الخضراء.. تظاهرات وصواريخ وطائرات
الخضراء.. تظاهرات وصواريخ وطائرات
رشيد الخيّون
تظاهرت ميليشيات مِن «الحشد الشَّعبي»، أمام بوابة الخضراء ببغداد، احتجاجاً على نتائج الانتخابات، التي جرت(يوم 10 أكتوبر2021). بعد إعلان النَّتائج بخسارة غير متوقعة للفصائل المسلحة، أعيد عدّ الأصوات الكترونياً ويدوياً، لكنّ النتائج نفسها. تصاعد غضب «الميليشيات»، فحاصرت الخضراء، وكانت الذروَة(12 نوفمبر2021)، عندما قُتل أحد عناصرها.
لا غرابة مِن تظاهرات ضد نتائج انتخابات، فالأميركان عمر ديمقراطيتهم 300 عام، اقتحموا برلمانهم، كأن الثَّلاثة قرون لم تدربهم على استيعاب الربح والخسارة. لكن العجب مِن تظاهر الجماعات المسلحة، المتورطة باغتيالات متظاهرين، وصل عددهم 800 ضحية، وأن يظهر رئيس وزراء جرت تلك المقاتل في وزارته، ليعطي موعظة ديمقراطية في حقّ التظاهر، وكأن لم تحرق خيام، ولم يُقتل متظاهرون، ولم يُخطف آخرون، ويقبروا في «جرف الصَّخر»، وادي الموت الموروث مِن «القاعدة»، حصل هذا يوم كانت السلطة بيده، ليظهر معترضاً على حرق خيام مفخخة بالعنف، وتفريق مستعرضي قوة التَّنكيل بالشَّباب العراقيين.
يحتاج العِراق أعناقاً طوالاً، فقد نُسب خطأً إلى عليّ بن أبي طالب(اغتيل: 40هجريَّة): «تمنيتُ لو كانت لي رقبةٌ بعيرٍ لأزن بها الكلامَ»، عبارة شائعة لا أصل لها، رميت بين الحِكم والأقوال القصار. لكنّها عبرت عن دلالة وزن الكلام، فالكلمات التي نطق بها رئيس وزراء سابق، وهو يتظاهر مع الميليشيات، أمام بوابة الخضراء، كانت تنقصها الرصانة، فلو مد عنقه قليلاً لأختبر كلماته. ظهر متباكياً على الديمقراطية، لعدم فوز الميليشيات، بينما دماء الـ800 ضحية لم تجف بعد!
قلتُ: السَّياسيّ العراقي، كي يزن كلماته، بحاجة إلى عُنُقِ واصل بن عطاء الغَزَّال(ت: 131 هجريَّة)، أبرز مؤسسيّ المعتزلة بالبصرة، كان «طويل العُنق جداً»(الجاحظ، البيان والتبيين)، وربَّما نفعه في تجاوز «الرَّاء» في خطبه، كانت في لسانه «لثغة قبيحة»، ومع فائدة طول العُنق، هجاه بشار بن برد(قُتل: 167هجريَّة) بها: «مالي أشايع غزَّالاً له عُنقٌ/ كنقنق الدَّووَّ إن ولى وإن مثلا/ عُنْق الزَّرافة ما بالي وبالكم/ أتكفرون رجالاً اكفروا رجُلاً»(المصدر نفسه).
لم تكن خضراء بغداد، الأولى بهذا الاسم والمحل مِن السياسة. سمَّى أبو جعفر المنصور(ت: 158هجريَّة) قبة قصره بالخضراء، فاتخذها محمد النَّفس الزَّكيَّة(قُتل: 145هجريَّة) ضده: «مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ مِنْ بِنَائِهِ الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ، الَّتِي بَنَاهَا مُعَانَدَةً لِلَّهِ فِي مُلْكِهِ، وَتَصْغِيرًا لِكَعْبَةِ اللَّهِ»(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).
سبقه إلى ذلك الحَجَّاج الثَّقفي(ت: 95هجريَّة)، شيد قصره وقبته الخضراء بواسط، بعد النصر على ابن الأشعث(83/84 هجريَّة)، وكان قصره يُسمَّى بالخضراء(المسعودي، التَّنبيه والإشراف). ليس الحجَّاج الأول، في الإسلام، فكان قصر الخضراء بدمشق وقبته مشهوراً، بناه معاوية بن أبي سفيان(ت: 60هجريَّة)، فقال عبد الرَّحْمَن بن حسان بن ثابت(ت 101هجريَّة) متغزلاً: «ثُمَّ خَاصِرَتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الخضراء نمشي فِي مَرْمَرٍ مَسْنُونِ»(البلاذري، جمل من أنساب الأشراف).
ظلت خضراء المنصور قائمة 187 عاماً (145- 329هجريَّة). كان على رأسها تمثال لفارس بيده رمحٌ. سقطت في ليلةٍ باردةٍ ماطرةٍ. مثلت «تاج بغداد، وعَلم البلد، ومأثرة مِن مآثر بني العباس»(ابن الجوزي، المنتظم).
أرى المعركةَ حاميةَ، فالولائيون مستميتون على «تاج بغداد وعلَم البلد»، التظاهرات والصواريخ والطائرات المقدسة ستحاصرها، فإما تحكمها وإما تسقطها! لأن أيَّ حكومةٍ جديدةٍ ستبقى نقمة على البلاد، إذا لم يكن لها عُنقُ الغَزَّال، تزن قراراتها، لتنهي الازدواجيّة بين الدِّيمقراطية وفوضى السّلاح، بين الوطنيَّة والولاية المتحكمة خارج العِراق!
كاتب عراقي