السردية الفلسطينية في مواجهة زيف الرواية الصهيونية
كيف نقاوم مشاعر الإحباط المتأتية عن سياسات الحكومات العربية المتخاذلة، وتسويق الاستسلام، تجاه قضايانا المصيرية، وأولها قضية فلسطين، وما يحيط بها من قبول بكل أشكال القمع والتطهير العرقي، بذريعة عدم القدرة على مواجهة القوة العسكرية؟
كيف نواجه حملة التطبيع مع كيان استعماري عنصري يستهين يوميا بكرامة شعب لأنه ليس يهوديا؟ كيف نواصل طريقا تُخفى فيه حقيقة السياسة الإسرائيلية العنصرية والممارسات اللاإنسانية ضد الفلسطينيين تحت ستار من الأكاذيب والتلفيق ونشر حقيقة بديلة لتضليل الناس؟ هل بإمكان تجديد اللغة والنظر، بشكل مختلف إلى هذه القضايا، من خلال الثقافة، بمستوياتها المتعددة، والتركيز على تقديم السردية الفلسطينية والتطوير المعرفي، أن تواجه قوة السلاح فعلا، ونحن نعيش حقبة عربية تتميز بالإنهاك الجماعي وعدم الاستقرار؟
« لتسويق الاستعمار الاستيطاني والقمع والفصل العنصري، كان على الصهيونية أن تخترع رواية جديدة – رواية كاذبة من شأنها تطبيع ما هو غير طبيعي، وإضفاء الشرعية على ما هو غير قانوني بشكل صارخ، وتبرير البغيض أخلاقياً. أدرك القادة الصهاينة في وقت مبكر أنه لم يكن كافيا كسب الصراعات العسكرية. كان عليهم، أيضًا، كسب صراع الروايات (السرديات) التي أثبتت في الماضي أن لها تأثيرًا أكبر على مسار التاريخ البشري».
لخصت د. ريما خلف في كلمتها، كضيفة شرف في احتفالية جائزة كتاب فلسطين، للعام الماضي، مدى اهتمام الحركة الصهيونية بتصوير تاريخ «غزو فلسطين كحرب عادلة لاستعادة ما هو ملكهم» مستخدمة عديد الأساليب ومن بينها رصد كل ما يكتب عن السردية الصهيونية وفرض الرقابة ومنع نشر كل على ما يخالف أو يشكك بها. وذلك لديمومة روايتها عن شرعية الغزو والاحتلال و«لتجميل ما سيبدو قبيحًا ومروعًا تحت أي ظرف آخر». وكانت د. ريما قد استقالت من منصبها كوكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للإسكوا، عام 2017 عندما رفضت سحب تقرير للإسكوا استنتج بناء على أدلة قاطعة أن الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني تصل إلى حد جريمة الفصل العنصري (الأبارتهايد).
يطرح توضيح الاهتمام الصهيوني بالسردية كسلاح ضروري في بناء دولة إسرائيل، وتقبّل الغرب النكبة باعتبارها «حرب استقلال» ضد العدوان العربي، سؤالا عن سبب عدم ابداء الاهتمام ذاته من قبل الفلسطينيين أنفسهم. يقول المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة، في كلمة نُشرت في « كتابة فلسطين»: « في أول 16 سنة بعد نكبة 1948، لم يكن لدى الفلسطينيين وقت كاف لتسجيل مأساتهم. عندما يحترق منزلك، ليس لديك وقت لالتقاط صوره. لأنك مشغول بإخماد الحريق أولاً. كانت هناك بعض التقارير الصحافية لتي وصفت تجربتهم أثناء الطرد لكنها كانت لحظية ووصفية». إلا أن الوضع تغير بعد تأسيس مركز الدراسات الفلسطينية. وبدأت سيرورة توثيق الحقائق وتسجيل أصوات الضحايا ونقلها الى العالم الخارجي وأن ببطء شديد.
