هل هنالك ملامح انعزالية في السياسة الأمريكية الحالية؟
يقول الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «الجحيم هم الآخرون». فهل آمنت الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المقولة وشرعت بالابتعاد عن المسرح الدولي؟ أم أنها مشغولة بإعادة التموضع وليس الانسحاب؟ أليست هي الجحيم كما يراها الآخرون؟ وإذا كان هنالك انعزال أمريكي فما هي ملامحه؟
بخلاف كل السياسات التي انتهجتها الإدارات الأمريكية السابقة بالتوسع والتمدد عالميا، يبدو أن الإدارة الحالية أخذت تتجه نحو منعطف آخر في سياساتها. هذا المنعطف كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد ألمح إليه أثناء توليه الرئاسة، ثم انتقل التلميح إلى المجاهرة به في ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب. غير أن الرئيس الحالي جو بايدن، أعلن عنه بوضوح في خطاب الانسحاب من أفغانستان، حين قال، إن أمريكا لم تعد ترغب في لعب دور شرطي العالم. وهو ما دفع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير للقول «إن شهية أمريكا للاشتباك عسكريا باتت محدودة وضعيفة، وإن هذا سيُفهم خصومنا بأن عهد الغرب قد ولى».
وإذا كانت نبرة بلير تشي بالأسف والخوف من تراجع دور الولايات المتحدة، فإن باريس كانت تعد الأيام والساعات كي تحين الفرصة لمغادرة ترامب البيت الأبيض، ووصول شريك آخر حقيقي واستراتيجي تعتمد عليه لتفعيل التعاون الغربي ـ الأمريكي، والنهوض بحلف شمال الأطلسي من حالة الموت السريري الذي نعته به الرئيس ماكرون. فقد خسرت باريس كثيرا حين تخلت عنها واشنطن، وتركتها تخوض في رمال الصحراء الافريقية حتى اضطرت للانسحاب من جمهورية مالي. وما يقال عن لندن وباريس يقال أيضا عن عواصم أخرى كثيرة شرقية وغربية، كانت تنتظر عودة واشنطن لقيادة العالم كما كانت. لكن بايدن في رأي الكثير من المراقبين، بات ينفذ السياسة الخارجية نفسها التي انتهجها ترامب بطريقة مبطنة. فهل حقا هناك انعزال؟ أم هنالك إعادة تموضع؟
من السابق لأوانه القول إن الولايات المتحدة انكفأت على نفسها، خاصة أنه لم تظهر لحد الآن قوة عالمية أخرى تتفوق عليها عسكريا وماليا
يشكل الانعزال أحد الروافد الرئيسية في التفكير السياسي الأمريكي، وهنالك طبقة سياسية تؤمن بهذا النهج وذات نفوذ كبير في صنع القرار، وتدعي بأن إمكانات الولايات المتحدة يجب أن تذهب إلى الداخل وليس الخارج. وهذه غالبا ما تحاجج وتطرح العديد من الأسئلة عن ماهية ونوعية الحصاد المادي والمعنوي الذي كسبته البلاد من التدخلات الخارجية، بل يمتد هذا التساؤل حتى إلى جدوى المساعدات الخارجية. وقد أثر هذا الاتجاه في سياسة الرئيس أوباما على سبيل المثال، الذي لم ينخرط في صراعات الشرق الأوسط، حتى أنه وضع خطوطا حمرا للرئيس السوري، لكنه لم يُفعّلها، وتحجج بوجود صعوبات حالت دون ذلك. وقد أثر هذا التيار في سياسات الرئيس ترامب، فذهب للتنسيق الأمني المعلن بين واشنطن وموسكو في ملفات عديدة. كما تبنت إدارته ما سمي «صفقة القرن» ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، على اعتبار أنه تسوية نهائية للصراع الأقدم في المنطقة. وأخيرا اتفقت واشنطن مع حركة طالبان على الانسحاب من أفغانستان، ليكمل بايدن بعده المشوار، على الرغم من أن الأخير له طريقة وأسلوب مختلفان في التفكير والعمل، حتمهما عليه الانقسام المجتمعي العميق الذي تسببت به الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة. كذلك الهوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء، التي تتطلب توفير الكثير من الأموال لردمها، لكن هل معنى هذا أن هنالك انكفاء أمريكيا على الذات؟
