لماذا تتجاهل دور النشر الروسية أعمال عبد الرزاق غورناه؟
انتعشت حركة الترجمة إلى الروسية من اللغات الأجنبية في العهد القيصري، رغم وجود بعض التابوهات السياسية والدينية، خاصة في ما يتعلق بالقيصر أو الكنيسة. وازدهرت هذه الحركة في العهد السوفييتي، وبلغت ذروتها في أواخر فترة «البريسترويكا» بعد إلغاء الرقابة على المطبوعات، حيث بدأ نشاط ترجمي محموم لترجمة الأعمال الأدبية الأجنبية، التي كانت محظورة في البلاد سابقا، وكانت ترجمات متكافئة، رفيعة المستوى.
عنوان
لكن إلغاء دور النشر الحكومية العملاقة، مثل «بروغريس» و«رادوغا» و«مير» وغيرها، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور عدد كبير من دور النشر التجارية الخاصة، أدى إلى انخفاض جودة الترجمات الأدبية بشكل عام، وارتفاع أسعار الكتب، وامتلأ السوق بترجمات الكتب الترفيهية الخفيفة، خصوصاً الروايات البوليسية، والأيروتيكية، والمغامرات المثيرة، وما إلى ذلك من روايات سطحية، هزيلة القيمة الفنية، بغية استرضاء جمهور واسع من القراء، الذين يقرأون لإراحة الأعصاب من القلق والتوتر، ونسيان متاعب الحياة. وترفض هذه الدور منذ ذلك الحين نشر الأعمال الأدبية الجادة، ذات القيمة الأدبية والجمالية الرفيعة بدعوى عدم رواجها. وبعد أن كانت الترجمة في العهد السوفييتي تتم من عدد كبير من لغات العالم، من قبل مترجمين أكفاء، بينهم بعض كبار الأدباء الروس، فإن أغلب الترجمات، تتم اليوم من اللغة الإنكليزية وتشمل في المقام الأول روايات ذات حبكات بسيطة، تنطوي على توابل التشويق المألوفة. وتدفع دور النشر لقاءها أجورا جيدة نسبيا. وقد شجّع الطلب المتزايد على المترجمين من الإنكليزية، العديد من غير المتخصصين على خوض غمار الترجمة الأدبية من هذه اللغة تحديداً، ما أدى إلى تدني مستوى الترجمة. لكن الناشرين الروس اليوم، لا يعنيهم سوى كسب أقصى حد ممكن من الأرباح، بصرف النظر عن مدى جودة الكتب المترجمة.
لماذا يتجاهل الناشرون الروس أدب غورناه
رغم مضي فترة زمنية غير قصيرة على إعلان فوز عبد الرزاق غورناه بجائزة نوبل في الأدب لعام 2021 لم تسع أي دار نشر روسية إلى الحصول على حقوق ترجمة ونشر، ولو رواية واحدة من رواياته. وقوبل هذا الفوز بصمت غريب، باستثناء نشر خبر الفوز، وبعض التعليقات السلبية لنقاد لم يقرأوا شيئا من كتاباته. في حين هلل هؤلاء النقاد لفوز الكاتبة هيرتا مولر بجائزة نوبل في الأدب لعام 2009 ونشروا عنها وعن أدبها خلال مدة وجيزة مقالات ودراسات أدبية كثيرة، وسارعت دور النشر الروسية إلى الحصول على حقوق نشر أعمالها بالروسية، رغم أن رواياتها تتناول أحداثا وقضايا لا تختلف كثيرا عن تلك التي تناولتها روايات غورناه. كما أن هذا الأخير يتميز عن مولر بطرح رؤى عميقة لضياع المهاجرين وطالبي اللجوء بين عالمين مختلفين في الثقافة، والقيم الاجتماعية، وطرق العيش، وما يواجهونه من صعوبات وتمييز عنصري.
