لذاكرة وولادة المدن: بدو وتجار «صينيون» ومقاهٍ في رام الله
مع صدور أي كتاب جديد عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يشعر القارئ والمتابع للتاريخ الفلسطيني، أن دور هذه المؤسسة الفعلي لم يقتصر في يوم ما على حفظ تراث هذه الجماعة، بل كان دورها الأهم يتمثل في صناعة «التاريخ الجديد» حول فلسطين، وهو التاريخ الذي يصفه الراحل جاك لوغوف، باعتباره تاريخا لا يعنى بالسياسي فقط، بل هو نص يهتم بالتواريخ اليومية والاجتماعية، وهو الأمر الذي نراه مع هذه المؤسسة، من خلال تركيزها على نشر عشرات اليوميات والمذكرات التي أخذت تقدم مادة إثنوغرافية غنية ومهمة عن المدن الفلسطينية، بالإضافة إلى نشرها عشرات الكتب والدراسات التي حاولت الكتابة عن فلسطين بعيون أخرى؛ واللافت هنا أن هذا الجهد المعرفي الذي يسير في خلق سؤال بحثي آخر عن فلسطين ومدنها وحياة الناس فيها، لن يبقى سؤالاً محلياً (فلسطينيا) بل يمكن القول أيضا إن ما تفعله المؤسسة من طرح لأفكار ومصادر وتقاليد في الكتابة بات يصلح أن يكون نموذجا يحتذى به من قبل الباحثين العرب، الذين يعيش قسم كبير منهم اليوم في الظروف ذاتها تقريبا، التي عمل بها الباحثون الفلسطينيون، على صعيد إبادة الأماكن التي ولدوا فيها، جراء حروب ما بعد الانتفاضات العربية، وكذلك على صعيد الشعور بالحاجة لخلق أو جمع ذاكرة أخرى عن مدن مثل دمشق وحلب وبيروت وبغداد.
ومن بين الكتب الأخيرة الصادرة عن المركز، التي تبين هذا الجهد في كتابة تاريخ آخر لفلسطين، هو كتاب «المدينة الفلسطينية.. قضايا في التحولات الحضرية» تحرير مجدي المالكي وسليم تماري، الذي يضم مجموعة من الأبحاث التي تتناول تاريخ المدن الفلسطينية في القرن العشرين، وما عرفته من تطورات على صعيد الحيز المديني في فترة العثمانيين والبريطانيين، ولاحقا في ظل السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، التي أعادت تشكيل ذاكرة المدينة والفضاء، وكانت سببا في تحول بعض البلدات لاحقاً إلى مدن جديدة بديلة عن المدن القديمة؛ فالتحول الحضري كما يراه محررا الكتاب ليس سيرورة معزولة، بل ينبغي تحليلها في سياق علاقتها بأنماط وآليات التغير المتعددة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. وربما من الأشياء المهمة في هذا الكتاب، هو الأسلوب الذي اتبعه البعض في الكتابة عن بعض المدن، إذ ظهرت هذه المدن من خلالهم عبر أوراق أشخاص ويوميات بائعين ومذكرات رحالة، كما ظهرت بداياتها أحياناً من خلال رسائل المسؤولين المحليين مع الإدارات المركزية، وهو تقليد كتابي عودتنا عليه المؤسسة، كما تميز الكتاب بمشاركة باحثين من تخصصات مختلفة، فالكتابة عن تاريخ المدن اليوم لم يعد حكراً على المؤرخين فقط، بل أخذ يجذب العديد من الأنثروبولوجيين والمعماريين والفنانين والروائيين وحتى العامة.
بئر السبع سيرة بلدة بدوية
يحاول المؤرخ أحمد أمارة في إحدى الدراسات إعادة كتابة بدايات تشكل بلدة بئر السبع في الحقبة العثمانية. وعلى الرغم من أن مشروع البلدة كان يهدف إلى توطين البدو، مع ذلك فإن الحكومة المركزية العثمانية اضطرت باستمرار إلى التفاوض مع القادة المحليين، وهو ما بدا عندما سمحت بتعيين خمسة أعضاء، بدلاً من أربعة في المجلس الإداري، لتحقيق تمثيل أفضل للقبائل الخمس في بئر السبع.
وكان موقع البلدة الجديدة ضمن أراض تعود إلى عائلة المحمديين من قبيلة العزازمة. وقد قررت الحكومة العثمانية شراء 2000 دونم عثماني منهم ودفعت ليرة مجيدة في مقابل كل دونم، وقام المجلس البلدي في بئر السبع بفرز الألفي دونم إلى قطع، مساحة كل منها دونم واحد قبل أن يبدأ بيعها، ونظرا إلى الاتساع النسبي لقطع الأراضي، بدت غالبية البيوت في البلدة واسعة ولها حدائق.
