الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
لم يسبق أن ابتعدت طوال عامين عن وطني العربي، وبالذات عن بيتي البيروتي، إلا هذه المرة.. فالكهرباء قضت نحبها في لبنان إلا ساعات مزاجية نادرة جداً.. (وأنا من عشاق الكتابة والقراءة ليلاً).
وحتى الذين اشتروا محركات كهربائية خاصة بمبانيهم، يعانون من صعوبة إيجاد الوقود لها، ناهيك عن ارتفاع أسعارها إلى المدى الذي لا يطاق، هذا إذا استطاعوا الحصول عليها.
غيابي عن وطني العربي يعني ببساطة أن بطاريتي الكتابية تعاني لا باسمي وحده، بل وأيضاً باسم آلاف الناس الذين يعيشون الكثير من الليالي في الظلام في لبنان.. وباسم المرضى الذين لا يستطيعون زيارة الطبيب والعودة إلى بيوتهم دون أن يتحرك المصعد، إلا إذا تكرمت عليهم «الأميرة» الكهربائية بدقائق تبث الروح خلالها بالمصعد ويصل المريض إلى بيته.
جارة المسؤول الكبير: كهرباء دائمة!
لي صديقة لبنانية أستقي منها الأخبار الحقيقية لما يدور في لبنان.. وتصادف أنها تقيم مقابل بيت ذلك (المسؤول) الكبير من حكام لبنان. وقالت لي في مخابرتنا الهاتفية الأخيرة وبكل بساطة، إنها تقبع في الظلام بلا أنيس غير شمعة، بينما الغرف كلها في بيت الوجيه السياسي مقابل بيتها تشع غرفه بالكهرباء.. وهي ليست حالة نادرة، بل النموذج لمئات الآلاف من الناس في لبنان الذين يعيشون المعاناة من موت الكهرباء وهي من بعض معاناتهم.. ترى لو تم إرغام الجميع على معاناة الظلام بالتساوي وبدرجة واحدة من الحكام والمسؤولين إلى الأثرياء وأصحاب المحركات المفتقرة إلى الوقود، لو عاشوا معاناة مئات آلاف الناس، أما كانوا سيجدون طريقة لاستعادة تلك الأميرة الملقبة بالكهرباء التي يفقدها لبنان؟
لا أطلع في باريس على الصحف اللبنانية للأسف، لأنها لا تصلنا، لكنني أستطيع أن أتخيل ما يكتب فيها حول مأساة لبنان مع الكهرباء وغير ذلك من عذاباتها. ولا أعتقد أن الحكم سيستتب لأي (زعيم) أو (سياسي) أو حاكم في لبنان إذا لم يواجه مأساة انقطاع الكهرباء ويعيدها للبنانيين بالتساوي.
قبل قليل نهضت عن طاولة الكتابة وقمت بضغط أزرار الكهرباء جميعاً في بيتي الباريسي: يا له من سحر أن ينعم الناس بالكهرباء في كل لحظة كما ينعم الفرنسيون بذلك.. والكثير من الشعوب الأخرى في هذا العصر! ويتساءلون لماذا يهاجر اللبناني من لبنان الوطن الحبيب و(سويسرا) الشرق (سابقاً!) وعاصمة الظلام في العالم العربي حالياً؟
البنوك والنقود المجمدة
كيف أكتب عن لبنان وأنا التي لم تغادر باريس إلى بيروت منذ فترة طالت، وللمرة الأولى؟ لا أكتب عما أجهله. فأنا على اتصال دائم مع ما يدور في بيروت، وبعضه يخصني كصاحبة لمنشوراتي ومسؤولة عن دار النشر العريقة التي أسسها زوجي الراحل د. بشير الداعوق، والأهم من كل ما تقدم رغبتي في العودة إلى لبنان في طائرة الشوق إلى الوطن.. لكن المتاعب تحاصر ذلك الوطن الحبيب. في الحقول كلها.. هل يعقل ألا تستطيع التصرف بمالك الذي أودعته في أحد البنوك اللبنانية؟
لا أكتب شعراً عن لبنان كما فعل من قبل كبار الشعراء وصغارهم، لأن الواقع قتل الشعر وبقيت الحقيقة عارية عن الوضع في ذلك الوطن الحبيب.
