العراق… الشعب يريد وطنا والميليشيات تريد وطنا
هل بالإمكان «إختطاف» ما يريده الشعب من حقوق وطموحات بواقع ومستقبل أفضل مما يعيشه؟ بمعنى الاستحواذ على ما يطالب به الناس وتعابيرهم عما يريدون؟ تعاني أغلب البلدان في لحظتنا التاريخية هذه، ومنها حتى دول متقدمة كأمريكا منذ انتهاء الحرب الباردة، مرورا بولاية دونالد ترامب وحتى الان، من اختلال في وعي المجتمع المنقسم على نفسه، والانجرار الى ما يحشد له الإعلام السياسي المتطرف إستخداما للعواطف والاكاذيب والتخويف والترغيب، حتى بما هو واضح أذاه للناس مباشرة او في المنظور القريب. فهل نجح نظام ما بعد الاحتلال في تحقيق ذلك عبر إختطاف روح ما يريده الشعب فعلا؟
من يراجع إنجازات النظام العراقي الحالي، منذ غزو البلد وتركه عرضة للنهب وساحة للصراعات الخارجية، سيجد أن ذلك ممكن وأنه تجاوز حدود الاختطاف الجسدي للمواطنين. حيث بينت مظاهرات ميليشيات الأحزاب، المتربعة على السلطة، في أسابيع ما بعد إجراء الانتخابات بأن من بين مهاراتها متعددة المستويات، قدرتها على إختطاف أساليب النضال الجماهيري والتلاعب بها إلى حد يصعب فيه، أحيانا، التمييز ما بين الحقيقي والزائف. فالانتخابات التي تم الترويج لها بقوة إعلاميا وماديا، بدعم دولي لا مثيل له، ناهيك عن تشجيع المرجعية الشيعية الداعية الى المساهمة في الانتخابات، بعد أن اختارت غالبية الجماهير مقاطعتها، والتي تم وصفها بأنها من أكثر الانتخابات التي شهدها العراق نزاهة وشفافية وسلاسة، سرعان ما تحولت، حال إعلان النتائج بخسارة عدد من ميليشيات الاحزاب، الى انتخابات زائفة ومزورة ولا يمكن القبول بها إطلاقا.
وكما هو واضح من نزول متظاهرين من الميليشيات الحزبية الخاسرة إلى الشوارع والاشتباك مع قوات أمنية، والتهديد باقتحام المنطقة الخضراء، رمز المحتل الأمريكي والحكومة العراقية بالنيابة معا، بأن خبرة ما يقارب العشرين عاما من إستلام الأحزاب المليشياوية السلطة، قد أثمرت من ناحية سرقة جوانب من آلية النضال الجماهيري الذي عاشه العراق، بشكل متواصل، منذ أيام الاحتلال الأولى عام 2003، في النزول الى الشوارع والاعتصام ومقاومة المحتل بكل السبل الممكنة وتحرير الوطن. وحقق النظام نجاحا معقولا، في استغلال المطالب والحقوق، وإعادة تدويرها وتقديمها بشكل شعارات شعبوية، مغلفة بقدسية ذات بعد مذهبي، تُساعد على تقبلها وكأنها من صلب حقوقها التاريخية.
فالانتخابات المبكرة ألتي نادى بها المتظاهرون والمعتصمون على مدى عام، للتخلص من الفساد والطائفية والإصلاح العام والتحرر من الأحتلالين الأمريكي والإيراني، خلال إنتفاضة تشرين/ أكتوبر 2019، مثلا، سرعان ما إستولت عليها واحتوتها أحزاب الميليشيات، من خلال تعبئة وتحشيد وتخويف أفرادها من « الآخر» وتجريدهم من إنسانيتهم. وتحول الثمن الغالي الذي دفعته الجماهير، متمثلا باستشهاد وإصابات واعتقالات وتعذيب تجاوز عشرات الآلاف من المحتجين، تحول الى عملة مقايضة لصالح الأحزاب ذاتها التي ساهمت بارتكاب الجرائم بلا مساءلة. وهي المشاركة في ماسسة العملية السياسية ومتقاسمة للحكومة، بدءا من تيار الصدر وحزب الدعوة والحزب الأسلامي إلى كتائب حزب الله والحشد الشعبي. كما استولت أحزاب الميليشيات على أهم شعار جَسّد الانتفاضة وهو « نريد وطنا». فصار لمفردة « الوطن» معاني تم تطويعها وفق استخداماتها الحزبية.
