هل تحوّل مسار الاتجاه المعاكس بين أنقرة وأبوظبي؟
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وصل ولي عهد أبوظبي إلى العاصمة التركية أنقرة في زيارة رسمية التقى فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد تقاطعات سياسية كبرى في ملفات إقليمية ودولية عديدة، وحملات إعلامية متبادلة. وإذا كان البعض يرى الخطوة مفاجئة، فالحق أن ما سبقها من زيارة لمستشار الأمن القومي الإماراتي إلى تركيا في 18 أغسطس/آب الماضي كانت هي المفاجأة. ويبدو أن تلك الزيارة، أذابت الكثير من أوجه الخلاف بين الطرفين، وصولا للقاء القمة. فهل تطاحن المصالح هو ما دفع لتغيير المسار المختلف؟ أم أن التحديات الأمنية هي التي أجبرت الجميع على تبريد الخلافات؟ وهل الطريق لعودة العلاقات إلى طبيعتها باتت سالكة؟
لا بد من القول إن وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، والانسحاب الأمريكي من أفغانستان، غير التوازنات التي كانت قائمة في المنطقة، وفرض على جميع اللاعبين تغيير مسار العلاقات السياسية بينهم. فقد تداخلت الملفات في ظل فوضى عارمة، ولم يعد أحد قادرا لوحده على تحقيق مصالحه، ولأن أنقرة وأبوظبي نازلا بعضهما في ساحات كثيرة، في سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط والسودان والصومال والبحر الأحمر، ولم يستطع أي منهما تحقيق كامل استراتيجيته في هذه المناطق، فإن التغيرات التي حصلت في المنطقة فرضت شروطها عليهما معا، وقادتهما للاتجاه نحو التعاون. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار، أن الإمارات هي الشريك التجاري الأول لتركيا في الشرق الأوسط، وأن العلاقات التجارية بينهما لم تتأثر بالأزمة السياسية، فيبدو أن جميع هذه الظروف، ساهمت في إنضاج رؤية للتعاون بدل الخلاف، لكن هل هذه العوامل هي وحدها كانت الدافع؟ إن السياسة الجديدة التي يبدو أن الإمارات تعتمدها مع تركيا، والتي تشي بفتح جسور للتعاون، هو تبدل حصل في ضوء عاملين رئيسيين: أولهما لم يعد هنالك أفق لفكرة الخلافات التي كانت سائدة، خاصة بعد تفكك معضلة الخلاف الخليجي، وحدوث حلحلة في مسار العلاقات بين جميع الأطراف، التي كانت في خضم الأزمة، وبذلك فإن أساس هذه الخلافات قد انتهى، ولا بد من تفكيك كل السياسات التي كانت قائمة على تلك النقطة. وهنا وجدت الإمارات نفسها وحيدة ومتأخرة فعليا في الوصول إلى هذا المسار الجديد. وهذا بدا واضحا مع تغير الإدارة الأمريكية وعدم وجود أفق لإبقاء هذا الصراع، وبالتالي لا بد من البحث في حل هذه الإشكالات.
أما العامل الثاني فهو التحديات الأمنية الكبرى في المنطقة، وواضح جدا أن الزلزال الأمني بعد تطورات الوضع في أفغانستان، وما سبقه من خراب اقتصادي جراء الوباء، وهنالك منظومات في خطر وليست بمنأى عن التداعيات. كل هذه المناخات تسمح لكل الأطراف المتضادة في السنوات الماضية إلى اليوم، أن تصل إلى نقطة تصفير هذه المشاكل والاستعداد لما هو مقبل. بالتالي وجدت الإمارات أنه يمكن أن يكون المسار الأمني بوابة رئيسية للولوج منها إلى فكرة إعادة العلاقات، وأن الوقت الحالي هو الأنسب للاستثمار في هذه الصيغة، والدليل على ذلك هو أن بوابة الانفتاح على تركيا كانت بزيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي، وليس وزير الخارجية أو وزير الاقتصاد أو أحد أمراء العائلة الحاكمة.