كيف يمكن تفسير هذا التجاهل للكاتب الذي تتصدر أعماله اليوم لوائح الكتب الأكثر رواجأ في العديد من الدول الغربية، وتتسابق دور النشر فيها من أجل الحصول على حقوق نشرها؟
أعمال غورناه غير معروفة في روسيا، ولم يترجم أي منها إلى الروسية لحد الآن. ولم يرد ذكره حتى في مقالات النقاد الروس المكرسة للأدباء البريطانيين المسلمين، لكن ثمة كتاب كبار في العالم لم تترجم أعمالهم أيضاً إلى الروسية قبل فوزهم بجائزة نوبل. ففي عام 2012 عندما فاز الكاتب الصيني مو يان، بجائزة نوبل كان معروفا، وذائع الصيت في الغرب، بفضل ترجمة العديد من رواياته إلى الإنكليزية والألمانية واللغات الأوروبية الأخرى. وكلها روايات متعددة الأبعاد بمعالجات أدبية متميزة، لكنها كانت شبه مجهولة للقارىْ الروسي. وبعد فوزه بالجائزة تنافست دور النشر الروسية في ما بينها من أجل الفوز بحقوق ترجمة أعماله، أي أن عدم ترجمة أعمال غورناه إلى الروسية قبل فوزه بجائزة نوبل، ليس مبررا أو سببا مقنعا لعدم ترجمة أعماله لاحقاً. ويبدو لي أن السبب الرئيسي لتجاهل الناشرين الروس لأعمال غورناه، كون كتاباته تتناول محنة النازحين من بلدانهم، وهي محنة باتت بعيدة عن اهتمامات القرّاء والناشرين الروس.
أعمال غورناه غير معروفة في روسيا، ولم يترجم أي منها إلى الروسية لحد الآن. ولم يرد ذكره حتى في مقالات النقاد الروس المكرسة للأدباء البريطانيين المسلمين، لكن ثمة كتاب كبار في العالم لم تترجم أعمالهم أيضاً إلى الروسية قبل فوزهم بجائزة نوبل.
وقال بعض الناشرين في تبرير هذا التجاهل أن أعمال غورناه ثقيلة ومملة. والمعنى المبطن لهذا الوصف بينها غير مسلية، لكن الأعمال الأدبية الجادة ذات المستوى الفني الرفيع لا تكتب لتسلية القارىْ. لقد أفسد النقّاد الروس الذائقة الأدبية للقارىْ العادي بكيل المديح لروايات الإثارة والعنف والجريمة والدم، التي تصدر عن دور النشر التي يعملون لصالحها. وادعى ناقد روسي، أن مضامين أعمال غورناه، لا تنتمي إلى الأدب الإنكليزي، وإن كانت مكتوبة بالإنكليزية. وهذا غير صحيح بالطبع، فهناك روايات إنكليزية عديدة تتناول محنة النازحين، منها مثلاً رواية جوزيف كونراد المعنونة «قلب الظلام». البطل الرئيسي فيها شاب ذو بشرة داكنة من زنجبار، أجبر على الذهاب في رحلة استكشافية صعبة ومتعبة نفسيا إلى وسط افريقيا على غرار بطل أشهر روايات غورناه وهي «الجنة». كان الناشرون الروس يتوقعون أن تفوز الكاتبة الروسية لودميلا أوليتسكايا – وهي أبرز كاتبة روسية معاصرة ـ بجائزة نوبل في الأدب لهذا العام. وقد خاب أملهم وعبروا عن استيائهم من موقف الأكاديمية السويدية السلبي نحو هذه الكاتبة الكبيرة وحرمانها من نيل جائزة مرموقة تستحقها عن جدارة، رغم أنها كانت مرشحة للفوز بهذه الجائزة على مدى السنوات الست الماضية (2015- 2021) حسب توقعات العديد من وسائل الإعلام الروسية والعالمية.
ويرى البعض من هؤلاء الناشرين، أن عدم منح الجائزة لأوليتسكايا يرجع إلى نظرة الدول الغربية إلى نظام الرئيس بوتين، ما يلقي بظلالها على هذه الكاتبة المبدعة. تجاهل أعمال غورناه في روسيا لن يستمر طويلا، ولن يؤثر بعد اليوم في مكانته الرفيعة في الأدب العالمي، وستترجم إلى الروسية إن عاجلا أم آجلاً. فالأوساط الأدبية في بلدان العالم المختلفة تتحدث اليوم عن أعمال هذا الكاتب الكبير، وقد نشرت عنه وعن أدبه ـ منذ فوزه بنوبل – مقالات وتعليقات لا حصر لها. منها على سبيل المثال ما قالته الكساندرا برينجل – الناشر التنفيذي في دار نشر (بلومزبري) التي أصدرت معظم روايات غورناه لصحيفة «الغارديان»: «إنه أحد أعظم الكتاب الأفارقة الأحياء».