الهجرة والتظاهرات خيار العراقيين لرفض الواقع المرير
بغداد ـ «القدس العربي»: مؤشرات تدهور أوضاع الحريات ومتطلبات المعيشة في العراق، ما زالت تتوالى، من خلال تصاعد إقبال العراقيين، وبشكل لافت على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا رغم كل المخاطر، ومع خروج تظاهرات الطلبة في إقليم كردستان، إضافة إلى تجدد التظاهرات في بغداد ومدن جنوب العراق لإحياء ذكرى شهداء انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر 2019.
فضيحة الهجرة
وجاءت ظاهرة توافد آلاف العراقيين مؤخرا، على الهجرة غير الشرعية نحو دول الاتحاد الأوروبي، لتثير تساؤلات عن مبررات قيام المهاجرين بدفع آلاف الدولارات وتحمل مخاطر السفر والهجرة وقطع مئات الكيلومترات في الغابات الباردة والبحار الخطيرة، متخلين عن وطنهم وسعيا وراء أمل إيجاد «مستقبل أفضل» لهم ولأبنائهم في أوروبا.
وقد تابع العراقيون والعالم، رحلة المهاجرين العالقين عند الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، المستمرة حتى الآن، وكذلك رحلات زوارق التهريب بين فرنسا وبريطانيا، والتي واجهوا خلالها معاناة حقيقية، ليس من خلال الطقس القاسي البرودة ونقص الطعام والدواء، وخاصة بالنسبة للأطفال والنساء وكبار السن المشاركين في المحاولات، بل وبسبب سوء المعاملة من القوات الأمنية لتلك البلدان مع المهاجرين، التي أسفرت عن موت العشرات وإصابة المئات، وعكست سلوكا بعيدا عن القانون الإنساني الدولي وادعاءات احترام حقوق الإنسان واستخفافا بمعاناة الناس والظروف التي أجبرتهم على خيار الهجرة.
وبالنسبة إلى حكومتي بغداد وإقليم كردستان، ومن أجل التغطية على مسؤوليتيمها في هذه الأزمة، وسكوتهما عن جعل مواطنيهما وقود خلافات سياسية بين الدول الأوروبية، فإن تعاملهما مع أزمة المهاجرين، تركز على ممارسة الضغط لإعادة المهاجرين العالقين عند الحدود الأوروبية، والذين فروا من الأوضاع المتدهورة في العراق. ولهذا الغرض نظمت الحكومة العراقية جسرا جويا لنقل المهاجرين وإعادتهم إلى العراق، حيث تمكنت من إعادة نحو 1500 منهم، فيما لا يزال الآلاف يفضلون البقاء هناك وتحمل معاناة البرد والمخاطر، على العودة إلى العراق الذي أصبح بالنسبة لهم «جهنما» حسب قولهم.
وقد جرى الكشف عن ضحايا هذه الأزمة الإنسانية، حيث أكدت مؤسسة لوتكة «القمة» المعنية بشؤون الهجرة والمهجرين في كردستان ان 10 إلى 11 من ضحايا حادث غرق القارب المطاطي في القناة الإنكليزية «المانش» والذي أدّى إلى مصرع 27 شخصاً، هم من الكرد. فيما تقدر وسائل الإعلام البولندية أن ما لا يقل عن 12 شخصاً لقوا حتفهم حتى الآن على جانبي الحدود بين بولندا وبيلاروسيا.
وكان لافتا ان أغلب المهاجرين حاليا هم من إقليم كردستان العراق، الذي تتباهى حكومته بكون الأوضاع فيها أفضل بكثير من بقية مناطق العراق، بينما أكد العديد من المهاجرين الذين أجرت وسائل الإعلام لقاءات معهم، انهم اختاروا الهجرة للبحث عن حياة تتوفر فيها الكرامة والحرية والعيش الكريم الذي يفتقدونه في وطنهم.
وضمن تبريرات حكومتي بغداد وأربيل، لأسباب استمرار حالة الهجرة منها، فإنهما ألقتا المسؤولية على شبكات تهريب المهاجرين وعصابات الإتجار بالبشر، حيث أعلنتا إلقاء القبض على بعض العناصر من تلك العصابات، ولكنهما لم تعترفا بان فساد أحزاب السلطة ونهبها خيرات البلد، وانهيار الخدمات وتدهور الاقتصاد وقمع الحريات، هي السبب وراء يأس الشباب من البلد ومستقبله.