من السابق لأوانه القول إن الولايات المتحدة انكفأت على نفسها، خاصة أنه لم تظهر لحد الآن قوة عالمية أخرى تتفوق عليها اقتصاديا وعسكريا ونفوذا ماليا وقوى ناعمة أخرى. كما لديها اكتفاء ذاتي من الطاقة، والعامل الجغرافي يعمل لصالحها، ويوفر لها حماية ذاتية في محيطين، الأطلسي والهادئ، وكذلك مجموعة دول مُسالمة ليست ذات تهديد عليها. كل هذه المواصفات غير متوفرة لدى القوى الأخرى كالصين مثلا. ومع ذلك يجب أن نفهم التحولات الجيوسياسية في العالم، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، أو الأولى بين متساويين، فهنالك تحول أساسي بعد أن بات هم الصين الزعامة العالمية والصعود الدولي الناعم، لكن سيظل لواشنطن حضورها الفاعل وتأثيرها في الساحة الدولية، على الرغم من أنها أيقنت بعد ثلاثة عقود من وجودها في الشرق الأوسط، أنها كانت الخاسر الأكبر. لذلك وجدنا ثلاثة رؤساء شغلوا البيت الأبيض قد تحدثوا في الاتجاه نفسه، وهو الانسحاب من الأماكن التي توجد فيها الولايات المتحدة في العالم. ثم جاء الاعتراف الكبير بالهزيمة والانسحاب المهين من أفغانستان بعد 20 عاما من وجود لم تحقق فيه أي شيء من البرنامج الذي طرحته بعد الغزو، سوى الخسائر والحرج للإدارات الأمريكية المتعاقبة، كما سقطت كل تلك التصريحات الرنانة التي تقول بتحقيق الديمقراطية والقضاء على الإرهاب. فلا هذه تحققت ولا تلك سادت، لا في العراق ولا في أفغانستان، حتى أن طالبان عادت إلى الحكم مرة ثانية بمباركة واشنطن وبالتفاوض معها. هذه التحولات والخسائر كان لا بد أن تجعل الصوت الانعزالي يرتفع بشكل لافت هذه المرة، داعيا إلى تغيير الاستراتيجية والاتجاه نحو الداخل، حيث الكثير من المشاكل التي تواجه الجميع. لكن هل انعكست هذه التحولات على سياسة واشنطن تجاه حلفائها؟
لقد كان أبرز ارتباك علني تمت ملاحظته هو في خطاب بايدن. ففي أول لقاء له مع الحلفاء قال «عدنا لقيادة العالم» وفي خطاب الانسحاب من أفغانستان قال «لن نكون شرطي العالم» حتى إن البعض من المراقبين عدّه تخبطا وتناقضا واضحين. في حين قال آخرون، ربما يكون هو في طور البحث عن صيغة جديدة للعلاقة مع الحلفاء، لكن التناقض في التصريحات أحدث شرخا في ثقة الحلفاء بالولايات المتحدة، في ظل تقدم روسي في المنطقة والعالم. كما أعطى صورة لهم بأن هناك خطوطا عريضة للسياسة رسمتها المؤسسات الأمريكية، وأن الجمهوريين والديمقراطيين يسيرون عليها بغض النظر عمن يسكن البيت الأبيض، على الرغم من أن أكبر عيوب هذه السياسة أنها تفسح المجال لروسيا كي تهدد الحليف الأوروبي عسكريا، في حين تفسح المجال للصين كي تهدده أقتصاديا، خاصة أن الحليف الأوروبي لديه أزمة عدم القدرة على بناء استراتيجية خاصة به، لذا يمكن الوصول إلى مرحلة يمكن تسميتها تصدع الشراكة الأوروبية ـ الأمريكية.
لكن تبقى للولايات المتحدة كقوة عظمى مسارح لن تتخلى عنها.. ويبدو واضحا أن مسرحها الأول هو آسيا، يليه المسرح الأوروبي. أما الشرق الأوسط فالإدارة الحالية لا تحبذ الوجود الأمريكي فيه، لذلك كان الانسحاب من أفغانستان، حيث كان مركز القيادة الأكبر، لكن هذا التراجع لن يكون له شبيه في الخليج العربي، فما زالت هذه الخريطة مهمة والوجود فيها قوي وفاعل، بل تتحدث مراكز الأبحاث العسكرية الأمريكية عن استحداث أنظمة دفاعية بتكنولوجيا جديدة في المنطقة.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية