هل حقا حاولت الأفاعي اغتيال المزمار في العراق؟
مَن يفك لغز محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، التي حدثت في الأسبوع الماضي؟ مَن يملك المعلومة وليس الخبر أو التحليل؟ مَن القادر على الإشارة إلى تلك الجهة التي حاولت رسم الحدث؟ هل حقا حاولت الميليشيات المسلحة اغتياله؟ أم أن المشهد تم رسمه وإخراجه في دوائر أخرى، كي يبقى المزمار لولاية ثانية، وأداة للآخرين ينفخون فيه ويلمّعونه لمراقصة الأفاعي وليس قتلها؟
أسئلة كثيرة يمكن طرحها في محاولة لتحليل الحدث، بعيدا عن الانحياز الواضح إلى ما قاله رئيس الوزراء في خطاب قصير بثه التلفزيون الحكومي، على أنه الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من أي اتجاه لمصالح دولية محسوبة. في حين أن هنالك شكوكا كثيرة في الواقعة، ليس من جهة الأداة التي قامت بالفعل، بل من جهة مَن رسم السيناريو وأخرج المشهد ثم قرر العرض. هل يدخل هذا القول ضمن نظرية المؤامرة؟ ولم لا.. فنظرية المؤامرة حقيقة موجودة في السياسات الداخلية والدولية أيضا وليست خيالا. ألم تكن كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية مؤامرة؟ ألم تكن مؤامرة، ذلك الأنبوب الزجاجي الصغير، الذي رفعه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بيده أمام المجتمع الدولي، مدعيا أنه سلاح كيماوي عراقي قادر على إبادة نصف البشرية خلال 45 دقيقة؟ لذلك لا بد من تحليل الواقعة من زاوية أخرى. فما المؤشرات الطاردة لفكرة أن محاولة الاغتيال كانت حقيقة؟
الاستثمار الأمريكي في ورقة الميليشيات لم يستنفد بعد، وحسابات واشنطن على طاولة مفاوضات النووي الإيراني أكبر من العراق
على مدى 18 عاما والميليشيات المسلحة تقتل وتخطف وتعتقل وتُغيب وتُهجّر، وتسرق وتستثمر في الفساد وأموال الفساد، وتُصدّر الميليشيات إلى ساحات خارجية للقتال. كما أن لها ناطقين رسميين وإعلاما نافذا وفضائيات ومراكز أبحاث ومعسكرات ومقرات، وقد وصلت إلى السلطة وحصلت على مقاعد في البرلمان بقوة السلاح والمال. وفي الوقت نفسه وعلى رؤوس الأشهاد تقصف المراكز السيادية للدولة من مطارات ومؤسسات حكومية، وتستعرض قوتها العسكرية في شوارع العاصمة بغداد، وتطوق المنطقة الدولية الخضراء، التي فيها مقرات الحكومة والبعثات الأجنبية. كما هددت عسكريا بعثات دبلوماسية وقواعد وتجمعات عسكرية ومدنية أجنبية، وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن تقريرا صدر عن وزارة الدفاع الامريكية يقول، إن عدد عناصر الميليشيات الموجودة في المنطقة الخضراء يفوق 4000 عنصر، وتملك ما يقارب 2000 صاروخ نوعي ودقيق، يصبح السؤال ذو الحدين هو، لماذا لم يُلق القبض على قادة هذه الميليشيات بعد كل هذه الأفعال والإمكانيات؟ في حين يصدر كل يوم بيان حكومي يقول الأمن العراقي يطيح بوالي الموصل في تنظيم الدولة.. الأمن العراقي يلقي القبض على وزير المال في التنظيم… كمين أمني عراقي يوقع مسؤول السيارات المفخخة في التنظيم بيد القوات الأمنية العراقية…عملية استخباراتية بطولية نوعية خارج العراق، تؤدي إلى إلقاء القبض على نائب زعيم تنظيم الدولة، وتجلبه إلى بغداد. أليست الميليشيات، وتنظيم الدولة مُصنفين على لائحة الإرهاب معا، وأعداء للعراق والولايات المتحدة كما يقولون؟ لماذا لا نرى الأجهزة الأمنية العراقية والأمريكية تظهر بطولتها ضد الميليشيات أيضا؟ لماذا يُترك هذا الإرهابي ويُعتقل ذاك؟