المطلوب واحد: الإصلاح!
لا مفر من التورط بالتظاهرات دون قتل بعضنا بعضاً، فالمفترض أننا جميعاً نريد شيئاً واحداً: إعادة الحياة إلى لبنان! هذا دون شهية الحكم أو الاستزلام لهذا أو سواه. يجب أن يظل لبنان حاكماً لنفسه، وليس شبه عميل لأحد. والدرب إلى ذلك اسمه «الإصلاح» في كل حقل. أما الذي سيعيد الأميرة الكهرباء إلى لبنان فسيصير بطلها الحقيقي في القلوب، فقد تعب لبنان من الظلام بمعاني الكلمة كلها.
هيا تكلمي فأنا لا أفعل شيئاً!
في زيارتي الأخيرة إلى بيروت، اصطحبتني صديقة بسيارتها من مكتبي في منشوراتي في حي «المصيطبة» إلى بيتي. وفي الطريق رن هاتفها المحمول (الموبايل) وقلت لنفسي إنها لن ترد على المخابرة لأنها تقود سيارتها، لكنها فعلت ولم تكتف بذلك، بل سمعتها تقول للمتكلمة «لا أفعل شيئاً، فقط أقود سيارتي»! هالني ذلك!
بعد إقامتي الطويلة في فرنسا أعرف أن الحديث على الهاتف أثناء قيادة السيارة ممنوع لأنه يمكن أن يسبب حوادث الاصطدام لانشغال السائق بالكلام على الهاتف المحمول (الموبايل) بدلاً من التركيز على قيادة السيارة دون إيذاء أحد. ومن يقترف ذلك هناك يدفع غرامة كبيرة، ولم أقل شيئاً لصديقتي بل كنت سعيدة بالعودة إلى بيتي حية وحزينة لاستخفاف الناس عامة في لبنان بالقانون وحياة الآخرين!
الغربة العصرية
في باريس دعاني صديق لبناني وزوجته إلى الغداء في مطعم فاخر، وما كدنا نستقر في مقاعدنا ونختار الطعام حتى رن هاتف (الموبايل) الخاص بالمحامي الصديق! وغرق في حوار قانوني، ورن أيضاً هاتف زوجته وغرقت في حوار مع أسرتها في بيروت، وبقيت وحدي على مائدة واحدة مدعوة إلى الغداء مع «اللا أحد»!
وعلى المائدة المجاورة كان كل شخص يتكلم بمفرده على (الموبايل)!
يا لتلك «الغربة العصرية» حين تجد نفسك محاطاً بالناس ووحدك!
حقيقة ذلك الوطن الحبيب
التلفزيون الفرنسي كالقناة السابعة والثانية والسادسة وسواها، صارت تقدم تحقيقات تدوم أكثر من ساعة عن الوضع في لبنان، بلا أقنعة.. وعن الحياة الحقيقية في بيروت وذلك مؤلم حقاً. البارحة مثلاً شاهدت تحقيقاً متلفزاً عما يدور منذ 17 أكتوبر ومروراً بانفجار المرفأ.. ويتحدث فيه (البيارتة) بكبرياء عن بيوتهم التي هدمها الانفجار ومخاوفهم وفكرهم (الجديد) وأحزانهم.. ترى، هل يعيش بعض حكام لبنان في كوكب آخر، أم أن علينا أن نرغمهم على مشاهدة حقيقة أيام حكمهم حتى على شاشات تلفزيونات غربية؟ أتساءل: من كان أفضل الزعماء الذين حكموا لبنان؟ ومن كان منهم الأكثر لا مبالاة بهموم الناس؟
أترك الجواب للقارئ ولأبناء الوطن في لبنان.