إكسبو.. استسقاء الماء مِن الهَواء
رشيد الخيّون
قدم جناح مملكة هولندا في إكسبو 2020 بدبي، بحضور ملكها وملكتها(ظهيرة 3 نوفمبر2021)، عملية تكثيف الماء مِن الهَواء. وزعت الفتيات، قبل الدُّخول، المظلات البيض على الحاضرين، كي يعيشوا أجواء هطل الغيث، وكأنهم ينتظرون زوبعة، وهم يدلفون مِن عراء جاف إلى ما يشبه المغارة، علتها قبة تخللتها المزاريب، ليهطل المطر من سمائها، ولا أثر للغيوم، ثم وزع قَراحاً بكؤوس على حاملي المظلات. عندها قلتُ إنها صلاة الاستسقاء! التي كان يؤديها العرب قبل الإسلام وعقبه.
أحاذر أن أُعُدَّ مِن القائلين بالإعجاز العلمي، وإخضاع الدِّين للعلم قسراً، فقد كتبتُ في «الاتحاد»: «الإخوان والإعجاز العلمي للقرآن»، ومما ورد في المقال: «فاتهم أن النَّظريات العلمية هي في تبدل وتغير»(جواد علي، مجلة آفاق عربية 1984). كانت البداية بجوهري طنطاوي(ت: 1940)، الذي أصبح مسؤولاً لتنظيم الإخوان بالقاهرة، ورئيس تحرير جريدتهم(موسوعة الإخوان)، لديه «تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات»(25) مجلداً أصدره(1931)، بناه على تحقَّق من اختراع واكتشاف. كان الاشتغال في التفسير العلمي للقرآن بذرة ما سماها أصحابها ب«الصَّحوة الدّينيَّة»، أسفرت عن تشكيل أحزاب وتنظيمات، اتخذت مِن اسم الجلالة عناوينَ وراياتٍ ومتفجرات.
دفع فقدان الماء الإنسان إلى طلب الغيث، لكنّ مَن لديه الأنهار جاريَّة والأمطار مزاريبَ، على مدار الفصول، أيّ السَّقي بالدّيمِ والسَّيحِ، لا يحسب حساب الِاستِسقَاء. فمِن حاجةٍ تفنن العرب قديماً، قبل الإسلام، بالاستسقاء، فإذ أبطأ المطر عنهم، وحل الجدب، وكانت أيام مشهودة، شدوا العشر والسلع(نباتات) في أذناب الأبقار أو عراقيبها، وصعدوا بها الجبل الوعر، مع وقدها بالنّار، كانوا يرون ذلك من أسباب هطول الغيث، تفاؤلاً بالبرق والمطر، على اعتقاد أنَّ قدحَ النَّارِ ووجود البقر، حيوان الزِّراعة والمرعى، يُستجاب لهم ويقدح البرق في السَّماء، ومعه سيهطل المطر! فقال الورل الطَّائى هاجياً:«لادُر دُر رجالٍ خاب سعيهم/ يستمطرون لدى الأزمان بالعشرِ/أجاعل أنت بيقوراً مسلعةً/ ذريعة لك بين الله والمطرِ»(الثَّعالبي، ثمار القلوب).
سموها بـ«نار الاستمطار»(الجاحظ، الحيّوان)، والبيقور، سرب البقر، فهناك مَن سمَّي البقرة«باقورة». وبعد الإسلام، مثلما ألغيت الوسائط بين الله والإنسان كافة، استعيض عنها ب«صلاة الِاستِسقَاء»، وهي تؤدى حتى الآن مع اِحتباس الأمطار.
لا نخلط بين العصور، فلكلِّ زمنٍ نوابغه وأفكاره، وحيلة إنسانه على جفاء الطَّبيعة، فتلك الحيلة أو الفكرة ابنة زمنها، فلا أجد حقاً للورل الطَّائي في هذا الهجاء، وهو لم يتقدم بحلٍ للممحلين العطاشى، والرَّماد يكاد يطويهم، لذا عُرف عام الجدب بالمدينة بعام الرّمادة(18 هجريَّة). لكنَّ نسبة الأبيات إلى أُمية بن الصّلت(مخطوطات في الأمثال العربية) الأقرب إلى الصَّواب، فكان يتحنف نابذاً الوسائط.
ما رأيناه تحت قبة الجناح الهولندي، هطول الماء عذباً مِن الهواء، إلا بعد تقدم التكنولوجيا، بيد أنَّ الأهم مِن ذلك تفكير الإنسان باستنزال المطر، فالذي قاله بديع الزَّمان الأسطرلابي(ت:534هجريَّة) مفسراً حدوث المطر بتصاعد الأبخرة: «كالبحرِ يمطره السَّحاب وما له/فضلٌ عليه لأنه مِن مائهِ»(الحَموي، معجم الأدباء)، كسر به اعتقاد أن الرُّعود صوت عراك الملائكة، وكسر به ما جُعل قديماً للمطر إلهاً خاصاً. لكنَّ حتَّى تلك الأفكار، التي نعتبرها خرافيَّة، عبرت في وقتها عن محاولة الإنسان في التَّعبير عن حاجته. أقول: ليبشر سكان الطّقس الحار الرَّطب صيفاً، بالماء الوفير!