عباس والهدهد…
الروائي/عبد الجبار الحمدي.
لم ارى وجهي منذ زمن بعيد، إني اتحاشا أي مرآة او قطعة زجاج تعكس وجهي، لا أدري لماذا؟! ربما لأن هدهد القدر قال لي مرة أني سأتوقع نبأ كارثي إن شاهدته… سأقول بالحرف ما قاله لي: مثل أي متشرد صفعته أيدي الأقدار ورمت به الى شوارع وَهم عاشه واقعا مريرا، لم يكن بيدي فلسان حالي ولساني هما اللذان شرعا بجعلي أمثل نقطة في رأس سطر، لم أكن ادرك أن هناك من يمسك ببمحاة حياة قد دلف بين طيات السطور التي كنت اعدها لبرنامج خطابة… حتى في ليلة غاب عني النور صرت اتحسس وجهي والجدران التي قبعت بينها، صرخت كثيرا… وكثيرا.. وكثيرا، لم يجدي نفعا صراخي، غير اني ادركت اني في عالم غير العالم لم يكن لي فيه اي حلم يراودني، فالواقع اشهده في الصباح مع لطمة قوية تدير فكي واما الليل فيكون الرقص على صفائح ساخنة او أسلاك كهرباء توضع على خصيتي اللتين سلقت فيهما قبل أوانها وكسر جدارهما فصارتا فاسدتان… ماذا احكي لقد ابتعدت عن ما اردت قوله؟؟ … أوه نعم الهدهد وما قاله: لا اعلم لم وكيف!؟ لكن للأقدار يد واصابع و لاشكك فوف يمكنها ان تعيد صياغة وجهك او قفاك عندما تُسَخَرَ لك من يعيد صفها او رصها كما كان يفعل ذلك المتوحش المولع بالصفع… كنت أطلق عليه لقب الخنزير الكبير لنتانته ورائحة فمه الكريهة التي اشبة بالبراز.. كثيرا ما تقيأت على وجهه وهو يمسك بي صارخا ورذاذ لعابه يتطاير ملتصقا على وجهي الذي ما ان احاول مسحه حتى اشعر بأن أشلاء جيفة ميتة قد ألتصقت عليه… لم يكن بيدي حيلة فأنا من الشخوص الفائض وجودهم وقابلين للقتل بل الاستغناء عنهم… سارع في ذلك اليوم لإخراجي طالبا مني ان ابقى في الشمس بعد ان تمكنت مني الديدان والبراغيث والقمل، الكثير من الحشرات التي قبلت أن تتعايش عنوة معي ورأفة بها اخرجوني الى الشمس كي يسمحوا لها أن تخرج في محاولة للهرب من نتانتي او ليعتبروه إطلاق صراح… ذقني صار اشبه بعش للخراب، اما شعري فبات كومة من ألياف عفنة… ساعات في الشمس أحسست بتلك الحشرات ومسمياتها وهي تلملم افراخها وما يمكنها حمله هربا بطلب لجوء في مكان آخر… ضحكت طويلا وانا أراها تهرب، لكن الحقيقة حسدتها فهي قادرة على فعل ما لا أستطيع… نظرت الى السماء بعد أن نسيت شكلها وهل هي لا زالت زرقاء كما عهدتها أم تغير لونها؟ عندها لاح لي الهدهد، فركت عيناي اللاتي غلبها الوسخ فباتت جفونها سميكة لا يمكنني أن ارمش بها او حتى ابصر الضياء… شعرت لحظة بأني أعيش هنيهة لأمر سيناط بي، ترى هل يبلغي الهدهد بمجيئه بنبأ؟ هههههههههههههه ربما لا اكون نبيا او وصيا لكن ربما سأكون كذلك، فقد جرت الدواهي علي وصاغتني بغير الذي كنت عليه، بِتُ أشعر بالهوس، صرخت أنه الهدهد يا عباس هاهو جاء ليخبرك بنبأ… فصرت اتحرك عن مكاني حتى ابتعد عن الشمس لأحظى برؤية الهدهد… لكن الخنزير سارعني برفسة أطارت كل مهاتراتي وظنوني قائلا: إبن الكلب اي هدهد وأي عباس؟ إبن النعال تعال لأريك الهدهد الحقيقي ألعن ابوك يا ابو الهدهد… كانت اللطمات لأكثر من يد، الضرب بالعصي صار جمعية مشتركة… اما أنا فكنت في عالم الإيحاء اسمع الهدهد يقول لي: ستخرج يا عباس قريبا، لكن إياك ان ترى وجهك في المرآة، أحذرك من ذلك ففي تلك اللحظة ستسمع وتشهد ما لا يمكنك ردعه او صده او حتى تغيير حقيقته… كان الضرب مدعاة برنامج مواقف ضاحكة بالنسبة لهم، أما لي فقد كان جرعة عادية وجب علي أخذها حتى اشعر بأني مقهور ذليل فالعالم الذي نعيش صَنَفَ البشر بين ضارب ومضروب، جلاد ومسجون، مقصلة ورأس متطايرة… يا لها من معادلة قذرة!!! رغم كل ما كان منهم لم يروني اصرخ او اتذمر او اشتم بل كنت مبتسما وهذا ما زاد حنقهم حتى أفقدوني الوعي، لا أدري؟؟ ليلة او ليلتين كنت فيها غائبا عن الوعي غير أني مستيقظا استمع في مخيلتي الى ما يملي علي الهدهد من أنباء…
كيف وماذا ولما حصل في ذلك؟؟ أوصلني الخنزير الى البوابة الخارجية وهو ينفث الدخان الذي يشعر بالحرية وهو يخرج من مخناره وفمه العفن الذي لم يقضي فيه إلا لحظات هكذا سمعته يتذمر اقسم أني سمعته يقول: اللعنة عليك أيها السجان العفن الى الجحيم انت ومن هم على شاكلتك… سمعته يقول لقد خرجت دون إرادتي، لا اعلم كيف؟؟ لكن سأكون عينا تراقبك يا كلب..