يحاول المؤرخ أحمد أمارة في إحدى الدراسات إعادة كتابة بدايات تشكل بلدة بئر السبع في الحقبة العثمانية. وعلى الرغم من أن مشروع البلدة كان يهدف إلى توطين البدو، مع ذلك فإن الحكومة المركزية العثمانية اضطرت باستمرار إلى التفاوض مع القادة المحليين، وهو ما بدا عندما سمحت بتعيين خمسة أعضاء، بدلاً من أربعة في المجلس الإداري، لتحقيق تمثيل أفضل للقبائل الخمس في بئر السبع.
في المقابل، أنشئت المباني العامة في المدينة، كالمسجد والسرايا، وجرى تشجيع البدو على الانتقال من خلال منحهم الأراضي ومبان أخرى. وفي عام 1906 نلاحظ توسع المدينة لتشمل مكتبا للبريد والتلغراف وسينما ومبنى مدرسة وآخر لتخزين المياه، وعلى الرغم من التخطيط لها بوصفها بلدة بدوية، فإن البلدة جذبت التجار والمهنيين من غير البدو، ومعظمهم من غزة والخليل، مثل عائلات بسيسو والحسيني وجرادة وشعث، وهو ما نراه أيضا من خلال إحدى أوراق الطابو العائدة لأبو خليل محمد أفندي رصاص، التي تبين شراءه منزلا وثلاثة دكاكين وبستانا، ويظهر في الوثيقة نقولا سبانخ من يافا أحد الجيران الملاصقين لرصاص، كما نلاحظ في هذه الفترة الدور الذي لعبه المعلمون المرسلون من قبل متصرفية القدس في حياة البدو، إذ أخذوا يجولون في مناطقهم لتعليمهم الصلاة، وهذا التطور الحضري في البلدة، سنراه لاحقاً في رسالة كتبها أحد السياسيين والروائيين العثمانيين الذين أقاموا في بئر السبع، ونشر مذكرات في سلسلة اسمها «مذكرات الصحراء» إبان الحرب العالمية الاولى، إذ كتب يومها أن الشوارع بقيت مضاءة حتى الساعة التاسعة مساء.
حيفا الجديدة:
مع دخول فترة الانتداب ولاحقا تشكل إسرائيل وسيطرتها على المجال العام الفلسطيني، كانت المدن الفلسطينية تشهد تغيرات جوهرية على صعيد المكان وذاكرته، وحتى على مستوى التطورات الحضرية لاحقا، وهو ما حاولت رصده بشكل جيد الباحثة همت الزعبي من خلال دراستها حول «حيفا الجديدة» وتحويلها إلى مدينة إسرائيلية. تبدا الزعبي دراستها من خلال رسائل أحد التجار (من عائلة البوتاجي) والذي سيوجه عشية الانسحاب البريطاني من حيفا رسالة لسلطة الانتداب يطالبهم فيها بالسماح له بالوصول إلى مقر شركته بعد إزالة الحواجز أمامها، وبعد أسبوعين تقريبا من هذه الرسالة، كتب بوتاجي رسالة أخرى يخاطب فيها المحامي يعقوب سالمون ضابط الاتصال بين الهاغانا والبريطانيين، طالبا فيه السماح له بزيارة مزرعته في تل إميل، وانطلاقا من هذه الرسائل تحاول الزعبي دراسة تطورات الواقع المكاني والحيز الجديد، الذي فرض على الفلسطينيين في مدينة حيفا مباشرة بعد النكبة، وإعلان إقامة دولة اسرائيل، وفي هذا السياق ترى المؤلفة أنه لا بد من العودة لماضي المدينة لفهم هذه التطورات بشكل أوضح. وخلال رحلة العودة هذه نقف أمام حيفا الجديدة التي بنيت سنة 1753 على يد ضاهر العمر، الذي طلب استبدال حيفا العتيقة التي كانت تقع في منطقة مفتوحة وتفتقر إلى مقومات الدفاع إلى مكان أكثر أمنا؛ وقد أقيمت المدينة الجديدة على بعد ثلاثة كيلومترات شرقا، في المنطقة التي تشكل فيها المسافة الأضيق بين البحر وجبل الكرمل. لاحقا، ستعرف المدينة مع نهاية القرن التاسع عشر نشاطاً اقتصاديا أوسع، وهو ما سيظهر بشكل أكثر وضوحا خلال الفترة 1900 ـ 1914، وقد انعكست هذه التطورات في سيرة عائلة بوتاجي، وهي إحدى العائلات المعروفة في المدينة قبل سنة 1948، فقد ولد سيروفيم الأب سنة 1836، وفي السنة نفسها التي هاجر فيها والداه بطرس وفرانسيسكا من بورسعيد ليستقروا في عكا، خلال فترة السيطرة المصرية على فلسطين، وقد تزوج سيروفيم لاحقاً من عفيفة خير الله في سنة 1855 وانتقل للعيش في حيفا، وكان لازدهار المدينة في تلك الفترة دافع مركزي لانتقال سيروفيم للعيش فيها. وولد الابن ثيوفيل سيروفيم بوتاجي مؤسس شركة بوتاجي سنة 1870.
