العراق والتطبيع في مجلس العموم البريطاني
في الوقت ذاته الذي يعيش فيه سكان مدينة المقدادية، في محافظة ديالى، شرق العراق، حملة قتل وتهجير وتطهير عرقي، من قبل ميليشيات حكومية أو داعش (وجهان لعملة واحدة) وبمرأى القوات الأمنية والحكومة، أبدى مجلس العموم البريطاني، اهتماما كبيرا، بالعراق، ولكن بطريقة انتقائية، تجاهل فيها النواب الإشارة إلى يوميات القتل. حيث تم تناول الوضع السياسي والاقتصادي والأمني، بالإضافة إلى سياسة العراق الخارجية، بنعومة تتماشى مع مصلحة الحكومة البريطانية في دعم النظام القائم الراعي لمصالحها بينما تقترح حلولا للصعوبات والعراقيل بأسلوب سياسي مُغّر يتميز بنُبل مسعاها ووحشية المتقاتلين فيما بينهم من أهل البلد.
قام عدد من أعضاء البرلمان، من حزب العمال المعارض، بمساءلة الحكومة، ممثلة بوزارة الخارجية ووزارة الدفاع، أولا: عن التقييم الذي أجرته بشأن الآثار المترتبة على سياساتها للانتخابات البرلمانية الأخيرة، وثانيا: العلاقات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية. كما طُرحت أسئلة حول « النصائح» التي قدمتها الحكومة لنظرائها في حكومة الإقليم والحكومة الفيدرالية، بشأن معالجة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان والسماح بحرية التعبير.
بالنسبة إلى سيرورة الانتخابات، كانت بريطانيا من أوائل الدول التي أثنت على «الانتخابات السلسة» وكيف أنها، من الناحية الفنية و«انعدام أي حوادث أمنية كبيرة» تُشكل تحسناً واضحاً مقارنة بالانتخابات السابقة. وتفادى وزير الدولة للشؤون الخارجية في جوابه أي ذكر لعدم إعلان النتائج النهائية، حتى الآن، ومظاهرات الخاسرين من أبناء النظام، وإعادة توزيع المقاعد وفقا لقوة سلاح الميليشيات. كما لم يتطرق إلى المقاطعة الكبيرة التي وسمت الانتخابات على الرغم من حملة الترغيب والترهيب الكبيرة التي صاحبتها، وبذخ الميزانية «التشجيعية».
وجاءت الأجوبة بصدد معالجة الفساد وحرية التعبير مماثلة للموقف من الانتخابات من ناحية « نُبل» الموقف البريطاني. «سأستمر في إثارة أهمية معالجة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان، والسماح بحرية التعبير، خلال ارتباطاتي مع القادة السياسيين العراقيين» حسب وزير الدولة المُصّر على تنفيذ مهمة بريطانيا «الإنسانية النبيلة» وحمل عبء نشر الديمقراطية مع السفير البريطاني ببغداد والقنصل العام في أربيل، اللذين « يناقشان بانتظام هذه القضايا مع محاوريهما في كلا الحكومتين».
ينص الخطاب العام للسياسة البريطانية، المتمثل بكل الأجوبة، على تكرار الصيغة الاستعمارية، الجاهزة، التي تمنحها بالدرجة الأولى صك البراءة من مسؤولية غزو البلد وتخريبه، مع الإبقاء على هيكلية النظام الضامن لمصالح بريطانيا الاقتصادية.
«سنواصل العمل بشكل وثيق مع الأمم المتحدة والشركاء الدوليين لتشجيع حكومة جديدة في العراق وحكومة إقليم كردستان على حل مشاكلهما، بما في ذلك الميزانية المستدامة والحدود الداخلية المتنازع عليها».
ولأن السياسة البريطانية مختلفة عن الأمريكية بكونها أقل عنجهية وأكثر ميلاً لأن تُغّلف السُم بالعسل، وأنها كما يُصرح مسؤولوها أدرى بـ«الثقافة العربية» وكيفية التعامل مع الحكام العرب، تم، أخيرا، طرح السؤال الأهم في مجرى الاهتمام بالعراق. « ما هي الخطوات التي تتخذها وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية لتشجيع التطبيع الدبلوماسي بين إسرائيل والعراق؟» طرحت السؤال نائبة تمثل حزب العمال، الذي بات أقرب الى المنظمات الصهيونية والمحتل العنصري الاستيطاني، منذ إبعاد رئيسه السابق جيريمي كوربن المعروف بمناصرته الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرير.