لا شك بأن هناك واقعا جديدا يتشكل في المنطقة، فرضه فقدان شهية الولايات المتحدة للخوض في الخلافات البينية، كما أن الجغرافيا حاضرة وتفرض نفسها
وبما أن السياسة هي كتلة من المتغيرات ولا ثوابت فيها، وأن مرحلة التقييم الحالي تقول إن هناك أخطارا مقبلة واستنزافا في كثير من محطات الصراع، ولم يبق هناك أفق ولم تتحقق مكاسب، هنا يصبح لا بد من تغيير هذا المسار وتصفير المشاكل والاستعداد لمرحلة مقبلة. وعندما تتخذ الإمارات خطوات في هذا الطريق، معنى ذلك أنها أدركت أنه لا بد من إحداث نوع من التغيير في السياسات التي تتبعها. أما تقييم هذا التغيير وحجمه وقدرته في أن يترجم كواقع على الأرض، فيمكن القول إن حجم الصراعات التي كانت سائدة، لا يمكن أن تُحل بهذه السهولة وبزيارة هنا وأخرى هناك، على الرغم من أن الأتراك لديهم رغبة أيضا في تصفير المشاكل في المرحلة الراهنة، فالخلافات الأيديولوجية حية وقائمة، لأن أبوظبي ما زالت تحمل مشروع الثورات المضادة بالنسبة لحركات التغيير في العالم العربي والإسلامي. في الوقت نفسه فإن أنقرة مستمرة في تبنى مشروع الإسلام السياسي. إذن نحن أمام تضاد بين المشروعين على مستوى الأيديولوجيا، والرغبة في حل وتصفير المشاكل ربما هي على المستوى المنظور فقط.
وبما أن المؤشرات المتوفرة، التي نراها على أرض الواقع في زيارة ولي عهد الإمارات إلى أنقرة، وقبلها زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي، تعني أن هناك تراكما في الإنجازات في هذا الموضوع، وانفراجة ممكنة، يضاف إليها عامل آخر له صلة بالموضوع، حيث أن حالة من الانفراج سبقت هذه وهي الحوار المصري التركي، والحوار القطري المصري، لكن حجم التناقضات والصراعات عميق جدا، ويكاد يقود إلى اعتقاد بأن الخلافات لن تنتهي، وربما لا نرى انفراجات كبرى، لكن ما نجده أمامنا هو استعداد من الجميع لما هو مقبل، وإدراك مشترك لحجم الأخطار المقبلة. وبالتالي إذا كانت هنالك فرصة لإغلاق هذه الخلافات، أو انتهاج نوع من أنواع التكتيك السياسي، الذي يسمح له بتخفيف الخطر المقبل في ظل فكرة التوظيف السياسي، فليكن ذلك. فهل تسير الإمارات في هذا الاتجاه؟
يقينا واجهت أبوظبي تداعيات كبرى في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص.. خلافات متعددة مع دول إقليمية مهمة… ووضعا أمنيا سيئا في كل المناطق التي تصارعت فيها مع أنقرة، من اليمن إلى ليبيا إلى كل الملفات الأخرى التي حشدت فيها إمكاناتها، كذلك الوضع الجديد في أفغانستان بالتالي تصبح فكرة التوظيف السياسي فكرة مهمة وكبيرة، ويكون التحرك لإغلاق الملفات ذا جدوى سياسية، وفيها منافع أمنية أيضا. وهذا الذي يفسر الان أن المحرك الأساسي هو الأمن، وليس الدبلوماسية ولا الاقتصاد. فدول الشرق الأوسط غالبا ما يقود سياساتها ويشكلها الأمن وليس العكس. بمعنى أن هذه الدول ليست الدبلوماسية هي التي تصنع شكل السياسة فيها، بل الأمن هو الذي يصيغها، من هنا نجد أن المنطقة اليوم لديها توجس أمني وخوف من فكرة ما هو مقبل، ووجود شكوك في طبيعة تصرفات وتوجهات كل هذه الدول، وبالتالي إذا استطاعت أنقرة وأبوظبي أن تعيدا فكرة صفر مشاكل، أو في أضعف الإيمان التفاهم وفتح القنوات الأمنية في التعاون الأمني، قد تكون أجدى للمرحلة المقبلة.
لا شك في أن هناك واقعا جديدا يتشكل في المنطقة، فرضه فقدان شهية الولايات المتحدة للخوض في الخلافات البينية. كما أن الجغرافيا حاضرة وتفرض نفسها، وهذا الواقع الجيوسياسي يلزم الإمارات وتركيا وغيرهما التعاون وحل الملفات العالقة، وبالتالي الذهاب إلى السياسة الواقعية والتعاطي بطريقة مختلفة، وإيجاد أرضية من التفاهمات لأن الجميع على تماس مع بعضهم بعضا.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية