مقتدى الصدر وتجاذبات تشكيل الحكومة
ما تزال أزمة تشكيل الحكومة العراقية عصية على الحل نتيجة غياب التوافق بين قوى البيت الشيعي، وعدم اعتراف القوى الخاسرة في الانتخابات بخسارتها، وهي بهذا تصر على عدم الانصياع لآليات تشكيل البرلمان، الذي سترشح منه الحكومة المقبلة.
المفوضية العليا للانتخابات تخلصت من عبء الضغوط التي مورست عليها، وألقت الكرة في ملعب المحكمة الاتحادية، بعد أن عالجت 1346 طعنا تقدمت بها القوى الخاسرة للهيئة القضائية. وبعد أن أكمل العاملون في مفوضية الانتخابات عمليات العد والفرز اليدوي، لمئات المحطات الانتخابية التي طالتها الطعون، وقد أظهرت النتائج تطابقا يكاد يكون تاما مع النتائج الأولية، لذلك أعلنت المفوضية العليا للانتخابات النتائج النهائية للعملية الانتخابية، التي لم يطلها سوى تغيير ضئيل عن النتائج الأولية، وقد أرسلت النتائج النهائية إلى المحكمة الاتحادية في الأول من كانون الأول/ديسمبر الجاري، مع إقرار بتقدم «الكتلة الصدرية» بـ73 مقعدا، واعتبارها الكتلة الأكبر، تليها «كتلة تقدم» بـ37 مقعدا، ثم «كتلة دولة القانون» بـ33 مقعدا، وبعدها كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ31 مقعدا.
قوى وأحزاب «كتلة الفتح» أبرز الخاسرين في الانتخابات الأخيرة، التي لم تحصل إلا على 17 مقعدا، سارعت وكخطوة أخيرة إلى تقديم شكاوى للمحكمة الاتحادية قبيل استلامها نتائج الانتخابات من المفوضية، وذكر قياديون في «كتلة الفتح» أنهم قدموا للمحكمة الاتحادية «أدلة قاطعة» على خروقات دستورية شابت العملية الانتخابية، وطالبوا بإلغاء نتائج الانتخابات، وتحديد موعد جديد لإعادتها، وطالبوا المحكمة الاتحادية بعدم إقرار نتائج الانتخابات قبل البت بالطعون المقدمة للمحكمة.
التوتر والترقب الحذر شاب الساحة العراقية مع خبر إعلان النتائج النهائية للانتخابات، وانطلقت مجموعة توقعات بزيادة ضغوط جمهور «كتلة الفتح» من منتسبي الحشد الشعبي والفصائل الولائية المسلحة، الذين اعتصموا عند بوابات المنطقة الخضراء منذ حوالي شهرين مطالبين بـ»إلغاء نتائج الانتخابات المزورة» كما أعلنت منصاتهم الإعلامية، لكن لم يحدث تصعيد لافت وبقي الحال على ما هو عليه. وكان بعض التخوف ينصب على احتمال انطلاق موجة عنف واقتتال شيعي داخلي، خصوصا بعد الكشف عن محاولة اغتيال رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، بطائرات مسيرة، وقد توجهت أصابع الاتهام للفصائل الولائية المسلحة، بالوقوف خلف العملية، لكن الفصائل الشيعية المسلحة المقربة من طهران وصفت ما حصل بـ»التمثيلية الفاشلة» و»العملية المفبركة» ونفت ضلوع أي طرف أو فصيل من فصائلها بما حصل، وطالبت الحكومة بتشكيل لجنة للتحقيق في الحادث، على أن يتم تمثيل الجهات الفنية والاستخباراتية في هيئة الحشد الشعبي، في عمليات التحقيق للكشف عن الجناة وتقديمهم للعدالة. الفائزون في الانتخابات وفي مقدمتهم مقتدى الصدر، طالبوا وبقوة الكشف عن الجناة في محاولة اغتيال الكاظمي، إذ طالب زعيم التيار الصدري الحكومة بالكشف عن التحقيقات في محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. وغرّد على حسابه في منصة تويتر، قائلا، إنه «مما ينبغي عدم التغاضي عنه، هيبة الدولة، وما حدث من اعتداء على منزل رئيس مجلس الوزراء، فيه تعد واضح وصارخ على السيادة والهيبة». وقد قرأ عدد من المحللين خطوة الصدر هذه على أنها ورقة ضغط يلعبها ضد غرمائه من قوى الإطار التنسيقي، التي وجهت لها أصابع الاتهام، وإن غايته الحقيقية هي كسب النقاط في جولات التفاوض على تشكيل الحكومة. من جهة أخرى ارتفعت وتيرة التكهنات حول إمكانية الاتفاق على تشكيل الحكومة الجديدة، وحول صيغة وشكل الاتفاق على توزيع المناصب الحكومية، وعن احتمالية تشكيل حكومة أغلبية يشكلها الفائزون بالانتخابات، كما يطالب الصدريون، أو اللجوء إلى التوافقات للوصول لحكومة يشترك فيها الفائز والخاسر في الانتخابات الأخيرة، منعا لإثارة المشاكل، كما تطالب قوى الإطار التنسيقي. بعض التكهنات شطت في استقراء المشهد، إذ توقع بعض المراقبين إمكانية تشكيل ائتلاف شيعي من «الكتلة الصدرية» مع كتلة «دولة القانون» بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لتشكل كتلة شيعية تتوالى التفاوض مع الكرد والسنة على تشكيل الحكومة، على أن يتم عزل «كتلة الفتح» لتصبح معارضة برلمانية، وعلى الرغم من أن بين الصدر والمالكي ما صنع الحداد، والكل يتذكر ما بين الرجلين من الدماء التي سالت في الصراعات السابقة، إلا أن من تبنى هذا الرأي ذّكر بالدور المحوري الذي لعبه الصدر وكتلته في حصول المالكي على ولايته الثانية، في عملية الالتفاف على فوز إياد علاوي في انتخابات عام 2010.
