رشيد الخيون
تعرضت قريتا «الرَّشاد» و«نهر الإمام» (27 أكتوبر 2021)، مِن قرى محافظة ديالى، إلى مجازر. فجرت داعش (السُّنيَّة) «الرَّشاد» (الشِّيعية)، والرَّشاد ردت بمجزرة على «نهر الإمام» (السُّنيَّة). هكذا أعلنت وسائل الإعلام، وأرادت الجماعات المسلحة، وهكذا تعيش ديالى. ظلت خاصرة العِراق نازفة خلال الحرب الإيرانيَّة العراقيَّة(1980-1988)، وبعد 2003. لم يتوقف نزيفها حتى اللحظة، يتهارش داخلها الطَّائفيون، وهي المنطقة التي كانت متسعة للجميع، على اختلاف المذاهب والقوميات.
إذا عاينت خريطة العِراق تجد ديالى خاصرته، مِن جهة الشَّرق، والمنطقة المفتوحة على إيران وما بعدها، مع تداخل في الجبال والمياه. لا تصل خيول الغزاة صرة العِراق بغداد إلا بعد وطء الخاصرة. مرت منها إلى بغداد جيوش التَّتار(656هجريَّة)، ثم جرت الحروب بين العثمانيين والصّفويين عليها والغالب ينتزع بغداد، قبلها بقرون مرَّ منها أصحاب الرَّايات السُّود(الدَّعوة العباسيَّة 132 هجريَّة)، ثم جيش عبد الله المأمون(196-198هجريَّة) في حرب الأخوين الشَّهيرة ببغداد. يقع وراء ديالى، داخل الأرض الإيرانيَّة بمرحلة، قصر عُرف في التَّاريخ بـ«قصر اللُّصوص»(البشاري، أحسن التَّقاسيم)، وهو اليوم قصر شيرين.
مَن كان يحسب أن مدينة المقداديَّة، واسمها السَّابق «شهربان» أم بساتين الرُّمان، تجند النساء منها انتحاريات؟! وتتعرض إلى مقاتل فظيعة، حدث ذلك بها، عندما حطم الغزو الأميركي(2003) أسوار العِراق، القوات المسلحة كافة، ذكرها أبو حيان التَّوحيديّ(ت: 414هجريَّة)، قائلاً:«هل تسمع في سواد أصبهان ما يشبه البردان، والراذان، والنهروان… وباعقوبا وشهَرْبان»؟!(الرِّسالة البغدادية).
كان لشهَرْبان أو المقداديَّة، تاريخ غابر، في ما جرى بين الخلافة العباسية وسلطنة السَّلاجقة أيضاً! ذكر يومياتها صاحب «الكامل في التاريخ» في حوادث السنتين(496) و(549) الهجريتين. ورد في تبدل اسمها، مِن شهربان إلى المقدادية، نسبة إلى دفينها الصَّحابي المقداد بن الأسود(ت:33هجرية)، وهو توهم بقبر مقداد آخر، الشَّيخ مقداد بن محمد الأسدي(ت:826هجرية)، وكم حصل مِن توهم، وعبر على أذهان النَّاس، بين المراقد والأضرحة، تنافذ بين المقدسين والمدنسين! فالمقداد الأول مات بعد فتح مصر ودفن بالمدينة (ابن عبد البرِّ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب).
أمَّا ديالى ككل، والمقدادية مِن أعظم مدنها، فوردت عند البلدانيين: ببَعْقُوبا، وباعقوبا أيضاً «قرية كبيرة كالمدينة… من أعمال طريق خراسان، وهي كثيرة الأنهار والبساتين، واسعة الفواكه متكاثفة النخل، وبها رطب وليمون، يضرب بحسنها وجودتها المثل، وهي راكبة على نهر ديالى من جانبه الغربي، ونهر جلولاء يجري في وسطها»(الحموي، معجم البلدان). اسمها القديم«بعقوبا»، وكلّ مدينة يتقدم اسمها حرف الباء تعد آراميَّة التسمية، تعني بيت المفتش، فالباء بيت وعاقوبا المعقب أو المفتش(عواد وسفر، أُصول أسماء الأمكنة العراقية، مجلة سومر).
ماذا بقي مِن «سلة غذاء» العراق إن صحت التَّسميَّة؟! ماذا بقي مِن رمانها وبرتقالها وليمونها وأعنابها ونخيلها، مِن أدبائها وشعرائها؟ّ مِن اختلاط أهلها، الذي لم يكن يوماً مِن الأيام نقمة، مثلما اليوم، بوجود السِّلاح خارج الدّولة، بيد العابرين مِن «قصر اللصوص» إليها؟! وما اختبئ بين بساتينها مِن خلايا الإرهاب الدِّيني!«إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا»، ما عدنا نميز الحامي مِن الغازي، في فوضى السِّلاح، والخبث الطّائفي. لن تعد ديالى لأهلها وبساتينها ونهرها، الذي عُرفت به، إلا بإخراج المسلحين منها، بإعلان الطوارئ عليها، وفتح سجل الموت فيها، وإلا تبقى خاصرة العِراق مدماة، تتغذى الجماعات الدِّينيَّة على دماء أهلها! معلوم ماذا يعني نزف الخاصرة!