مددت يدي اليه محاولا لطم خياله الذي كان يلامسني فقط لأشعر نفسي بأني استطيع ضربه لكن رائحته فاسدة مثل صاحبه… سرت مبتعدا دون ان اعير اهمية لما يقول، أخذتني أقدامي الى الشوارع التي قالت لي ارصفتها بانها مهمومة تشكي الإهمال، اللافتات كثيرة توعد بمستقبل جديد وتغيير بوهم من يقرأها، الأشجار المتيبسة، الهواء الفاسد يحيط بالمكان، مجاميع تسير تناهض وتندد بالواقع عالم يهيج كغليان ماء في قدر مثقوب سرعان ما يهرب وسرعان ما يتبخر، فقنابل المسيلة للدموع ترشق كأنها أحجار سجيل لا ادري كيف وصلت الى ساحة التحرير؟ كانت غير تلك التي اعرف.. فلا زال النصب ومن عليه يحاول فك قضبان السجن ليخرج مطالبا بالحرية… شباب شابات، نساء ورجال كبار، اطفال بأعمار مختلفة كلهم متجمعين في ذلك المكان، لم يكن لي حاجة في السؤال… فالاحداث تفسر بعضها البعض… شعرت بالبعض يبتعد عني بسبب رائحتي وشكلي الرث، لكن الأكثر قام بمساعدتي والدفع بي بعيدا عن الرصاص المتطاير والدخان… قلت في نفسي… صدقت نبوءتك يا هدهد ها هو ما بلغتني فيه يحدث… الموجة عالية يد السلطة جائرة، الجلادين كثر، السلام لا يمكن ان يسير على ألغام موقوته، كيف لي ان أبلغ الرسالة؟ من سيجعلني أركب المنصة!؟ الصراخ يتعالى، الجرحى في كل مكان، الموت في اي مكان لا تعرف هل هو مندس بيننا أم يسير ليرقن وجوه واسماء لم يحن موعد غيابها؟ اللثام كان حاضرا، الايدي الخفية تقتل بشراهة… شياطين الموت يقبعون بين العامة.. سارعت مندفعا بين الجموع حيث المنصة، تدافعت وانا أصرخ لدي نبأ عظيم قد أبلغنيه الهدهد، لزاما عليّ ان أخبركم عنه ارجوكم دعوني اعتلي المنصة او أعطوني المايكرفون… البعض توجس خيفة من شكلي ورامني مندس فابعدني بشدة.. قاومت متوسلا وانا أقول هبوني مجنونا يريد البوح بما يثير حنق السلطة ان الظلم قد نال مني وها انا قد خرجت توا من قبر السلطة وسجونها المليئة بمثلي ارجوكم دعوني أبلغكم ما قاله الهدهد لي.. لا اعلم كيف؟؟؟ وجدتني اعتلي المنصة وقد تجمهر الكثير امامي.. لم اعي نفسي كيف لكني شعرت بأني سأكون نبي هذه المرحلة سأبوح بالنبأ العظيم… شاشات التلفاز كشفت عن وجهي دون معرفتي رأيت وجهي كانت الصدمة لي إنها المرآة الذي حذرني منها الهدهد.. غفلت عنها وقلت اخوتي اسمعوا جيدا… قد يحسبني البعض مجنونا، لكني بالتو ومنذ ساعات خرجت من سجون السلطة وكنت احسبني لا اخرج غير ان هدهدا أبلغني قائلا: ستخرج يا عباس لتبلغ ما أنبأك به لكن عليك ان لا ترى وجهك في المرآة وقد كان لكني رأيت وجهي على شاشات التلفاز… أمنيات الكثير ان تبقوا على ما انتم فيه فالحرية تحتاج الى تضحيات كثيرة وهذا صعب ومميت فقيم الحياة بائنة ولعل قدوتنا لدفع الظلم سيدنا ابا الشهداء الحسين عليه السلام… اخوتي إن نبأ الهدهد يقول: …
كانت تلك أخر كلمة جملة خرجت بعد ان أطارت بنصف رأسه إطلاقة من فوهة جلاد بعتمة.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي