية المعقدة نوعا ما و مصادر أموالها من مختلف انواع النشاطات الأجرامية، و حتى علاقتها المشبوهة أحيانا برجال الشرطة و الدولة. و زاد ذلك من أهتمام الأعلام و المواطن العادي بأخبار عصابات المافيا ألأيطالية، فظهرت بعض الأفلام عن العصابات في الخمسينات حتى أن الفيلم الفكاهي الشهير «البعض يفضلونها ساخنة» Some Like it Hot (1959) كان في الحقيقة عن عصابات المافيا الأيطالية.
كان فيلم «بوني وكلايد» Bonnie and Clyde (1967) أول فيلم شهير عن العصابات منذ الثلاثينات. و كان عن شخصيات حقيقية شهيرة على الرغم من بقاء القيود المفروضة على الأفلام السينمائية. و حصل الفيلم على جائزتي أوسكار و جعل من الممثلة «فَي دَنَوَي» نجمة سينمائية كبيرة خلال ليلة و ضحاها. و لكن صانعي الفيلم لم يلتزموا بالدقة التاريخية حيث كان نجمي الفيلم، «وورن بيتي» و «فَي دَنَوَي»، محبوبين و خفيفي الظل مما أثار أعجاب المشاهدين بهما، و مما ساعد على ذلك التقليل من عنف الشخصيات الرئيسية في الفيلم.
فيلم العراب
مَثّل عام 1968 التغير الحقيقي في تناول صناعة السينما الأمريكية لقصص العصابات بسبب تخفيف القيود المفروضة عليها، و أصبح لدى الشركات السينمائية حرية كبيرة في انتاج أفلام عن العصابات. و لذلك عرض فيلم «العراب» The Godfather (1972) الذي أُعتُبِرَ نقطة تحول في تاريخ السينما حيث لم تعتبره الصحافة العالمية أول فيلم من نوعه في تاريخ السينما الأمريكية فحسب، بل ظاهرة فنية قائمة بذاته، فللمرة الأولى أصبح فيلم عن العصابات من أعظم الأفلام السينمائية بالنسبة للنقاد من الناحية الفنية.
و قد بلغت شهرة فيلم «العراب» إلى درجة أن بعض رجال المافيا أخذوا يتكلمون مثل «مارلون براندو» في الفيلم، كما أخذوا يفكرون من سيمثل شخصياتهم من مشاهير الممثلين في حالة أنتاج فيلم عنهم. و مع ذلك فأن الفيلم لم يكن موضع أهتمام كبير من قبل الشركة المنتجة أثناء التحضير لتصويره، و الدليل على هذا ميزانيته المنخفضة و خلوه من النجوم الكبار، و حتى «مارلون براندو» الذي لم ينجح له أي فيلم لعدة سنوات و كان يُعتَبَر من نجوم الماضي. و أما «آل باتشينو» و «جيمس كان» و «روبرت دوفال»، فلم يكونوا معروفين بعد. و من الملاحظ أن الشركة المنتجة لم تستخدم مخرجا معروفا، أذ لم يكن المخرج «فرانسيس فورد كوبولا» سوى مخرج لبضعة أفلام غير شهيرة.
كان «العراب» بداية لنوع جديد من الأفلام السينمائية حيث يبين الفيلم العنف الشديد لعصابات المافيا ألأيطالية و مدى تشعب نفوذها داخل المجتمع الأمريكي و نشاطاتها ألأجرامية المتنوعة، و لكنه أختلق نوعا جديدا من زعيم المافيا الذي كان أقرب ألى المفهوم الخيالي لشيخ القبيلة منه ألى زعيم عصابة أجرامية كبيرة، فهو دائم الأهتمام بأولاده و بعائلته و اصدقائه، و لا يرد طلبا من أحد مهما كان مما يجعل المشاهد يعجب بهذا الرجل الطيب الرقيق. و اذا وجد بعض المهتمين بالسينما هذا المظهر مألوفا، فأنه كبير الشبه بالمسلسل التلفزيوني الشهير بونانزا Bonanza الذي كان عن مجتمع رعاة البقر. و اذا طرحنا الضجة الأعلامية حول الفيلم جانبا و تمعنا في القصة فأن شخصية زعيم العصابة غير الواقعية لم تكن المشكلة الوحيدة، ف«مارلون براندو» و «جيمس كان» لم يبديان أيطاليين مطلقا على الرغم من محاولات مسؤولي المكياج أخفاء ذلك، بالأضافة ألى أن «مارلون براندو» لم يبدُ كبيرا في السن بما فيه الكفاية. و أما أجتماع زعماء المافيا، فظهر و كأنه أجتماعا لمدراء شركات كبيرة، و أبدى بعضهم رفضه لتجارة المخدرات بينما كانت هذه التجارة في الواقع منذ بدايتها أحد أكثر أنشطتهم ربحا، مع الأخذ بنظر الأعتبار أن زعماء المافيا الحقيقيين يتجنبون الأجتماع. و ظهرت المافيا في الفيلم و هي تمارس نشاطها و كأن أجهزة الأمن غير موجودة، و زادت بعض مشاهد العنف المفرط مثل أغتيال «سوني» من بُعد الفيلم عن الواقع. و من الأشياء الغريبة الأخرى في الفيلم كان الشخصية التي مثلها «روبرت دوفال» حيث انها كانت لمستشار أيرلندي في مافيا أيطالية جدا، و هذا من المستحيل في عصابات المافيا الحقيقية.