يبدو ميزان القوى منحرفًا بشكل فادح، عندما تسارع العديد من الدول العربية إلى تطبيع ما هو غير طبيعي، وقبول ما هو غير مقبول، والتصالح مع أعنف انتهاك لكرامة الإنسان والمساواة
من بين ما نُشر لأول مرة وصف مروان اليحيى، وكان طفلا آنذاك، مذبحة طنطورة والفترة التي قضاها في معسكر للعمل القسري، يديره يهود ألمان. وهي حقيقة لم يعرفها الكثيرون «فقط في عام 2014، نشرت مجلة الدراسات الفلسطينية تقريرا بحثيا حول الموضوع، استنادًا إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر وشهادة 24 ناجيًا» حسب أبو ستة. الذي يخلص إلى أن « الحقيقة هي حجر الزاوية المفقود للعدالة. الحقيقة هي الضحية الأولى للصهيونية. لجلب الحقيقة إلى العلن تربح الحرب من أجل العدالة».
إلا أن الكتابات والأبحاث الفلسطينية، على تزايدها، بقيت محدودة في مخاطبتها الجمهور الغربي واستقطاب الاهتمام وبالتالي التضامن العالمي، ربما لأن نشرها إقتصر على اللغة العربية بالإضافة إلى استيلاء إسرائيل على الوثائق الفلسطينية. على الرغم من ذلك، شهد العقدان الأخيران، تغيرا ملحوظا، حين تمكن الجيل الجديد من الفلسطينيين، من تعزيز مكانتهم في كافة حقول الإنتاج المعرفي والبحوث والنشاطات الثقافية الفنية والأدبية، وتمكنهم من لغات أخرى، خاصة الإنكليزية، لمخاطبة العالم، بشكل مباشر، لدحض السردية الصهيونية وكشف شبكة خدعها وأكاذيبها حول إسرائيل، وتقديمها كما هي: كيان استعماري، إستيطاني، مبني على التمييز العنصري والتطهير العرقي. فمن الندوات الى المعارض الفنية ومهرجانات السينما ومن المؤتمرات الأكاديمية إلى الاعتصامات والمظاهرات بالتعاون مع المجتمعات التي يعيشون فيها، نجح الجيل الجديد في إضاءة ما كانت الحركة الصهيونية تبذل أقصى جهدها لطمسه عن فلسطين التاريخية وشعبها. وكان تأسيس جائزة كتاب فلسطين لأفضل كتاب باللغة الانكليزية، وإحتفالية مرور عشر سنوات على تأسيسها، خطوة تلاحمت مع بقية النشاطات، لتغطي كل ما هو فلسطيني ويحتويه كتاب ثقافيا وحضاريا ومعرفيا.
هذه النشاطات التضامنية بجوانبها المتعددة مكملة لحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ألتي يقودها الفلسطينيون من أجل الحرية والعدالة والمساواة وتركز، أيضا، على حق العودة. وهي الآن حركة عالمية تضم نقابات وجمعيات أكاديمية وكنائس وحركات الشعبية في جميع أنحاء العالم. بات لها، منذ إطلاقها في عام 2005، تأثير كبير، متحدية بشكل فعال الدعم الدولي للفصل العنصري الإسرائيلي والاستعمار الاستيطاني. ونجحت في إحراز نجاحات تضامنية عالمية دفعت الكيان الصهيوني إلى اعتبارها منظمة إرهابية تهدد أمنها الوطني.
لا أحد يدّعي أن هذه النجاحات ستؤدي إلى إحداث تغيير نهائي حاسم لصالح الشعب الفلسطيني، إلا أنها خطوات نوعية « في هذه الأوقات الصعبة حيث يبدو ميزان القوى منحرفًا بشكل فادح، عندما تسارع العديد من الدول العربية إلى تطبيع ما هو غير طبيعي، وقبول ما هو غير مقبول، والتصالح مع أعنف انتهاك لكرامة الإنسان والمساواة» بكلمات ريما خلف.