مع حلول نهاية الحرب العالمية الأولى سكن المسلمون القطاع الشرقي من حيفا «الحلة الشرقية» والمسيحيون في «الحلة الغربية» كما اشترى مجموعة من يهود سوريا ولبنان والمغرب قطعة أرض بمساحة 60 دونما، وعملوا على بناء حي مستقل وتشاركوا مع الفلسطينيين جميع النشاطات والحيز العمومي للمدينة، لكن في فترة الانتداب تطلع المستعمرون الأوروبيون من الأشكناز القادمين من شرق أوروبا إلى مزيد من الانفصال عن المجموعة العربية، وهو ما ظهر من خلال إنشاء أحياء جديدة هيرتسليا 1909 هادار كرميل 1920، بات غاليم 1923، وهنا أخذ دور اليهود المحليين يتراجع لصالح اليهود المستعمرين، مع ذلك حاول البريطانيون في هذه الفترة أن تبقى حيفا مدينة مختلطة، كما أن هذه الفترة عرفت ازدياداً في أعداد السكان العرب وتنوعهم، وفي تشكل طبقة وسطى عربية، وفي زواج عابر للجغرافيا وهو ما ظهر في سيرة عائلة بوتاجي، إذ تزوج الأب ثيوفيل بوتاجي من عفيفة ابنة قس لاجئ من سوريا (القس حنا الدمشقي) كما أن انفتاح حيفا جعلها تستضيف المثقفين والفنانين من الدول المجاورة، وكان أبرزها عروض فريد الاطرش وأسمهان وأم كلثوم، لكن هذا المشهد سيتعرض لتطور سلبي مع قدوم المشروع الصهيوني بعد عام 1948 من خلال إصدار السلطات الإسرائيلية لأوامر حول تركيز الفلسطينيين المتبقين في حيفا في منطقة واحدة (حي وادي النسناس وشارع عباس) كما عملوا على هدم الجزء القديم من المدينة من خلال عملية (شيكمونا) وبذلك كان الإسرائيليون يعيدون تشكيل المكان وذاكرته، ما دفع بجزء كبير ممن تبقى إلى مغادرتها لاحقاً، ففي إحدى رسائل إميل بوتاجي في 1 نيسان/ إبريل 1949 يطلب من وزير الشرطة مساعدته في بيع أملاكه وتسهيل سفره إلى كاليفورنيا.
وتبقى الإشكالية في كتابة تاريخ هذه المدينة كما ترى تراكي أن أبناءها في المجمل لم يتركوا مذكرات أو أوراق شخصية أو مقالات رأي في الصحافة المحلية الناشئة، ولذلك حاولت سد هذه النقص من خلال إعادة تجميع سير بعض العائلات، والاعتماد على ذاكرة بعض المغتربين والقاطنين في المدينة.
تجار على حدود الصين
ولأن الحيز الحضري هو نتاج دور عدد من العوامل والقوى المحلية، يحاول الباحثان باسل ريان ومجدي المالكي دراسة دور التجار الفلسطينيين الجدد المستوردين من الصين في تعزيز المظاهرة الحضرية داخل إحدى البلدات الفلسطينية ( قراوة بني حسان/ محافظة سلفيت)؛ فبعد عام 1967 اضطر القسم الأكبر من أبناء البلدة للعمل في إسرائيل، ومع فترة الثمانينيات توجه بعض هؤلاء العمال إلى إنشاء مشاريع خاصة بهم، مستفيدين من مصادر الدخل المرتفعة والخبرة المهنية التي اكتسبوها، وفي الغالب جاءت هذه المشاريع مشابهة لتلك التي عرفوها في داخل إسرائيل (تصنيع الرخام) ما خلق نوعا من التفكير الاستثماري لدى سكان البلدة، ولذلك لم ينخرط في صفوف الوظيفة الحكومية سوى عدد قليل منهم. لاحقا سيطور بعض سكان البلدة من أعمالهم عبر الاستيراد من الصين، ما ساهم في تعزيز تحول اقتصاد البلدة إلى اقتصاد تجاري بالدرجة الأولى، كذلك اجتذب هذه النشاط مستثمرين وموظفين وعمالا من مناطق متعددة من الضفة العربية مثل الخليل ونابلس ونشأت فيها أنواع متعددة من الاستثمارات أغلبيتها خدماتية كالمطاعم والمخابز ومحلات الحلويات، كما ظهرت سلوكات استهلاكية مغايرة مثل أنماط الاستهلاك المرتبطة بحقل الزواج أو التخرج أو عبر اقتناء السيارات الجديدة.