تصريحات تشكيل الحكومة المقبلة جاءت متباينة بين تشدد الصدر في تمسكه باحتكار تشكيل حكومة أغلبية وترشيح منصب رئيس الوزراء، وتفاؤل بعض قوى الإطار التنسيقي التي تسوق لفكرة أن لا مفر من تشكيل حكومة مشاركة تشترك فيها كل القوى الشيعية. الخطوة المهمة التي توقع الكثيرون أنها ستكون بداية طريق تشكيل الحكومة جاءت في اجتماع قوى الإطار التنسيقي الشيعية مع مقتدى الصدر في بيت زعيم «كتلة الفتح» هادي العامري في بغداد يوم الخميس 2 ديسمبر الجاري. وبدا واضحا، من الفيديو المعلن لهذا الاجتماع، التوتر الذي لاح على الوجوه المكفهرة للمجتمعين، التي قرأت على أنه لا اتفاق ممكن أن يتحقق في هذا الاجتماع. إلا أن التصريحات الأولية جاءت متفائلة بالوصول إلى اتفاقات إيجابية في حلحلة حالة الانسداد السياسي في تشكيل الحكومة خلافا للتوقعات. إذ صرح فادي الشمري القيادي في تيار الحكمة، الذي يقوده عمار الحكيم يوم 2 ديسمبر الجاري بالقول، إن «المجتمعين قرروا أن يكون رئيس الوزراء القادم توافقيا، والوزراء استحقاق انتخابي» وبين الشمري أن «الاجتماع تناول الحديث عن الخروج برؤية موحدة لمعالجة الانسداد السياسي، وأن المجتمعين اتفقوا على أن لا يكون هذا الاجتماع الأخير، بل هو مفتاح للقاءات أخرى يتم الاتفاق فيها على النقاط الخلافية بين القوى الشيعية، وإن هذا الاجتماع سيمهد لتشكيل لجان تنسيقية تناقش التفاصيل المتعلقة بتشكيل الكتلة الأكبر».
ما تزال أزمة تشكيل الحكومة العراقية عصية على الحل نتيجة غياب التوافق بين قوى البيت الشيعي، وعدم اعتراف القوى الخاسرة في الانتخابات بخسارتها
كما صرحت النائبة عالية نصيف من «كتلة دولة القانون» بهذا الاتجاه، إذ قالت «لا يمكن التحدث عن حكومة أغلبية في ظل مشاركة سنية وكردية، لتصبح الأغلبية في الطرف الشيعي فقط» وأضافت نصيف في تصريحها الإعلامي بعد اجتماع القوى الشيعية «من الصعوبة الوصول إلى حكومة الأغلبية، وأن الأغلبية يجب أن تكون في كل الأطراف كي تسمى أغلبية. وإن حكومة الأغلبية يجب أن يشارك فيها جزء من الكرد وجزء من السنة». ودافعت عن النمط السابق في تشكيل الحكومات منذ 2005 بقولها، إن «الحكومة التوافقية ستتميز بتقليل التنازلات من قبل أي طرف من الأطراف». وأشارت إلى أن «الرئاسات الثلاث ستحسم باتفاق بين القوى السياسية». لكن سرعان ما صرح حسن العذاري القيادي في التيار الصدري ناسفا هذا التفاؤل، إذ قال في تغريدة على حسابه الرسمي في منصة تويتر، إن «أهم ما جاء في لقاء القائد الصدر مع قوى الإطار التنسيقي، هو: أنه لا بد من حكومة أغلبية وطنية، وإن الحكومة يجب أن تكون حكومة أغلبية وطنية لا توافقية محاصصاتية على الإطلاق، مع التأكيد على أن محاربة الفساد من أولوياتنا وأهدافنا التي لن نتنازل عنها، وبذلك يكون القائد مقتدى الصدر قد وضع جميع النقاط على الحروف بنقاش صريح هدفه مصلحة العراق لا غير».
من جانبها بينت قوى الإطار التنسيقي موقفها من مجريات اجتماع بيت العامري، وجاء ذلك في بيان رسمي ورد فيه «استقبل قادة الإطار التنسيقي اليوم الخميس 2 كانون الاول 2021 زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في منزل هادي العامري، لمناقشة القضايا العالقة وآخر مستجدات الوضع الراهن، تعزيزاً لروابط الوحدة والإخاء بين أبناء الوطن الواحد، وبما يخدم مصلحة الشعب العراقي التي هي أولوية لجميع الأطراف» وركز غرماء الصدر من القوى الشيعية المنافسة له على عدد من القضايا في بيانهم، منها: «التأكيد على خروج القوات الأجنبية وفق الجدول الزمني المعلن، ووضع آليات كفيلة بحصر السلاح بيد الدولة». وردا على مطالبة الصدر بحل، أو إعادة هيكلة فصائل الحشد، أكد البيان على «حماية الحشد الشعبي ودعمه وتنظيمه بما يعزز دوره في حفظ الأمن في العراق» وأضاف البيان التأكيد على «تجريم التطبيع وكل ما يتعلق به، والعمل المشترك للحفاظ على ثوابت الشعب العراقي في التصدي للانحرافات الاخلاقية والاجتماعية وفق الأطر القانونية».
بيانات التيار الصدري والإطار التنسيقي أضمرت بقايا التوتر في مواقفهما وعدم الوصول إلى انفراج حقيقي لحل الانسداد السياسي الحاصل، ليبقى الواقع العراقي يراوح لأمد غير معلوم في تجاذبات تشكيل الحكومة المقبلة.