ولعل المجتمع الدولي أدرك متأخرا هذه الحقيقة، حيث بادرت الأمم المتحدة إلى إقامة دورات لموظفين عراقيين مؤخرا، من أجل تعزيز خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي التي تقدم للنازحين والمهاجرين العائدين، وذلك من خلال ورش تدريب أطلقها برنامج الأمم المتحدة الانمائي في العراق ومنظمة الصحة العالمية بالتعاون مع الحكومة العراقية، ركزت على وضع الصحة النفسية، وفهم الإسعافات النفسية الأولية، والصحة النفسية في مواجهة الأزمات، وفهم المحن والتوترات. ولكن هذه الإجراءات تبقى محدودة التأثير مقابل تداعيات الأزمات المتفاقمة المزمنة في العراق.
تظاهرات طلبة كردستان
وبالتزامن مع ظاهرة المهاجرين الفارين من العراق، فقد انطلقت تظاهرات ضخمة لطلبة الجامعات في إقليم كردستان، واستمرت لخمسة أيام متتالية، وحضيت باهتمام القوى السياسية والحقوقية والشعبية في العراق. ورغم ان السبب المعلن لتظاهرات الطلبة هو المطالبة بإعادة صرف مخصصات الطلبة التي تم قطعها منذ أعوام رغم إدراجها في ميزانية حكومة الإقليم، وسط اتهامات لمافيات الفساد بالاستحواذ عليها، إلا ان التظاهرات عكست كذلك تذمرا من الأوضاع العامة في الإقليم، نتيجة هيمنة الحزبين الحاكمين على ثروات الإقليم وحرمان الشعب منها.
وبمجرد توقف التظاهرات، بعد وعود حكومية بإعادة صرفها، شنت القوات الأمنية الكردية، حملة اعتقالات طالت مئات الطلبة والإعلاميين، مما دفع سياسيين ومنظمات حقوقية في الإقليم، للمطالبة بوقف حملة الاعتقالات ومراعاة حق التظاهر.
وقد أكد مركز «ميترو» لحقوق الإنسان في الإقليم، ان القوات الأمنية الكردية اعتقلت نحو 300 من المتظاهرين والإعلاميين المشاركين في تظاهرات الطلبة في السليمانية، مطالبا السلطات الأمنية إطلاق سراح المعتقلين وإسقاط التهم عنهم واحترام قانون التظاهر والإعلام. وانتقد المركز صمت منظمات المجتمع المدني عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها السلطات الأمنية في الإقليم.
الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين، أكدت من جانبها، أن سلطات الإقليم مارست أقسى أنواع العنف المفرط ضد وسائل الإعلام المتواجدة في التظاهرات السلمية في السليمانية. وقال رئيس الجمعية إبراهيم السراج «إن الجهات الأمنية في الإقليم منعت وبقوة كل الصحافيين ووسائل الإعلام من إجراء أي تغطية للانتهاكات التي مارستها سلطات الإقليم في ظروف بالغة الخطورة لا تخلوا من التهديدات والعنف المفرط لوسائل الإعلام».
وضمن السياق ذاته، ذكرت «جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق» في بيان، إن القوى الأمنية اعتقلت مراسل قناة «البغدادية» وقامت باقتياده إلى جهة مجهولة، لافتاً إلى عدم تحديد الجهة التي أقدمت على اعتقال المراسل. أما وكالة «روز نيوز» الإخبارية، فأعلنت اختفاء مراسلها برهم لطيف والمصور بروا أسعد بعد ذهابهما إلى تغطية الاحتجاجات في السليمانية.
وقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات عن اعتداءات القوات الأمنية الكردية في أربيل والسليمانية على الطلبة المتظاهرين وتسجيل إصابات وحالات اختناق بين المتظاهرين، جراء إطلاق النار واستخدام قنابل الدخان.
ومع تواصل الانتهاكات، استمرت الانتقادات لحكومة الإقليم، حيث أشار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في تغريدة على «تويتر» إن «الأحداث المؤلمة الأخيرة بإقليم كردستان، ولاسيما بالسليمانية العزيزة تستدعي موقفاً مسؤولاً من الجميع لحماية السلم الاجتماعي وإيقاف التدهور» فيما أكدت رئيسة كتلة الجيل الجديد الفائزة في الانتخابات التشريعية، سروة عبد الواحد، إن «التظاهرات في أربيل والسليمانية وكلار ورانية مستمرة» منوهة إلى أن «الطلبة هم من يغيرون الواقع في المجتمع ومطالبتهم بحقوقهم وعدم التنازل عنها دليل وعيهم» مؤكدة أن «الفشل المتراكم في الإقليم سينهي حكم العوائل».