أما رئيس الوزراء، ذلك المزمار الذي تنفخ فيه الولايات المتحدة وتلمّعه كي تُرقّص به أفاعي إيران، فما زال أقوالا بلا أفعال. فعلى مدى أكثر من عام تلّقى كما هائلا من الإهانات على يد الميليشيات.. لافتات تشير إلى أنهم سيقطعون أذنيه… تطويق مكتبه بقوات الميليشيات.. ثم إجباره على إطلاق سراح عناصر من المجاميع المسلحة، كان أصدر بيانا عنهم، قال فيه إنه تم إلقاء القبض عليهم بالجرم المشهود، وهم يحاولون قصف مطار بغداد. واليوم وبعدما قيل إنها محاولة اغتيال وقف ليقول «سنلاحق الذين ارتكبوا الجريمة، نعرفهم جيدا وسنكشفهم». أحقا هذا هو منطق وتصرف رئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة ورئيس جهاز المخابرات، تعرّض إلى محاولة اغتيال؟ ألا يفترض أن يكونوا خلف القضبان قبل إذاعة البيان، إن كانت المحاولة حقيقية، وكان حقا ويقينا هو يعرفهم؟ وإذا كانت كما يقول «إن الصواريخ الجبانة والطائرات المسيرة الجبانة لا تبني أوطانا ولا تبني مستقبلا» فلماذا لا يوقفها كي يقول التاريخ عنه إنه بنى وطنا وحقق مستقبلا؟ أليس هو المسؤول التنفيذي الأول؟ ببساطة لا يستطيع لأن عوامل النجاح لتحقيق ما يقول ليست بيده، فالإرادة الأمريكية قالت له عدة مرات «ليس الآن وقت الصدام» لماذا؟ لأن الاستثمار الأمريكي في ورقة الميليشيات لم يستنفد بعد، وحسابات واشنطن على طاولة مفاوضات النووي الإيراني أكبر من العراق. السؤال الآن هل حقا كانت محاولة اغتيال؟
من يمتلك المعلومة يستطيع القول إن كان مسموحا له، وإن كان ليس مسموحا فالمؤشرات تبوح بالأشياء. أولا في حديث مع قناة عربية في تموز/يوليو الماضي قال رئيس الوزراء، إنه تعرض لثلاث محاولات اغتيال. فهل من تُراهن عليه الولايات المتحدة وقامت بتلميعه عربيا ودوليا، وفرضت على الجميع التعامل معه كقائد الضرورة، تضعه لقمة سائغة لمحاولة رابعة؟ ثانيا، ليس من مصلحة طهران في الوقت الحالي السماح لأذرعها باغتيال رئيس الوزراء. فالرجل هو من توافقت عليه مع الولايات المتحدة، وحتى الساعة ما زال يسير وفق الاتفاق الذي تم بين الطرفين… اتفاقيات تجارية مع العراق.. استثناءات من العقوبات.. وتسهيلات مالية. ثالثا، لماذا لم تتم محاولة الاغتيال عند اتهامه بأنه هو من عبّر معلومات استخباراتية أدت إلى قتل قاسم سليماني قبل استيزاره؟ رابعا، افتعال الحادث يغطي فشل الكاظمي في ملفات محلية، أمنية وسياسية كثيرة، ويحميه من مسؤولية مجزرة المقدادية. خامسا، ينقذه من ورطة الانتخابات الاخيرة ويلّين موقف زعماء الميليشيات من النتائج. سادسا، زادت الحادثة من تسليط الأضواء على الكاظمي بأنه المنقذ من الميليشيات ولذلك يستهدفونه. سابعا، لماذا يتم الذهاب إلى استخدام المُسيّرات التي ربما تكشف الفاعل، ولا يتم اغتياله من قبل قناص ينتمي إلى هؤلاء؟ بالمقابل الحادث لا يفيد الأذرع الإيرانية ومن يسيّرها. فأضواء الإعلام باتت مسلطة عليها وحاضنوها أصبحوا في حرج شديد، وهم مضطرون اليوم للبحث عن طُرق تعيد إنتاج أدوارها. إن الاغتيالات هي السياسة بوسائل أخرى. وأن نمط تحضير عمليات كهذه يمر بمراحل معروفة منها، اختيار الهدف، الاستطلاع والمراقبة، التخطيط واختيار السلاح. فإذا كانت كل هذه المراحل قد تمت في مسرح المنطقة الخضراء المحصنة أمنيا، والتي تغطيها شبكة كاميرات ورادارات ومجسات إلكترونية تابعة لأجهزة استخبارات دولية، فأين كان كل هذا الحشد الأمني وفشل في حماية رئيس السلطة التنفيذية؟
كان الفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولو ميكيافيلي صاحب الكتاب المشهور «الأمير» يُعلن دوما خوفه من المرتزقة لأنهم يذهبون لمن يدفع أكثر، اليوم عاد هؤلاء إلى المسرح تحت تسميات مختلفة ومنهم الأذرع الإيرانية بالمنطقة. فمن يستطيع نفي أن المحاولة كانت عملية اغتيال تحت السيطرة؟ ومن يستطيع إنكار أن هنالك أجنحة في الميليشيات تم اختراقها وأصبحت أداة طيّعة بيد الولايات المتحدة، تُراقص بها إيران في لعبة دولية محسوبة؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية