عين زولا التي لا تنام
يعترف أغلب النقاد أن الكتابة عين بشرية ورؤية عميقة تحويلية لكل ما تلمسه، وليست مجرد كاميرا تلتقط بحيادية، حسب الوجهة التي توجه نحوها. كل ما خلقه الروائيون من وقائع وشخصيات ليس الحقيقة، لكن ما يسميه النقاد الإيهام بالحقيقة. عندما نقرأه نظنه حقيقة موضوعية بسبب مرجعه، لكنه في النهاية لا يعدو أن يكون فعلاً تخييلياً. فالواقع المادي ليس إلا المادة الأولية التي يتم الاشتغال عليها ولا قيمة لهذه المادة خارج الأدب، فيه تنشأ وفيه تنتهي. تصف ما يعتمل في المجتمع من ظلم ونضال، معتمدة على المعاينة الموضوعية وعلى الآليات الأدبية التي تجعل من النص الأدبي أدباً في نهاية المطاف أو ما يسمى نقدياً شعرية الرواية، حتى لا تنزلق نحو ترديد صور كأنها عملية نقل حرفي من المجتمع.
في روايته الشهيرة جيرمينال، التي أعيدت طباعتها في الأيام الأخيرة مع الفيلم الجديد الذي يحمل العنوان نفسه، صور إميل زولا هذه الأبعاد التي قربته من الواقع الموضوعي دون أن تجعله يغرق فيه. وقد اعتمدت هذه الواقعية على خلق النموذج المعبر، الذي يستجيب لمعايير بناء شخصية واقعية، أي تلك التي تؤمن بضرورة فهم الواقع الاجتماعي الموضوعي وتتحرك من خلاله. فقد طور شخصية إيتيان لونتييه Étienne Lantier بطل رواية جيرمينال حتى أصبحت معبرة عن فئة عمالية كبيرة. أعطاه من صفات الشاب الحيوي الذي يرفض الظلم. نفترض حتماً، حتى يكون البعد التخييلي غنياً، يكون زولا قد عايش مثل هذه النماذج، أو اقترب منها. كما اشتغل أيضاً على عملية تحويل هذه المادة الأولية ليجعل منها مادة أدبية. تعمق داخلياً في إيتيان لونتييه فبين مرتكزات شخصيته القوية التي جعلت منه في النهاية شخصية قيادية، على الرغم من أنه لم يكن يفكر في ذلك في اللحظة التي ضرب فيها مسؤوله بصفعة لأنه أهانه أمام العمال. يسافر إيتيان نحو الشمال بحثاً عن عمل. يجد عملاً في مناجم مونتسو de Montsou في ظروف صعبة شديدة القسوة. يقيم عند عائلة ماهو Maheu، وهو من عمال المناجم الفقراء، فيحب إحدى بناته، كاترين Catherine، ترفضه لأنها كانت عشيقة أحد المنجميين العنيف شافال Chaval الذي كان يعتدي عليها في كل وقت. مع الأزمة الاقتصادية، تخفض الشركة رواتب العمال فيدفع إيتيان لونتييه العمال إلى الانتفاضة ضد رأس المال الاستغلالي. لكن القمع البوليسي يوقف الانتفاضة، فيقتل الكثيرون، ومنهم العامل ماهو الذي كان يقيم عنده. وفك الإضراب الذي لعب فيه لونتييه دوراً مهماً. ويعود الجميع إلى العمل لكن سوفارين Souvarine, العامل الفوضوي سياسياً anarchiste، يفجر المنجم وكان به الكثير من العمال، من بينهم إيتيان وكاترين وشافال. يجد الثلاثة أنفسهم تحت آلاف الأمتار تحت الأرض. وبعد معركة طاحنة يقتل إيتيان، شافال، عشيق كاترين التي تموت بين ذراعي إيتيان قبل وصول الإنقاذ. ويواصل إيتيان نضاله من أجل التنظيم النقابي لأنه مدرك بأنه لا حل آخر.
كل ما حكاه زولا هو مادة تخييلية، إذا لا وجود مادياً أو تاريخياً له إلّا في رواية زوالا، جيرمينال.