وبدوره أكد عضو حركة التغيير فرمان حسن، إن ما يحدث في كردستان جزء من استياء المواطنين من فشل الحكومة في تنفيذ مطالبهم. وقال حسن في حديث صحافي إن «القوات الحزبية المسلحة دائما ما تقمع المتظاهرين السلميين» لافتا إلى ان «حكومة كردستان لا تريد تنفيذ مطالب المتظاهرين وحلها الوحيد هو الاعتقالات والقمع والخطف». وأضاف، إن «إقليم كردستان يعاني من ضعف برلمانه لأن مواقفه مرهونة بالأحزاب الحاكمة» مبينا ان «أعدادا كبيرة من القوات تأخذ أوامرها من الأحزاب الحاكمة ومسؤوليتهم حفظ القيادات».
وقال النائب السابق عن حركة التغيير غالب محمد إن «إيرادات منافذ الإقليم تصرف للعوائل الحاكمة ولا تصل إلى المواطنين وان السلطة في الإقليم منهوبة من قبل العوائل الحاكمة وفصائلهم المسلحة». واضاف ان «هناك إطلاق نار على المواطنين وعمليات خطف بحقهم وان ما يحدث في السليمانية هو بسبب الميليشيات التابعة للسلطة الحاكمة». وأشار إلى ان «أكثر من 50 ألف شخص وصل أعداد المتظاهرين في الإقليم».
والحقيقة ان تظاهرات طلبة الجامعات في الإقليم، وكون أغلب المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي من الكرد، شكل احراجا لأحزاب الإقليم، وكشف ادعاءاتها بكون أوضاع الإقليم أفضل من باقي مناطق العراق من حيث العمران والمستوى المعاشي والأمن، رغم ما وصلت إليه الأوضاع في كردستان من تردي الواقع الاقتصادي والمعيشي، ما دفع المواطنين إلى التعبير عن رفضهم للواقع المتردي عبر وسائل متعددة منها التظاهر والهجرة.
تظاهرات بغداد
والجنوب متواصلة
ورغم إعلان انتفاضة تشرين تجميد تظاهراتها المطالبة بالإصلاح بسبب الانتخابات الأخيرة، على أمل حصول تغيير في الواقع المرير، إلا ان التظاهرات الاحتجاجية في بغداد ومدن الجنوب لم تتوقف.
فقد شهدت مدينة الناصرية جنوب العراق، تظاهرة حاشدة في الذكرى الثانية لمجزرة جسر الزيتون التي وقعت في 28 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019 عندما أطلقت القوات الأمنية النار على خيم المعتصمين، والتي راح ضحيتها نحو 500 من الشهداء والجرحى، مع تكرار مطالبة المتظاهرين بمحاسبة قتلة زملاءهم الناشطين والمتظاهرين.
وقبلها بأيام، نظمت في بغداد تظاهرة كبيرة لعائلات ضحايا التظاهرات والناشطين، رغم الإجراءات الأمنية المشددة، حيث تجمع المئات من الناشطين وعوائل الضحايا والمغيبين في ساحة التحرير، ضمن فعاليات حملة «إنهاء حالة إفلات الجناة من العقاب» ولمطالبة السلطات بالكشف عن مصير المغيبين والمختطَفين من الناشطين والصحافيين في الاحتجاجات الشعبية، إلى جانب محاسبة الجهات المتورطة بذلك، وسط استمرار عمليات الاغتيال والتغييب والاختطاف للمتظاهرين والناشطين في عموم العراق وكان آخرها اغتيال الشهداء ايهاب جواد الوزني وحيدر محمد ومهدي معلة، وآخرين.
والحقيقة ان الإجراءات الأمنية المشددة وملاحقة المتظاهرين والناشطين دفعتهم إلى إيجاد وسائل لاستمرارية الحراك الاحتجاجي، ومنها استغلال التجمعات كالمباريات الرياضية والمناسبات الدينية مثل ذكرى استشهاد الإمام الحسين، لتنظيم تظاهرات ورفع شعارات تنتقد أحزاب السلطة وفسادها وتؤكد استمرارية الانتفاضة.
وبات مؤكدا ان الهجرة والتظاهرات أصبحتا وسائل لا بد منها لرفض هيمنة الأحزاب الحاكمة في أربيل والسليمانية، التي لا تختلف عن أحزاب بغداد، من حيث الاستعداد لقمع أي حراك شعبي يعترض على تدهور الأوضاع واستمرار مافيات الفساد في الأحزاب والفصائل في نهب ثروات البلاد.