يا لوجوههن الخائفة المستسلمة.
منذ حوالي أسبوعين شاهدت على شاشة التلفزيون الفرنسي (القناة الأولى) نشرة أخبار (تقديم جيل بولو) تحقيقاً من أفغانستان من المراسلة، وكانت مشاهدته تجربة أليمة، فأنت حين ترى الناس يتعذبون تتعاطف معهم بأكثر مما تفعل حين تقرأ الخبر في صحيفة. والخبر يصور ما لا أتمنى حتى لأعدائي المرور بها كتجربة أليمة حقاً: وهي عن عرض بعض الأفغان أطفالهم للبيع بسبب الفاقة، ولإطعام بقية الأولاد في الأسرة لكي لا يقتلهم الجوع! نعم، هذا يحدث في عالمنا اليوم في أفغانستان وبالضبط منذ سيطرة طالبان عليها.
الصغيرات كدمى جنسية (زوجية!)
على شاشة التلفزيون شاهدت وجوه البنات اللواتي لم يتجاوز عمرهن التاسعة، المعروضات للبيع تحت ستار الزواج. كانت وجوههن جميلة، حزينة، تكاد تجهل المصير الذي ينتظرها، لكنه الفقر المدقع والحاجة إلى إطعام بقية أخوتها من (بيعها!). سبق لي أن قرأت في الصحف عن ذلك كله، لكن مشاهدتهن على شاشة التلفزيون سببت لي حزناً مضاعفاً على مصيرهن. ها هي المرأة تدفع الثمن حتى منذ طفولتها.
قد تنقم على تلك الأسر التي تبيع بناتها لسد رمق الباقين، ولكن النقمة الحقيقية يجب أن تكون موجهة إلى عالم السياسة وإلى توقف المساعدات عن فقراء أفغانستان بعد سيطرة الطالبان.
في الصحف قرأت عن ذلك، أما مشاهدة (على شاشة التلفزيون) وجه طفلة معروضة للبيع، بريئة صغيرة تجهل ما ينتظرها، هو حقاً مؤلم. ما من خبر أليم مثل الحديث عن أفغان يبيعون أحد أطفالهم لسد رمقهم ورمق بقية أطفالهم. لكن مشاهدة الفتيات الصغيرات بين (7 سنوات و9 سنوات) يجرح القلب.. وأعتقد أن الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان لا يجب أن يوقف المساعدات إلى من هو جائع هناك.. وبالذات البنات؛ حيث تدفع المرأة الثمن منذ طفولتها بتزويجها وهي بين السابعة والتاسعة من العمر، كي تتمكن أسرتها من شراء الطعام لبقية أطفال الأسرة! يا له من عالم بشع أحياناً! وحين ترى وجوه البنات الصغيرات المعدات للبيع (تحت اسم الزواج) تشعر بفداحة المأساة أكثر مما تعانيه حين تقرأ الخبر في الصحف.. وكما تقول الصحف: هذه العائلات في حاجة ماسة إلى المساعدة.. ولبنان المعذب بألف خير قياساً إلى ما يدور في أماكن أخرى في كوكبنا!
الشر العاري!
يحتفل الغرب كل عام بعيد الموتى (الهالوين) أما نحن فنزور موتانا في المقابر في الأعياد ونضع عليها في دمشق أغصان (الآس) ونقرأ الفاتحة عن أرواحهم، طالبين من الخالق تعالى الرحمة لهم.
أما عيد «الهالوين الغربي» فحكاية أخرى، تقع أحياناً في 31 تشرين الأول (أكتوبر) ويرتدي البعض خلالها ملابس (مرعبة) كما لو خرج الموتى من قبورهم، كما يدور الأطفال على البيوت ويقرعون الأبواب فيعطيهم الناس الحلوى والسكاكر المعدة لذلك، ولكن أحد (أولاد الحلال!) الأشرار أعطى الأطفال حين قرعوا بابه المخدرات (الحشيش) بدلاً من السكاكر!! وحدث ذلك في ألمانيا!.. واعتقله رجال الشرطة طبعاً بعد ذلك، كما اعتقلت في طوكيو/اليابان شاباً استخدم السكين في هجوم على ركاب مطار لأنه كان يشتهي عقوبة الإعدام! وجرح 17 شخصاً. من طرفي، لا أحب هذا النمط من (الأعياد) التي توفر لبعض الناس مسرحاً للشر.. وأتمنى ألا نقلد في بلادنا العربية هذه العادات بعدما ألفنا تقليد الكثير مما يحدث في الغرب من عادات!
الإعدام رحمة!
خبر آخر مروع في تلك الفترة عن امرأة ألمانية (28 سنة) قتلت خمسة من أطفالها نكاية بزوجها الذي خانها!.. كان الأطفال عملة للمقايضة أو لقهر الزوج الخائن! خبر لا أريد تصديقه، لكنه حدث: كانت تخدرهم (لحسن حظهم!) ثم تخنقهم أو تغرقهم في ماء حوض الاستحمام.
وسرني أنها لم تحكم بالإعدام بل بالسجن المؤبد؛ ليس خوفاً على حياتها، بل كي تظل حية ويعذبها ضميرها على قتل أولادها.. وتعي هول ما فعلته. الحكم بالإعدام على امرأة كهذه رحمة، لأنها في الحكم المؤبد ستترك خلال بقية حياتها في السجن مع ضميرها، يعذبها الندم على انتقام غبي، وستتعذب بالتأكيد بعدما ثبت أنها لم تكن تعاني من اضطراب عقلي؛ أي أنها ستعي مسؤوليتها عن جرائمها في السجن، والإعدام رحمة لأمثالها!
أفانين كبة ولحظة مودة!
لاحظت أن كل ما سبق أن كتبته يدعو إلى الغم، ولذا أشكر الفنانة التشكيلية (العراقية ـ الكندية) المرهفة على تعليقها على مقالي «الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء». فقد تذكرتْ، مشكورة، زوجي الحبيب الراحل منذ حوالي عقد ونصف (ولم أنسه لحظة واحدة) ذلك حين قالت عن لبنان: هنالك الكثير من المهاجرين اللبنانيين ممن يرغبون في العودة إلى لبنان حالمين أن تتوفر فيه الخدمات الأساسية للحياة الكريمة. وهذا صحيح إلى أبعد مدى، وأنا منهم؛ لأنني عاجزة عن الحياة في بيروت حين تكون مدينة بلا كهرباء، وأفضل الغربة في باريس التي لم ينقطع فيها التيار الكهربائي مرة واحدة منذ حوالي أربعة عقود على الأقل.
وتضيف أفانين، وهزني قولها هذا عن زوجي الرائع الراحل: «رحم الله د. بشير الداعوق، الذي هو من الجيل الذي أسهم في بناء لبنان عندما كانت سويسرا الشرق، ذلك الجيل كان عملة نادرة» وهذا صحيح إلى أبعد مدى، فقد عمل زوجي أستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت حين كنت طالبة فيها، كما أسس «دار الطليعة» للنشر التي كانت حضارية، بمعنى أنها لم تترجم في أيامه كتاباً غربياً دون استئذان صاحبه، ولم تكن بيروت يومئذ من الذين يسرقون حقوق النشر. وغير ذلك كثير من أعماله التي خدم بها لبنان.
شكراً لك أفانين كبة لكلمتك عن زوجي التي أعادت لي الثقة بأن في هذا العالم (من يعرف قيمة الذين يحترمون القيم) وعسى أن يأتي جيل جديد إلى لبنان يعيد إليه لقبه الغابر: سويسرا الشرق!