إيطاليا والمافيا
أغرب ما في فيلم «العراب» كان نجاحه في جعل المشاهد يتعاطف مع «مايكل كورليوني» (آل باتشينو) في صراعه مع أعدائه حيث ظهر و كأنه يدير عملا تجاريا متواضعا و لكن أعداءه يحاولون القضاء عليه، مع العلم أنه كان طوال الفيلم في غاية الأدب.
و في نهاية المطاف على المشاهد أن يحتفل عندما ينتصر «مايكل كورليوني» و يصبح أكبر زعيم عصابة في الولايات المتحدة الأمريكية. و الغريب في الأمر أن فيلم «العراب» يبين أن زعماء المافيا يعتبرون وعودهم الشفهية شرفا لهم، أي أنهم لا يمكن أن يخالفون وعودهم مهما حدث، و لكن الواقع عكس ذلك حيث أن الخيانة و الغدر من أبرز شيمهم. و مع ذلك نرى الممثل الشهير «روبرت دي نيرو» يعبر في برنامج بريطاني شهير عن أعجابه الفائق باحترام زعماء المافيا لكلمتهم، و لا نعلم أن كان هذا الممثل، الذي مثل الجزء الثاني من «العراب»، يعتقد ذلك فعلا أم أنه كان يقوم بدعاية لأفلام المافيا لمصلحته التجارية. و مهما كان سببه، فلا شرف لكلمة زعماء المافيا الذي يعتمدون على تجارة المخدرات و القتل و الدعارة و الغدر طوال حياتهم.
كشف الفيلم خفايا تفكير المشاهد الذي أعجب به حيث أنه يتمنى الأنتقام من كل من يزعجه، و يتمنى كذلك ان يخافه الجميع و أن يحظى بمعاملة خاصة أينما ذهب من مطاعم و مناسبات أجتماعية بغض النظر عن خلفيته الأجتماعية و تعليمه. و من الطبيعي أن يتمنى أغلب الناس وجود شخصا قويا يتحمل المسؤولية و يستجيب لرغباتهم الصعبة، فهذا ما كان «دون كورليوني» (مارلون براندو) يفعله. و لذلك فأن فيلم «العراب» يكشف حقيقة الأنسان العادي، ألا و هي ان مظهره المتحضر يخفي شخصية متوحشة و سادية و بالغة الأنانية.
كان فيلم «العراب» بداية لظاهرة أفلام عصابات المافيا حيث انتجت عدة أفلام من هذا النوع نالت نجاحا باهرا، على الرغم من أن أيا منها لم يصل ألى شهرة «العراب»، و منها «رفاق طيبون» Goodfellas (1990) و «حلل هذا» Analyse This (1999) و «كازينو» Casino (2006) الذين أشترك فيها الممثل «روبرت دي نيرو». و دخل هذا النوع من الأفلام عالم التلفزيون حيث كان مسلسل «عائلة سوبرانو» The Sopranos أحد أكثر المسلسلات التلفزيونية نجاحا. و أذا كان فيلم «العراب» يثير أعجاب المشاهد برجال المافيا، فأن المسلسلات التلفزيونية خلقت لهم مظهرا رومانسيا يجعل المرء يشعر بالشفقة عليهم. ومن صفات رجال المافيا، حسب الأفلام و المسلسلات، محاولتهم الدائمة الأبتعاد عن الشخص العادي الذي لا يتعامل معهم، و أنهم عندما يستهدفون شخصا يتجنبون أيذاء أقاربه و أصدقائه، على الرغم من كون الحقيقة عكس ذلك.
لم يكن الجميع سعيدين بنجاح أفلام المافيا حيث عبر الكثيرون من الأمريكان ذوي الأصول الأيطالية أمتعاضهم من ذلك حيث صورتهم جميعا كمجرمين عتاه. و لذلك، مُنِعَ بعض أبرز ممثلي هذه الأفلام من الأشتراك في ألأحتفال بيوم كولومبس الذي يعد أحتفالا أيطاليا كبير تحول ألى مناسبة وطنية في الولايات المتحدة ألأمريكية. و اعترض الكثيرون من الأيطاليين عندما قررت الحكومة الأيطالية منح الممثل «روبرت دي نيرو» الجنسية الأيطالية معللين رفضهم أن هذا الممثل بنى شهرته عن طريق الأساءة لسمعة الأيطاليين في جميع أنحاء العالم، و لكن الحكومة الأيطالية مضت قدما في قرارها.