صحيح أن ما رأيناه هو صورة شبيهة لواقع موضوعي مادي، أي أن فعل التخييل ظل مربوطاً بواقع ثمانينيات القرن التاسع عشر. لكن العالم الذي دار داخله النص هو عالم تركيبي، أي أن الشخصيات المحورية مثل إيتيان لونتي، وكاترين، وسوفارين، وشافال وغيرها، لا يمكن أن توجد إلا داخل رواية أدبية اسمها جيرمينال؛ ففيها ولدت وفيها دفنت. ويمكن أن نقيس على ذلك بقية النصوص الأدبية الأخرى التي بنيت على مرجع اجتماعي موضوعي، التي شكلت عالماً محكماً لفترة القرن التاسع عشر. الذي يعطي الانطباع بالشبه بالواقع هو الجهد الذي بذله الكاتب لخلق عالم تخييلي روائي مواز استطاع أن يعبر من خلاله عن وضع اجتماعي استغلالي شديد الظلم. وربما هذا الإيهام بالحقيقة هو الذي قد يقود القارئ إلى تكوين انطباع عن أن ما رواه زولا قصة حقيقية وقعت في مجتمع القرن التاسع عشر. بينما هو ثمرة جهد تخييلي مصدره المجتمع وفعل التحويل الكتابي، الذي على الكاتب الجديد أن ينتبه له، أي أن يخرج من الواقعية المباشرة التي لا تخرج عن إعادة الإنتاج بشكل مسطح. نجد مساحات التخييل موزعة على ثلاثة محاور: المحور الأول، المتعلق بالمكان الذي تدور فيه الأحداث، مناجم الشمال، وهو مكان حقيقي، مما يوهم بالواقعية الحرفية. فقد وصفه زولا حتى ظنناه حقيقة موضوعية. ويمكننا رؤيته ولمسه حتى لو لم تزر المكان قط. جهد زولا أنه حوله إلى فضاء روائي حي ومتحرك. المحور الثاني يرتبط بالشخصيات التي بناها زولا من مجتمع ثمانينيات القرن التاسع عشر، من خلال ما يمكن أن يفرزه مجتمع تلك الفترة من نماذج تخييلية، سواء الشخصيات الجشعة، الإجرامية، الأنانية، والخيرة. إيتيان لونتييه، يشبه الآلاف من العمال الذين انتفضوا في مناجم الشمال ضد رأس المال الجشع الذي يبني راحته على عرقهم. لم يأت به شخصية مسطحة وجاهزة، لكن شخصية تنمو بتنامي الأحداث والوقائع، وأثثه بجوهر إنساني كبير. بينما صبغ على عدوه شافال كل صفات الاغتصاب والخيانة والجريمة. أدخل الكاتب إيتيان في شبكة علائقية جديدة مع عائلة ماهو، وجعله يختبر عواطفه هناك بحبه لكاترين. هذا العالم تأسس على واقع مر جعل منه زولا منطلقه الروائي ومساحته التخييلية. المحور الثالث لعالم زولا التخييلي، فكرة النقابة التي تحولت إلى رهان، في وقت لم تكن التنظيمات النقابية قد ظهرت لتدافع عن حقوق العمال.
لا غرابة، فقد كان زولا منخرطاً في الفعل الاجتماعي ومناضلاً كبيراً. في روايته جيرمينال شيء من الحاضر الاجتماعي الفرنسي في نهايات القرن التاسع عشر الذي اتسم بواحدة من أسوأ الممارسات: معاداة السامية التي جعلت من اليهودي هدفها الأساسي. فقد وقف بصرامة الكاتب الملتزم والعضوي ضد هذا المرض الذي استشرى في المجتمع الفرنسي. لم يتوان عن إدانة المؤسسة العسكرية يوم تم سجن الضابط دريفوس ظلماً، الذي اتهم بالخيانة العظمى والتخابر مع الألمان والنمساويين، من خلال رسالته الحادة التي وجهها للرئيس الفرنسي فيليكس فور، متهماً المؤسسة العسكرية بخيانة مبادئها التي أسست عليها. هذا النص لا يمكنه أن يكون رواية، أي عملاً تخييلياً. فقد كتب ليتناول قضية موضوعية تتعلق بوضعية شخص مظلوم. فقد بعث فيه عن كل العناصر الدفاعية وكأنه محام، على العكس من جيرمينال، حيث لم تتحول العناصر الموضوعية إلا مدخلاً لعمل تخييلي بامتياز. كيفما كانت واقعية الأحداث، تظل الرواية عملاً تخييلياً، على تماس بالحياة، ينشأ داخل منظومة الأدب.