رام الله.. من قرية صغيرة لمدينة المقاهي
ومن بين الدراسات المهمة في الكتاب، تلك التي تتعلق بتاريخ مدينة رام الله، إذ حاولت السوسيولوجية ليزا تراكي دراسة صعود طبقة وسطى في المدينة بدايات القرن العشرين، في سياق كتابة التاريخ الاجتماعي للبلدات الصغيرة. تكشف لنا الباحثة أن مدينة رام الله كانت قد دخلت القرن العشرين كبلدة ذات أغلبية مسيحية واقتصاد تطغى عليه زراعة الزيتون والعنب ووجود بعض المهن، وكانت بلدة صغيرة وطبقتها الوسطى الناشئة ذات طابع مختلف عن تلك التي تنمو في مدن الساحل والقدس، إذ لم يتبن أفراد هذه الشريحة رسالة اجتماعية وسياسية في الحيز العام، ولم يشاركوا في المنتديات العامة أو يتبنوا خطاباً حداثيا أو إصلاحيا على غرار خليل السكاكيني ونجيب نصار .وتبقى الإشكالية في كتابة تاريخ هذه المدينة كما ترى تراكي أن أبناءها في المجمل لم يتركوا مذكرات أو أوراق شخصية أو مقالات رأي في الصحافة المحلية الناشئة، ولذلك حاولت سد هذه النقص من خلال إعادة تجميع سير بعض العائلات، والاعتماد على ذاكرة بعض المغتربين والقاطنين في المدينة، ومما تلاحظه الباحثة في هذا السياق أنه مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت البلدة على موعد مع ظهور شريحة وسطى بفعل عوامل عديدة منها، التفاعل مع المؤسسات المسيحية التبشيرية، من خلال التعليم والانخراط في تجارة وصناعة السياحة الدينية المسيحية، فعلى صعيد التعليم تظهر سير عائلات المدينة أن أفراد عائلات (الحددة) وهم أحد التكتلين الرئيسيين في البلدة (مع تكتل الحمائل) كانوا يميلون إلى التعلم في الكلية الإنكليزية في القدس أو الكلية البروتستانتية في بيروت، وعلى صعيد المهاجرين لم يكن العائدون من أبناء هذه البلدة من أمثال العائدين من الأغنياء الجدد في بيت لحم الذين لعبوا دورا على مستوى صناعة ثقافة بورجوازية، بل كانوا جزءا من الطبقة العاملة الأمريكية، لكن تحويلاتهم المالية ساهمت في تراكم الثروة في البلدة وفي تحولها إلى مكان لاصطياف أهالي يافا وحيفا .
ومع النكبة ستتحول المدينة لشيء آخر، وهو ما سيكون محل دراسة من قبل المعماري والأنثروبولوجي خلدون بشارة، إذ برزت البلدة، كما يرى الباحث كعاصمة فعلية غير معلنة لفلسطين في ضوء اتفاقية أوسلو، الأمر الذي أدى إلى ازدهار العقارات لاستيعاب النمو السريع، فجذبت البلدة الصغيرة سكان المناطق الريفية والمراكز الحضرية الأخرى في فلسطين لتصبح مدينة الأمل والإمكانات للعمال، كما ترافق هذا التطور مع تشكل صورة جديدة عن فلسطين، تظهر رام الله كمركز للتطور الاقتصادي مقابل مدينة غزة الفقيرة. ويخلص المؤلف إلى أن النمو الحضري في المدينة اليوم هو عملية لا نهاية لها من البناء والتفكيك للحيز والأشياء، وتداول مستمر للأجساد والأفكار ورأس المال، فما أن يغلق مقهى حتى تفتتح عشرات المقاهي الأخرى، ما خلق بالمقابل حالة من هوس الحنين تجاه الماضي، وهو الأمر الذي نعثر عليه من خلال رسالة وجهها أحد الأسرى إلى محافظ المدينة بعنوان «رام الله مدينة لا تعرف الحب» يرى فيها أن المدينة باتت بالنسبة له غريبة ومنفرة وغافلة، تتماشى مع إرادة المحتل في صناعة الطاعة والخضوع، فرام الله اليوم حسب رسالة هذا الأسير قد غدت مدينة دون إحساس، ومجرد كتلة من الباطون والحصى والإسمنت.