نديم عيسى الجابري يبحث عن العراق في بطون التاريخ
جذور الدولة الحديثة ومقوّمات بقائها وتحدياتها
احمد عبد المجيد
سيظل الحفاظ على الهوية الوطنية العراقية شاغل المفكرين والباحثين . ومنذ اقامة الدولة عام 1921 ظلت الاراء تتباين بشأن سلامة الدولة الحديثة وعمق جذورها، وممكنات استمرارها، وسط تيارات سياسية عاتية تضرب جدران العراق وتهدد حدوده وتقوض لحمته الاجتماعية، تمهيدا لاسقاطه كليا، والقول بما معناه ان هذه الدولة لاتملك المقومات السيادية والمكونات الاجتماعية التي تؤلف كيان الدولة الحديثة الراهنة.
ويحاول البرلماني السابق والباحث الدكتور نديم عيسى الجابري ان يصارع الطروحات او يطوعها للقول بمدنية الدولة وعمق جذورها ووحدة مكوناتها، منذ مقدمات دولة النبي نوح وانتهاء بولادة الدولة العراقية الحديثة، التي نشأت اثر مخاضات واحتلالات وخيارات خارجية وداخلية.
وفي جهد اكاديمي وعلمي شاق خاض الجابري في الاف الوقائق وطالع الافاً اخرى من الحقائق ليجمعها في بحث رصين صدر له بعنوان (العراق ..اول دولة في التاريخ – دراسة في جذور الدولة العراقية الحديثة).ويصح عد الكتاب بمثابة مكتبة قائمة بذاتها توثق كل ما يتصل باسم العراق ولفضه في التاريخ القديم ومميزاته في الموقع الجغرافي وتهيئة مستلزمات الدفاع عن كيانه، بوصفه اول دولة في التاريخ ، اكد الجابري في ثنايا الكتاب، انها وضعت اول قانون في التاريخ البشري وابتكار الكتابة وصنع العجلة ووضع سياقات التعايش والسلم المجتمعي.
اطروحات الدولة
ولاشك في ان الحديث عن العراق الحديث، لايكتمل الا في العودة الى اطروحات الدولة المدنية ، وقد افرد الجابري نحو 650 صفحة من جهده العلمي في استعراض تلك الطروحات منذ نوح حتى سومر ، ثم رسم تشكيلات ملامح الدولة العملاقة في العصر الاكدي ثم البابلي القديم والعصر الاشوري والكلدي، مرورا بالفتح الاسلامي العربي وانتهاء بالاحتلالات، المغولي والتركي والبريطاني، قبل ولادة الدولة العراقية ومقدماتها وتبلور الوعي الوطني بها وصياغة نظامها السياسي، قبل واثناء ، وبعد ثورة العشرين . ويؤكد المؤلف، وهو سياسي مستقل ان (دراسة تاريخ العراق مهمة لا غنى عنها للبشرية جمعاء ، وليس للعراقيين فحسب، ذلك انه تميز بسمات خاصة جعلت منه محورا للعالم القديم)، وظل هكذا متربعا على عرش الدولة بمعناها وتضاريسها، نظرا لما قدمه من منجزات وحقق للعالم من اثار.وميزة الرؤى التي قدمها هذا الكتاب ، انه ناقش فرضية الدولة العراقية المصطنعة ، عبر ثلاثة انواع مما اسماه السرديات السياسة الفكرية ونظيرتها الامريكية التي تبنى بعض باحثيها السردية السابقة.
واما السردية الثالثة فهي العراقية المغتربة، التي قال المؤلف ان عددا من الباحثين العراقيين المغتربين انصرفوا نحو تبني فرضية الدولة العراقية المصطنعة من زوايا عدة .
فيما عالج المؤلف هذه الفرضية عبر سردياتها، مجسدة بعدد من الاسئلة تمثل مشكلة البحث، على الهيكلية البحثية الاكاديمية. وقد اجاب عنها بطريقة علمية وموضوعية خالية من الانحياز والعاطفة متبعا المنهج التحليلي، مزاوجا اياه بالمنهج التاريخي، الذي يعتمد على عملية احياء الماضي عن طريق جمع الادلة والتعليق عليها وتقويمها ثم تمحيصها للخروج ببعض الاستنتاجات المحددة. وطبقا لهذه المنهجية فان المؤلف قسم الكتاب الى تسعة فصول مع مقدمة وخاتمة تخلص الى ان (الدولة العراقية الحديثة لم تكن دولة مصطنعة كما تزعم بعض السرديات الغربية او الشرقية، انما تحتسب حصيلة منطقية لتلك الحلقات المتتالية من الوقائع العراقية التي تفاعلت فيما بينها على مر السنين لتكوين الدولة العراقية الحديثة). ان ما يكسب هذا الانجاز العلمي البحثي، اهمية كونه جاء في ظل تداعيات سياسية وفكرية رافقت العملية السياسية بعد نيسان 2003 وكان فشل بعض معطياتها مسوغاً لرؤية متشائمة احادية الجانب ترى في الاخفاقات السياسية البنيوية ، عاملا لتهديد الدولة في الصميم وجرها نحو السقوط والانهيار وفقدان مقومات البقاء، وسط عالم يتشكل من جديد.
ولعل ابلغ وصف لجهد الجابري ، انه لم يكتف برد منطق وطعون المشككين بهوية العراق، حسب، بل ألقمهم حجرا، من ذلك النوع الصلب المنزوع من جبل اشم.