كان بإمكان هذه الأحزاب، تمرير أجندتها الزائفة، على نسبة من السكان، خاصة بعد إختطاف وإعادة تدوير مطالب منتفضي تشرين، لولا لجوئهم إلى ما يجيدون ممارسته، فعلا، وهو استخدام العنف بأشكاله المتعددة
وأخذت معنى جديدًا لتثير ردود افعال مختلفة تمامًا عما إعتبره المتظاهرون حقا من حقوقهم الأساسية ويجب إستعادته. بينما حملت المفردة، بعد تدويرها حزبيا ومليشياويا، معنى هلاميا يخلط ما بين الوطن والسلطة. الوطن إذن موجود، ونحن مالكوه، ما دمنا نتحكم بالسلطة. ويجب الدفاع عنها بأي ثمن ولن نتخلى عنها، كما صرح رئيس الوزراء السابق نوري المالكي قائلا بطائفيته المقيتة وعباراته عن أبناء الحسين مقابل أبناء يزيد، التي يستحق عليها العقاب لتأجيجه خطاب العنصرية والكراهية والتحريض على القتل.
تم تحوير صوت الشعب الحقيقي المطالب باستعادة الوطن الى صيغ جاهزة، مبتذلة لفرط التكرار من قبل ساسة فاسدين، لصالح أجندة سياسية لهذا الحزب المدعوم أمريكيا، الذي لا برنامج لديه غير مهاجمة إيران، ضد الحزب المدعوم إيرانيا والذي لا يملك برنامجا غير مهاجمة أمريكا. كلاهما يدعيان تمثيل الشعب العراقي بينما، هما في الحقيقة، يعملان وفق أجندات ومصالح فئوية لا علاقة لها بمصلحة الشعب على المدى القريب أو البعيد، وإبقاء حياة العراقيين مؤجلة ومحكوم عليها بالمخاوف والقلق وعدم الاستقرار، في أجواء دعائية غايتها « أن تخلق مستوى القلق الأمثل» حسب مهندس الإعلام النازي غوبلز.
فحين يصرح هادي العامري، المسؤول الفعلي لميليشيا الحشد الشعبي، قائلا « سندافع عن اصوات مرشحينا وناخبينا بكل قوة» و « اننا لا نقبل بهذه النتائج المفبركة مهما كان الثمن». فأنه لا يأتي بجديد بل ان صوته صدى لما قاله المالكي قبل سنوات بصدد عدم التخلي عن السلطة. وهو يعمل على تعبئة العواطف المتمثلة بشخصه « الرافض» أكثر منه طرح برنامج للإصلاح والبناء، أو بديلا للانتخابات التي تأرجح ما بين دعوة أتباعه للمشاركة فيها بقوة أولا ورفضها بقوة أكبر حين خسرها. وإذا كان العامري، خلافا لمقتدى الصدر، لا يملك القدسية المحيطة بالصدر كوريث للصدر الأول، وتصنيمه من قبل اتباعه، كمرجع ديني واجب الطاعة، فانه بتجسيده لشخصية المقاتل من أجل « الإمام « الخميني ومن حكم بعده، وباستغلال دعائي ناجح لإعلان الانتصار على داعش، جراء القصف الجوي المستمر للتحالف الدولي والقوات العراقية على الأرض، نجح العامري في إضفاء صفة القدسية على مليشيا الحشد الشعبي ليتمتع بوسم الإفلات من العقاب مهما إرتكب.
ولم تقتصرعملية إختطاف حقوق ومطالب متظاهري إنتفاضة تشرين على الشعارات واللافتات، والنزول الى الشوارع ونصب الخيام، والاعتصام، بل إمتدت إلى جوانب ثقافية ذات خصوصية دينية وتأثير يحفز عواطف الشباب كالرادود المعتاد في مجالس العزاء وزيارات مراقد الأئمة ومناسبات الاستشهاد التاريخية. ومع توفر الدعم المادي الكبير ووجود التغطية الإعلامية عبر قنوات تملكها الأحزاب أو مدفوعة الأجر، كان بإمكان هذه الأحزاب، تمرير أجندتها الزائفة، على نسبة من السكان، خاصة بعد إختطاف وإعادة تدوير مطالب منتفضي تشرين، لولا لجوئهم إلى ما يجيدون ممارسته، فعلا، وهو استخدام العنف بأشكاله المتعددة، من اختطاف وتعذيب وحملات الاغتيال بشكل علني.