الصين:
الحضور الاستراتيجي
عبد الحسين شعبان
إذا كانت استراتيجية شياوبينغ الإصلاحية الذي تولّى القيادة بعد الزعيم التاريخي ماوتسي تونغ توصف بالصبر، فإن استراتيجية الرئيس شي جينبينغ يمكن اعتبارها استراتيجية حضور، خصوصاً بعد أن خطت الصين خطوات كبرى في تحديث اقتصاداتها وتطوير تكنولوجياتها وربوتاتها (إنسانها الآلي) في ظلّ الذكاء الاصطناعي.
ومنذ أن تولّى الرئيس شي جينبينغ القيادة في العام 2012 سارع إلى تعزيز دور الصين ومكانتها، وذلك بالتوجّه للسيطرة على أراضي في بحر الصين الجنوبي وإنشاء منطقة تعريف في الدفاع الجوي (فوق الأراضي المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي)، وتأسيس بنك التنمية الجديد (بنك بريكس) مثلما أقدم على مشروع البنية التحتية الدولي المعروف باسم “مبادرة الحزام والطريق” Belt and road initiative (2016) وأثبت قدرة الصين في ظلّ إدارته على احتواء تفشّي وباء كورونا “كوفيد 19” وذلك بحلول صيف (2020) حيث استطاعت الصين في ظلّ فضائل التحكّم المركزي من احتواء الانتشار المحلي للوباء، وأصبح نهجها في مكافحة الفايروس مصدر فخر وطني ينظر إليه عالمياً بإعجاب كبير، وقد جرى التعبير عن إستراتيجية الحضور هذه خلال الاحتفالات بمرور100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني (يوليو/ تموز المنصرم).
وقد استند جينبينغ إلى تراكم طويل وطائفة من الإصلاحات التدرجية لإعادة بناء الدولة وهيكلة اقتصاداتها والتي بدأت في عهد قيادة شياوبينغ منذ انتهاء عهد الثورة الثقافية “1965 – 1976” وبداية مرحلة جديدة من الانفتاح منذ نهاية السبعينيات وصولاً إلى وضع الصين منافساً للولايات المتحدة. ومن المحتمل أن يتقدّم اقتصادها على اقتصادات العالم العام 2030، وهو ما يسعى إليه.
وإذا كان أسلاف جينبينغ قد تجنّبوا الصراع الإقليمي والدولي بالنأي عن النفس واستخدام وسائل ناعمة وطويلة الأمد فيما يتعلّق بـ هونغ كونغ وتايوان، وركّزوا على فرصة الصين في التنمية الاقتصادية السريعة والتوسّع المنتظم لنفوذها من خلال الاندماج التكتيكي في النظام العالمي الحالي، وهو ما لمسه كاتب السطور لدى مشاركته في دورة للحوار العربي – الصيني في بكين، (العام 2010) حيث كان المفكرون والباحثون الصينيون يصرّون على أن الصين دولة نامية ولا تريد أن تنخرط في الصراعات الدولية كما لا تريد أن تلعب دور الاتحاد السوفيتي السابق، ويهمّها تنمية قدراتها الاقتصادية بالقضاء على الفقر والتعامل التجاري مع الجميع على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، إلاّ أنّ الرئيس جينبينغ اختار طريقاً جديداً يحمل درجة عالية من التحدّيات بعد انقضاء الصبر الإستراتيجي، خصوصاً وهو يقود مجموعة واسعة من المبادرات السياسية هدفها إعادة تشكيل النظام العالمي بشروط مؤاتية لبكين.
ومثل هذه الشروط تبنى وفقاً لحسابات سواء كانت تطلعات أو مخاوف، ولذلك يراهن القائد الصيني اليوم على الزمن، فقد عزّز سلطته بشكل كبير وزعزع الوضع الراهن الدولي بقوة، وهو ينظر إلى موقع الصين خلال العقد وربما العقد ونصف العقد القادم للاستفادة من مجموعة التحوّلات التكنولوجية والجيوسياسية المهمة التي يمكن بواسطتها التغلّب على التحدّيات الداخلية الكبيرة.
ويرى جينبينغ أن تلاقي التحوّلات الديموغرافية والتباطؤ الاقتصادي الهيكلي والتقدّم السريع في التقنيات الرقمية والتحوّل الملحوظ في ميزان القوى العالمي بعيداً عن الولايات المتحدة يمثل بحدّ ذاته “تغيرات عميقة لم نشهدها منذ قرن” وهذه تتطلّب حلولاً جريئة وعاجلة وهنا يكمن حضور الصين.
ولهذه الأسباب أدخل جينبينغ تعديلات جوهرية على النظام السياسي الصيني لكي تتمكّن الصين من منظوره أن تهندس نظاماً سياسياً عالمياً يقوم على التعدّدية القطبية والمنافسة في التصنيع والتسليح والتكنولوجيا لقدرات البلدان الأكثر تقدّماً، كما يعتقد أن الغرب (نفوذاً وقوة) دخل مرحلة التدهور المتسارع خصوصاً بعد فشل الولايات المتحدة في احتلال أفغانستان العام 2001 وانسحابها المشين منه 2021 واحتلال العراق 2003 واضطرارها للانسحاب العام 2011 وتخلخل وجودها الحالي، الذي يمكن وصفه بـ “مستنقعات غير مأمونة” وفي بيئة ليست قابلة لها، يضاف إلى ذلك الأزمة المالية التي ضربتها والعالم الرأسمالي بشكل عام العام 2008، ثم إعلان بريطانيا عن خروجها من بريكست بالتصويت في العام 2016 واعلان انسحابها النهائي 2020 وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، الأمر الذي أضعف من هيبتها وأنزل من سمعتها في قيادة النظام الدولي الجديد، وهذه تحدّيات كبرى يواجهها الرئيس جو بايدن منذ تسنّمه إدارة البيت الأبيض.
وإذا كان ماوتسي تونغ قد بنى الصين وفقاً لنظريته بضرورة توجيه الاقتصاد وتأميم أدوات الإنتاج، وكبح جماح القطاع الخاص وفقاً للعقيدة الآيديولوجية ونظام الولاء والطاعة الحزبية وعلى أساس الأمن القومي، فإن ذلك العهد لم يعد قائماً، بما عليه من مآسي وما له من إيجابيات، ولذلك فـإن استمرار جينبينغ مطالبة الكوادر الحزبية الالتزام بالعقيدة الآيديولوجية وإبداء الولاء الشخصي له يعني تقويض مرونة نظام الحكم وكفاءته، بل أنه سيؤدي إلى جعل “الذئب المحارب” أكثر عزلة بدلاً من الانفتاح، كما أنه سيقلّص من البدائل ويضعف النقد، خصوصاً بعد إلغاء القيود المفروضة على فترة الرئاسة واحتمال استمراره بالحكم إلى أجلٍ غير مسمّى والسؤال الأخير من سيخلف جينبينغ وكيف سيحكم؟