ينص الخطاب العام للسياسة البريطانية، المتمثل بكل الأجوبة، على تكرار الصيغة الاستعمارية، الجاهزة، التي تمنحها بالدرجة الأولى صك البراءة من مسؤولية غزو البلد وتخريبه
أجابها الوزير موضحا ترحيب المملكة المتحدة «بحرارة» باتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب والسودان. لأنها «خطوات تاريخية تشهد تطبيع العلاقات بين أصدقاء المملكة المتحدة». مؤكدا بأن المملكة المتحدة « ستواصل تشجيع المزيد من الحوار بين إسرائيل والدول الأخرى في المنطقة». وهو الجواب الأكثر وضوحا ومطابقة للحقيقة والواقع تجاه العراق. وهي المرة الأولى التي يتم فيها طرح سؤال مباشر وصريح، في البرلمان، عن موقف بريطانيا من العراق الذي يواجه ضغوطا أمريكية – بريطانية كبيرة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، منذ غزوه واحتلاله عام 2003.
وقد جرت محاولات سابقة لسبر الروح العراقية الشعبية تجاه التطبيع، وخطوات عملية من بينها قيام ثلاثة وفود عراقية مكونة من 15 شخصية سياسية ودينية، بزيارة الكيان الصهيوني، عام 2019، والتقت بمسؤولين حكوميين وأكاديميين يهود. والمعروف أن علاقة حكومة إقليم كردستان بالكيان الصهيوني حميمة على عدة مستويات. وقدمت الحكومة الأمريكية لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، اثناء زيارته واشنطن، منتصف العام الحالي، حزمة إغراءات تضم معالجة المشاكل الاقتصادية المثيرة للنقمة الاجتماعية، إذ تفاقم الفقر عام 2020 مقارنة بعام 2019، بحيث يعيش ثلث سكان العراق الآن تحت خط الفقر، حسب الأمم المتحدة، وفتح أبواب الاستثمار، وتعويض أي انخفاض بأسعار النفط، وتخفيض أعداد القوات الأمريكية الى حد الغاء وجودها، كل ذلك مقابل الاعتراف بإسرائيل والمساهمة بعزل إيران.
وتساهم بريطانيا، في حملة الضغط من خلال تقديمها التطبيع، باعتباره دواء لعلاج المشاكل السياسية والاقتصادية وما تصفه بـ «السخط الشعبي».
إلا ان المحاولات الأمريكية – البريطانية، باءت بالفشل الذريع حين عُقد في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، يوم الجمعة 24 أيلول / سبتمبر، مؤتمر بعنوان «السلام والاسترداد» نظمه مركز يدعى «اتصالات السلام الأمريكي» بحضور عدد من عراقيين تم وصفهم بأنهم « شيوخ عشائر وكتاب ومثقفون». تزامن عقد المؤتمر الداعي إلى اعتراف العراق بكيان الاستيطان الصهيوني مع الذكرى السنوية الأولى لـ ( إتفاقات إبراهيم) التي تواصل الإدارة الأمريكية دعمها على حساب إبادة الشعب الفلسطيني. كانت ردة الفعل الشعبية العراقية الغاضبة على عقد المؤتمر كبيرة إلى حد أنكرت فيه قيادة الأقليم علمها بها وسارعت كل الأحزاب والجهات الرسمية إلى إدانته وإعلان تمسكها التاريخي بالقضية الفلسطينية.
تبين أسئلة المعارضة والأجوبة الرسمية، في البرلمان البريطاني عن العراق، حول الوضع الاقتصادي المنخور بالفساد والأمني المتهالك، الناتج بالدرجة الأولى، جراء غزو واحتلال العراق الذي شاركت بريطانيا بقيادته، استمرارية العقلية الاستعمارية المستهينة، والمحتقرة، لشعوب يختار بعض أفرادها أما خدمته أو مشاركته النظرة حول إتهام بقية السكان بالجهل والتخلف وعدم القدرة على إدارة شؤونهم، تبريرا لاستغلالهم وسرقة ثروات البلد. وهو ما كذبّته إنتفاضة تشرين في 2019 ومقاطعة الانتخابات، والرفض القاطع لضم العراق الى قائمة موقعي « إتفاقات إبراهيم».